تعدد الزوجات والخروج عن الصمت

المراة تثمَّن بطولها ووزنها ولونها وعمرها، كما يُثمن الرجل بامتلاء جيوبه، ويثمن أيضًا بالسنوات، ولكن ليس بسنة ولادته وإنما سنة إنتاج سيارته؛ فالعمر لا يقلل من ثمن الرجل بينما قد ترفع من ثمنه سنة إنتاج سيارته

تعدد الزوجات والخروج عن الصمت

كاريكاتير تعدد الزوجات

|عرين هواري|

عرين هواري

عرين هواري

يسألنا البعض عندما نقول موقفنا من تعدد الزوجات: لماذا توجهن اتهاماتكن ونقدكن للرجال فقط؟ فعندما يتزوج الرجل ثانية، إنما يتزوج من امرأة أخرى وليس من رجل، فهي إذًا -أي المرأة الثانية- اختارت الزواج برجل متزوج، لماذا إذًا لا تحمِّلنها المسؤولية وتقتصر اتهاماتكن على الرجل؟

نعم، حين يتزوج الرجل فهو يختار امراة، وهي توافق على طلب الزواج، ولكنني أسأل هنا، من دون أن أعفي الزوجة الثانية من مسؤوليتها عن الظلم الواقع في موضوع تعدّد زوجات: هل هي اختارت حقًا؟ تعني كلمة “اختيار” انتقاء الأفضل من بين عدة إمكانيات، فهل توفرت لها أصلا إمكانيات كثيرة أو قليلة لتختار؟ الجواب برأيي لا. أعتمد في اجابتي على الكثير من القصص التي نسمعها من النساء خلال عملنا معهن، ولكن ادعِّم انطباعي الأول بنتائج البحث النوعي الذي أجرته الباحثة رهام أبو العسل لصالح لجنة العمل للمساواة في قضايا الأحوال الشخصية، تحت عنوان: “تعدد الزوجات: الخطاب والممارسة في المجتمع الفلسطيني”.

أُجريت خلال البحث  مقابلات مع مجموعة من الزوجات اللواتي اخترن الزواج من رجل متزوج، للاستماع إلى رواياتهن حول الاسباب التي عزت بهن إلى القيام بهذا “الاختيار” وللتعرف أيضا على ظروف حياتهن في ظلّ زوجية كهذه.  أجمعت النساء اللواتي أجرت معهن الباحثة مقابلات مطوَّلة، على أنّ ذلك الزواج لم يكن اختيارًا بالمفهوم الحقيقيّ لكلمة اختيار، لقد كان ملجأ أحيانا وهروباً من واقع في أحيانٍ أخرى؛ كان إما تعويضاً عن ظلم أسرة وإما فِراراً من قسوة مجتمع. إنّ الكلمات لجوء وفرار وهروب غير مأخوذة من قاموس الحب والعاطفة والزواج، وإنما من قاموس الحروبات والنكبات؛ فالناس تهرب وتلجأ عند المصائب. في مجتمعاتنا العربية تعيش نسب عالية من النساء العزباوات أو المطلقات في ضمن واقع شبيه. فهنّ لا يعشن بالضرورة عنفا على أجسادهن، وإنما سيطرة عليها وعلى نفوسهنّ أيضًا وأحيانا انتهاكا لكراماتهنّ، وفي مرات كثيرة يعانين عنفًا اقتصاديًا، فما أكثر ما تعاني المرأة العزباء من سيطرة على دخلها وأموالها، بينما تعيش نسب كبيرة من النساء المطلقات حياة  فقر وقلة موارد.

كشف البحث المشار إليه أعلاه عن ثلاثة أسباب لقبول النساء بالزواج من رجل متزوج: أولها الخلاص من السلطة الأبوية والحاجة إلى الحبّ (لا تقتصر السلطة الابوية على سلطة الأب البيولوجي فقط وإنما تتسع لتشمل أيضًا سلطة الذكور من الأخوة، وأحيانا الأعمام أو أبناءهم، وقد تعني أيضا سلطة القيم الرجولية في المجتمع)؛ أما السبب الثاني للقبول  فهو حاجة المرأة للزواج بغضّ النظر عن صفات الرجل وميزاته، كما وصفت إحدى النساء قائلة ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة، لكونه الخيار الوحيد في ظلّ وجودها من دون عمل ومن دون تعليم، وحيث تتعامل معها العائلة كعبء ماديّ واجتماعيّ. الزواج في هذه الحالة يكسبها مكانة وكذلك يضمن معيشتها، بينما يشير السبب الثالث إلى خيار المرأة المطلقة استبدال حياة العنف والقسوة من الزوج الأول الشاب برجل مُسنًّ ومتزوج لكنه يكنّ لها احترامًا. كما أشير خلال تفصيل هذه الأسباب أيضًا إلى احتياجات النساء لممارسة الأمومة وكذلك إلى حياة جنسية، وهذه احتياجات لا يمكنك تلبيتها من دون إطار زواج.

