رسائل اسكندارنية/ مريم فرح

فيلم “رسائل بحر” الجدير بالمشاهدة، ينطق بلغة سينمائية غير معهودة مصريًا، ويصوّر إسكندريّة مختلفة، حين يروح في رحلة بحث عن هويّتها الراهنة عبر شخصياته؛ رحلة بحث عن الزمان في تفاصيل المكان

رسائل اسكندارنية/ مريم فرح


|مريم فرح|

“رسائل البحر” (مصر 2010)، للمخرج داوود عبد السيد هو برأيي من أفضل الأفلام المصرية التي أنتجت مؤخرًا. داوود عبد السيد (مخرج “الكيت كات” و”أرض الخوف”) يعيد هنا اكتشاف مدينة الإسكندرية. مدينة تختلف بجماليتها ومضمونها عن الاسكندرية التي عرفناها من يوسف شاهين في ثلاثيته (“اسكندرية ليه”، “اسكندرية كمان وكمان” و”اسكندرية نيويورك”).

تدور حكاية “رسائل البحر” حول شخصية يحيى التي يؤديها الممثل المميز آسر ياسين، حيث كان الفنان الراحل أحمد زكي قد رُشّح لهذا الدور قبل أن يغيب عنّا. يحيى شاب في العشرينيات من عمره، يعاني تأتأة وعسرًا في الكلام. يتخرّج من كليّة الطب لكنّه يترك المهنة، ويعود بعد وفاة والده إلى مدينة الإسكندرية، ومن هناك تبدأ القصة، حيث يشعر لدى وصولة إلى بيته القديم في مدينة الإسكندرية “نداءً” من البحر. يقرر أن يعمل صيّادًا وأن يعيش حياة تقشف، محاولاً استرجاع حبٍ قديم جمعه بفتاة إيطالية اسمها كارلا (سامية أسعد)، ليكتشف فيما بعد أن كارلا أصبحت مثلية الجنس.

الفيلم يدور حول يحيى وشخصيته المركبّة والمميزة التي يصورها عبد السيد بواسطة عشقه للموسيقى. فنراه في مشاهد عديدة يقف بجانب إحدى الفيلات الاسكندارنية ليستمع إلى شخص مجهول يعزف على البيانو مقطوعات للموسيقار البولندي-الفرنسي شوبان.

يلتقي يحيى في إحدى الليالي الماطرة بنورا (بسمة). يمشيان معًا تحت مظلة واحدة ومن تلك اللحظة تبدأ قصة حب جميلة ومؤلمة. يظن يحيى أن عشيقته مومس، ولكنه يواصل الطريق في تلك العلاقة الشائكة. وهنا تكمن إحدى النقاط العميقة في الفيلم، حيث يناقش عبد السيد بطريقة مميزة قضية علاقة المرأة بجسدها في مجتمع ذكوري ورأسمالي. وتظلّ من وراء نورا قصة أخرى، مكتومة. لكن من خلال تلك القصة يُظهر عبد السيد رؤية أخرى عن الزواج واحتكار الجسد، وأنه في حالات زواج عديدة، وفي قصة نورا أيضًا، وحتى لو كان “شرعيًا”، تشعر المرأة وكأنها مومس.

أفيش "رسائل البحر"

من حيث المكان، يعكس لنا عبد السيد الواقع الجديد لمدينة الاسكندرية التي أخذت تفقد شيئا فشيئًا من طابعها الكوزموبوليتي. فيستحضر المخرج “نوسطالجيا” المدينة من خلال التفاصيل الصغيرة التي نشاهدها في الفيلم كالمطبخ الاسكندارني المتميز، المباني القديمة، الموسيقى الكلاسيكية واللهجة الاسكندرانية المختلفة عن لهجة القاهرة.

من حيث الزمان، يسرد الفيلم تاريخ المدينة الساحلية عبر الشخصيات المختلفة مثل: يحيى، كارلا، مامينا- فرنشيسكا، قابيل، نورا وغيرهم. لكلّ شخصية قصة خاصة مع المدينة وبحرها ترويها الكاميرا بهدوء. في الوقت نفسه، فإنّ رحلة الشخصيات كلها تسير نحو البحث عن الهوية والذاكرة المفقودة في متاعب الحياة وروتينها الشاقّ. وتلي هذه الرحلة محاولة للاتصال والتصالح مع الماضي المبعثر في الأماكن المختلفة في المدينة. بحث عن الزمان في تفاصيل المكان.

“رسائل البحر” صنفته الرقابة في مصر -قبل الثورة – كفيلم لـ “الكبار فقط”، بحجة أنه “وقع في فخ أفلام الجنس”، لكن الفيلم وقع ضحية قناة روتانا سينما (الخليجية) التي تمتلك قواعد ذاتية في الرقابة، حيث حذفت منه مشاهد عديدة أدَّت إلى تشويه عناصر أساسية في دراما الفيلم. ولكن الفيلم نجا وبقي سالمًا في بعض مواقع الانترنت.

“رسائل البحر” فيلم يستحق المشاهدة. لقد وصل إلى لائحة الأفلام الأجنبية التسعة في مسابقة الأوسكار لعام 2011، لكنة لم ينجح في الوصول إلى لائحة الأفلام الخمسة الأخيرة. كما عُرض في السوق التجارية لمهرجان “كان” السينمائي في دورته الثالثة والستين وشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان “تاورمينا” الإيطالي. ميزته تكمن في أنه يحمل لغة سينمائية جديدة غير التي اعتدناها في السينما المصرية.


إخراج وتأليف: داوود عبد السيد؛ تمثيل: آسر ياسين، بسمة، محمد لطفي، مي كساب، صلاح عبدالله، نبيهة لطفي؛  موسيقى: راجح داوود


وحده “رسائل البحر” أنصف المثلية في السينما


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. مريم يعطيكي العافية
    تحليل سياسي اجتماعي اقتصادي جميل لفيلم رائع واود ان اضيف تحليل اخر-تحليل نفسي
    ان الرسالة التي قذفها البحر وحاول يحيى واصدقاءه جاهدين فك طلاسمها ولم يستطيعون في النهاية ما هي الا الحياة بنظري. الحياة هي “هدية” بمحتوياتها ومعطياتها (الجنس القومية الطبقة اللون الصحة الموهبة القدرات العقلية…) وبالاخر المهم هو ما هي التفسير الذي نعطيه نحن وليس المعطيات نفسها. لن نستطيع “فهم” لماذا انا بالذات تلقيت هذه الحمولة ولكن تستطيع ان تتعايش وتبني حياتك بطريقتك. يعني مش مهم بشو اجيت على الدنيا المهم كيف بتعيشها وكيف تبني وتعطي معنى لحياتك
    برآيي فيلم علاجي ايضا
    ايناس

  2. الفيلم جميل .. لكن كنت اتوقع من الكاتبة أن تتعمق أكثر في الحبكة والصراع والمعاني الخفية .. ليس فقط سرد أحداث وتفاصيل الفيلم بشكل عام
    أرجو للمرات القادمة إلى الأمام

  3. مقال جيد وسينما نتمنى مشاهدة المزيد منها وبسمة في افضل ادوارها

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>