اليوم الأخير في القاهرة…/ إياد برغوثي

“مسافر لفين حضرتك؟”، “تل أبيب” أجبته، “ما فيش دلوقتي طيران لتل أبيب، بكرا بنفس الساعة”، “متأكد؟” سألت مصدومًا، “جرالك إيه؟ افحص بطاقة السفر”، أخرجتها ملخومًا، يا ويلي، معه حق.

اليوم الأخير في القاهرة…/ إياد برغوثي

"ميدان التحرير يا باشا!"

|إياد برغوثي|

صيف 2003

عندما وصلت إلى مطار القاهرة، عند الرابعة والنصف صباحًا، مستقلاً سيارة أجرة مرسيدس سوداء فاخرة، أعطيت السائق آخر مئة جنيه في جيبي، “لن أحتاجها قلت لنفسي”، أخرجت الحقيبة وجررتها ورائي مستغربًا ليقظتي المفاجئة في هذه الساعة المبكرة، عند الباب أوقفني حارس ذو ملامح حادة وسألني “مسافر لفين حضرتك؟”، “تل أبيب” أجبته، “ما فيش دلوقتي طيران لتل أبيب، بكرا بنفس الساعة”، “متأكد؟” سألت مصدومًا، “جرالك إيه؟ افحص بطاقة السفر”، أخرجتها ملخومًا، يا ويلي، معه حق.

 ”بكام؟”، سألت، “2 جنيه يا باشا”، أجاب، ففكرت في نفسي “باشا؟! مقحّط تقحيطة العمى وبقولي باشا!”

جلست على رصيف المطار، وحيدًا مع حقيبتي، كان كلّ المشاركين في المخيم قد عادوا في الحافلات قبل يومين، أما أنا وبسبب العملية التي أجريتها في ظهري فقد فضّلت أن أعود في الطائرة. كانا يومان ممتعان تجولت فيهما في مصر القديمة، زرت الأزهر وخان الخليلي، ووسط البلد وشارع الدول العربية، “نيّزت حالي” باختصار، حتى اختلطت عليّ الأيام.

ماذا سأفعل؟ هل سأبقى على هذا الرصيف البارد؟ اتصلت بالفندق الذي ملأت الوفود السياحية الواصلة للتو بهوَه، طلبت أن أمدّد، فكان رفض موظف الاستقبال حاسمًا.

فتّشت في جيوبي، وجدت 20 جنيه لا غير، نظرت إلى الساعة، ما زالت الخامسة إلا ربع، والشمس لم تشرق بعد، بدأ رجال الأمن ينظرون إلي ويحومون حولي، خفت فمشيت نحو مصف الباصات، جلست على مقعد حديدي صدئ ألعن حظي وعدم انتباهي، وألوم نفسي. ماذا سأفعل بحق السماء؟!

عند السادسة، سمعت نداءً “ميدان التحرير!”، ركضت نحو الرجل الستيني ذو الصوت العالي، “بكام؟”، سألت، “2 جنيه يا باشا”، أجاب، ففكرت في نفسي “باشا؟! مقحّط تقحيطة العمى وبقولي باشا!”، صعدت إلى الحافلة، نزلت عند الميدان، اشتريت صحيفة وفصفصتها. أذكر أن سائحًا يابانيًا وقف بقربي كان يحمل منفضة نحاسية صغيرة ينفض فيها رماد سيجارته وريح الصباح تطيّر من حول قدميه أوساخ ليل المدينة.

هل قلت "صعدت إلى الحافلة"؟

انتظرت موعد افتتاح مقر الشركة التي تعلّم فيها الطلاب الذين رافقتهم برمجيات الحاسوب، لقد تصادقت مع الموظفين هناك، مع  المهندسين أحمد وجرجس خصوصًا، والسكرتيرة اللطيفة التي نسيت اسمها، مشيت فآلمني ظهري من كثر المشي. وصلت إلى المكاتب في وسط وسط البلد، تفاجئوا بدخولي وتجمعوا حولي مخففين من كربي. قضيت معهم النهار، وأرجأت الأسئلة حول الليل.

عند الظهيرة، نادت علي السكرتيرة، لا زلت أذكر ابتسامتها الصادقة ووجها المشع في إطار الحجاب الملوّن، كانت يدها اليسرى تتكئ على “الكاونتر” الخشبي، “خد بالك من نفسك يا أستاذ إياد!”، مدّت نحوي مغلفًا عليه شارة الجمعية التي أتطوع فيها اختبأ تحت يدها، أطرقت بعينيها وركضت نحو درج البناية.

فتحت المغلّف فإذ هو المكافأة التي قدّمتها لها مديرة الجمعية قبل يومين، فيه مبلغ مئتي جنيه، أقل بقليل من أجرها الشهري، ذهبت نحو الدرج وكانت قد اختفت!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>