يشير استعراض الأسباب إلى أنّ حالات الزواج هذه لم تكن خيارًا طبيعيًا لامرأة تبحث عن استقرار ورفاهية وعلاقة عاطفية وأسرية سليمة، وإنما هي –أحيانا- محاولات لاسترجاع كرامة منتهكة؛ فعادة يُنظر إلى وجود الفتاة العزباء في البيت كثقل وعبء، وتتطوّع كل نساء العائلة للبحث عن عريس لها، وكأنّ وجودها في بيت أهلها بعد جيل معين ليس بالأمر الطبيعيّ. كما يُنظر إلى الفتاة غير العاملة كعبء، أما إذا كانت عاملة فلا يحق لها في كثير من الأحيان السيطرة على أموالها أو التصرّف بها، فعليها واجب -معلن أحيانا ومفهوم ضمنا في أحيان أخرى- المساعدة في مصاريف العائلة، ولا سيما مصاريف الأخوة الذكور وأبنائهم، بالإضافة إلى مصاريفها الشخصية. ولو قرّرت السكن وحدها والاستقلال، فاختيارها هذا مَدعاة لحرج للأهل في أفضل الحالات، وعليهم تبرير ذلك الاستقلال باحتياجات العمل أو التعليم، وفي أسوأ الحالات ينظر لخيارها هذا على أنه تهديد على “شرف” العائلة التي لا يتم لها رعاية “شرفها” إلا بتزويج تلك المرأة أو إعادتها إلى البيت.

هي ضحية أيضا لمفاهيم اجتماعية، تكرسها أحيانا النساء قبل الرجال، والتي تربط عملية الزواج بعمليات البيع والشراء. فللمرأة ثمن، وللرجل ثمن في هذا السّوق، والمعياران اللذان يُثمَّن بهما كلٌ من المرأة والرجل مختلفان. فالمراة تثمَّن بطولها ووزنها ولونها وعمرها، كما يُثمن الرجل بامتلاء جيوبه، ويثمن أيضًا بالسنوات، ولكن ليس بسنة ولادته وإنما سنة إنتاج سيارته؛ فالعمر لا يقلل من ثمن الرجل بينما قد ترفع من ثمنه سنة إنتاج سيارته. في سوق كهذا يتم النظر للمرأة وللرجل كسلع، ولكن ثمن السلعة المسماة رجلاً قابل للزيادة مع العمر والعمل والاجتهاد، وأما ثمن المرأة فهو يبدأ من أعلى ثمن حين تكون الفتاة ابنة الثامنة عشرة عامًا لينقص مع ارتفاع العمر، مما يجعل الزواج مشروعًا تجاريًا، ويصعب على الكثير من النساء إيجاد شريك مناسب، الأمر الذي يزيد من ظاهرة الزواج المبكر.

الكلام أعلاه لا يجعلني أرى النساء اللواتي يدخلن في اطار زواج تعددي غيرَ مسؤولاتٍ، فبرأيي ثمة دائمًا خيار أفضل بكثير من ظلم امرأة أخرى وأولاد آخرين. ثمة دائما خيار أفضل من الرضا بـ”نصف حياة زوجية” أو “زوج بالتناوب”. ولكن في سياق كهذا تختلف مسؤولية المرأة المستضعفة عن مسؤولية الرجل صاحب القرار الحرّ وصاحب الإمكانيات- فمسؤوليته أضعاف مسؤوليتها.

برأيي من المهم جدا تكثيف العمل النسوي على تمكين النساء ومساعدتهن في فتح الخيارات، رغم معرفتنا جميعا أنه بالإضافة للثقافة الذكورية ثمة أيضًا واقع اقتصاديّ تعيشه النساء، تتحمل مسؤوليته سياسات الافقار والعنف الاقتصادي التي تتبعها حكومات إسرائيل، والتي تدفع النساء فيها أثمانًا أعلى حيث تعلو نسبة الفقر عند النساء بكثير عن تلك الموجودة عند الرجال، مما يجعل “خيارات” النساء قاسية جدا.

رغم أهمية تناول كافة الأطراف المسؤولة عن ظاهرة تعدد الزوجات إلا أنني أختار التوجه في هذا المقال إلى الشريحة الأكثر مسؤولية: المجتمع؛ فهو الذي ينتج القيم وهو الذي يحدّد الصحيح والمقبول والمستحبّ والمستنكر، وهو الذي يحضن هذه العلاقات، وهو الذي من شأنه أن يشجّعها أو أن يستنكرها. حين يجد الرجال الذين ينوون الزواج بامرأة ثانية أو ثالثة، أنّ سلوكهم مستهجن يتوقّفون عن هذه الممارسات، ولكن عندما يجدون أنّ سلوكهم مقبول يستمرّون. في حالات كثيرة تم الزواج بتشجيع من الآخرين، وبالإشارة إليه كموقف رجوليّ، وهذا ما قالته الكثير من النساء في البحث: “كان أصحابه يقولون له يعني إذا إنت  زلمة تجوز ثانية…  وإذا إنت مش قادر تتجوز معناته إنك محكوم لمرتك”.

لا يمكن القول إنّ كل أفراد المجتمع يشجعون هذا الزواج، فهناك قلة قليلة تشجع وهناك قلة قليلة تستنكر ولكن الغالبية العظمى من أفراد المجتمع صامتون؛ فهم يصمتون في حالات الظلم ويعتبرون هذا الزواج شأنا داخليا، علمًا بأنّ غالبية أفراد المجتمع تختار متى تتدخل ومتى لا تتدخل. فعندما تنتهك حقوق النساء نرى المجتمع صامتًا معتبرًا كلّ سلوك ضد المرأة شأنا داخليا، وأما عندما تمارس المرأة حقوقها الطبيعية بالعمل والسفر والسكن حيث تختار، يتمّ التعامل مع الموضوع كشأن عامّ، ويتمّ التداول في حياة وخصوصيات المرأة على الملأ، ناهيكم عن اختلاق القصص التي تتناسب ورغبة المتحدث والسّامع، والتي تغذي حاجتيهما في نسج قصص جنسية لا مكان لها إلا في خيال كليهما.

نقوم مؤخرا في لجنة العمل للمساواة بقضايا الأحوال الشخصية بحملة تهدف إلى تجنيد أصحاب المسؤولية في مجتمعنا للعمل على الحدّ من الظاهرة وانتشارها. تتوجّه هذه الحملة بشكل خاص إلى الشريحة الصامتة في مجتمعنا عن هذه الممارسة. آمل أن تلقى الحملة آذانا صاغية ومتحمسة من المهنيين والنشيطين والقيادات  للعب دور لوقف هذه المظاهر من الظلم. ولكن أوجه مقولتي بالأساس إلى أفراد المجتمع من أخوان وجيران وأصدقاء وأقرباء وجارات وخالات وعمّات، بأن يخرجوا عن صمتهم وبألا يساهموا في الظلم وبأن يدافعوا عن النساء حين تظلم وعن حقوقهن حين تُنتهك.

(مركّزة مشروع الإعلام- جمعية السوار؛ عضوة لجنة العمل للمساواة بقضايا الأحوال الشخصية)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. دام قلمك يا عرين!
    بتأمل انه فعلا هالحكي يوصل للناس اللي لازم تسمعه.

  2. المشكلة أن العمر بالنسبة لنا كنساء خسارة، وليس مكسب. نحن ليس فقط نعامل كسلع، إنما فعلاً أصبحنا نشعر أننا لسنا بشراً، لقد تشربنا أفكار المجتمع الظالمة في لاوعينا، فتجدين أن المرأة نفسها.. تخاف كلما تقدمت في العمر. الخوف والجبن يدفعنا للقيام بأتفه الخيارات على حساب ذواتنا ومشاعرنا، ربما لأننا لسنا متأكدين فيمَ إذا كان لنا الحق بأن نشعر!. نعم يا عزيزتي الكاتبة.. نحن لا نملك هوية واضحة عن ذاتنا، ولا نعرف حقوقنا، ولا نعرف واجباتنا تجاه أنفسنا، نحن نساعد هذا المجتمع عندما نصمت. ونساعده أكثر عندما نقدم على خيارات غبية بدافع الهروب أو القلق والخوف. المرأة الفلسطينية كشأن المرأة العربية ضعيفة وجاهلة حتى إن حملت أعلى الشهادات.
    لقد تشربت سم التبعية والعبودية حتى النخاع، نحن بحاجة إلى كثير من التنوير لإخراج المرأة من عتمتها الفكرية، لكي يصبح لديها وعي فكري مستنير ومضيء وقويّ.

    ولكن أهم شيء في نظري، هو أن تتقبل المرأةالخسارة. أن تكون مستعدة لأن تخسر أشياء كثيرة في مقابل أن تحصل على حريتها.. دون خوف.

    شكراً لقلمك ..
    احترامي وتقديري،

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>