من أمام الكواليس…/ تمارا ناصر

علمني قسوته وعلمته قسوتي، وكدنا يوما أن نلقن بعضنا البعض درسا في القُبل والتقبيل لولا صوت امي يرعد من الشباك

من أمام الكواليس…/ تمارا ناصر

من مجموعة "وداع جُنديّ" لألفريد أيزنستادت، 1943.

|تمارا ناصر|

استأصلتُ نفسي ذلك الصباح الصيفي الأخضر، من “عجقة” وجلبة ماكينة تل ابيب، وزرعتها، في غضون ساعتين، بأحضان تلال القرية شماليّ البلاد. فبينما تنصب المدينة اعلام اسرائيل احتفاءً باستقلالها في كل شارع وحي، تتقلص مساحتي، وتنضبّ رايات حُريتي الوهمية، فأعود مقلوعة إلى هوامش الكون.. وهل من احد هناك ليتلقفني؟

اعرف ان عماد لن يصحو ابدا كي يرى ما اكتب عنه الآن، أو ما قلت عنه يوما.

يكبرني عماد بسنتين، ولم ينزح إلى تل ابيب كي يتلقى تعليمًا أكاديميًا مبجلًا وإنما استجذر في القرية، ويعمل نادلًا في مطعم عند “الموشاف” المجاور. ترعرعنا و”تعرعرنا” سوية، فهو ابن الجيران المشاكس الذي لا يعجب أمي ولا أبي البتة (صحيح حتى هذه اللحظة). كعادتنا نلتقي بين اشجار الزيتون في الأرض البعيدة عن الأنظار، إنما قريبة كفاية حتى اسمع صوت امي صارخا اسمي من الشباك.

علّمني عماد كيف اتسلق الاشجار وكيف اسرق ثمار جيراننا دون تردد، علّمني البصق بعد ركلة كرة ناجحة في مرمى العدو، حتى كادت أمي تفقد صوابها يومًا: “ولك مالك هيك بتبزقي شمال يمين زي اللاما؟” وأنا بدوري ساعدته في دروسه وتحديدا في اللغة الانجليزية، اخترت له كتبا بوليسية مصرية على امل ان يستمتع في القراءة. علمني قسوته وعلمته قسوتي، وكدنا يوما أن نلقن بعضنا البعض درسا في القُبل والتقبيل لولا صوت امي الذي أرعد من الشباك.

من فيلم "طفولة إيفان" لآندري تاركوفسكي

لم يحتضن عماد الكتب كما تمنيت أن يفعل، كان يجلس يوما في الاستراحة يقرأ الكتاب الاخير الذي اقترحت عليه قراءته فتقدم منه ياسر، قائد شلتهم، مستهزئا ” لا! والله مثقف! شو صاير هومو؟” وهكذا قاوم عماد الكتب، فهو لا يريد ان يكون مثقفا وحتما لا يريد أن يكون “هومو”..

كان يقول لي، عندما نلتقي بين الاشجار بعد انتهاء دوام المدرسة، انه يكره المدرسة ومن فيها؛ يكره العبرية والانجليزية ويكره المعلمين والمعلمات والطلاب و.. انتظرت وقتها ليكمل جملته ويقول “الطالبات”، لكن فكرةً استوقفته فأخرج من جيبه صورة فتاة وقال: “كيف محلاها؟ اصغر مني بسنة،  بالحدعش (ب)…” تمعنتُ فستانها الوردي فكرر سؤاله:” صح حلوة؟”

وقبل ان استطيع الاجابة سمعت صوت أمي يناديني عبر الشباك..

مرت الأيام والأسابيع ونحن نكبر بعدًا وافتراقًا، عندما تخرجتُ من المدرسة، طرحت عليه فكرة التعليم خارج البلاد، فقال: “أنت أصلا بس لازم تطلعي برّا، فش أشي هون إلك.. أنت هيك هيك بتكرهي الدولة واللي فيها”، سألته انا حينها:”أنت يعني بتكرههاش؟” أجابني:” أنا بكرههاش زي كيف أنت بتكرهيها” .. فكاد قلبي ينكسر..

 

صرنا نلتقي مرة كل شهرين أو ثلاثة، فلم يعد هناك ما يجمعنا، سوى الذكريات التي اعتقدت مرة بأنها كانت جميلة. يقف بصمت ويشعل سيجارته، أقف أنا مقابله، أداعب التربة بقدمي واركل الحجارة الموجودة بين رجلي..

- “شو، بعدِك بتحبّي تلبّطي؟”

- “سد نيعَك..”

ولم أره منذ ذلك اليوم، لم نتحدث ولم يحاول الاتصال بي قط. ظلت تصلني أخباره، وانقبض قلبي عندما اكتشفت انه متورط بالعالم السفلي. حاولت الاتصال به يومًا، لكن لم يكن رقمه هذا متوفرًا. اصحو في كل صباح متمنيةً ألا اجد صورته في احد المواقع العربية تنعى موته. واعرف ان عماد لن يصحو ابدا كي يرى ما اكتب عنه الآن، أو ما قلت عنه يوما.

وصلتني رسالة خليويّة خارجة عن مفاهيم الزمن ومعايير الوقت: “بنفع اشوفك؟” من عماد. والأغرب انني فقدت انا أيضا مفاهيمي للزمن والمحيط، لم اكترث لحقيقة وجودي في وسط جامعة تل ابيب، بجدول تعليمي مكثف، وان أكثر من ساعتين ستأخذني كي أصل القرية.

بعثت له “لاقيني ورا الدار بعد ساعتين”… فاستأصلتُ نفسي ذلك الصباح، من بين “عجقة” وجلبة ماكينة تل ابيب، وزرعتها، في غضون ساعتين، بأحضان تلال القرية شماليّ البلاد. فبينما تنصب المدينة اعلام اسرائيل احتفاء باستقلالها في كل شارع وحي، تتقلص مساحتي، وتنضبّ رايات حُريتي الوهمية، فأعود مقلوعة إلى هوامش الكون.. وهل من أحد هناك ليتلقفني؟

كان ينتظر. تقدمت إليه ببطء، فوجدته شخصا آخر، يفقد كليا ملامحه الطفولية التي كنت استمتع برؤيتها.. ضمني إليه، شعرت أنني بين احضان شخص ليس على قيد الحياة، بين أحضان شبح يرغب بتوضيح رسالته.

- كيفك؟ تمارا.. متغيّرة شوي صح؟

- يمكن.. أنت كتير متغيّر..

- تمارا، بدي أقول لك اشي، وأنت اول واحدة بهمني انك تعرفي.. انا قررت افوت ع الجيش.

نظرت إليه مطولا، أتفحص ملامح وجهه باحثة عن طفولتنا، أدركت ان الأوان قد فات واني لن انطق بشيء. استرجعتْ مخيلتي فيلما فرنسيا شاهدته قبل أيام، يروي قصة جنود فرنسيين وسط  ارض معركة دامية، لكن لا يرى المشاهد المعركة ولا يرى عدو هؤلاء الجنود، لان الجنود نفسهم لا يعون كيف وصلوا إلى هذه الحالة، الحرب كانت في الـ”off screen”  وهكذا كان باقي العالم بالنسبة لعلاقتنا، دائما في الـ “off screen”.

عرفت انني سأقترب منه وأضمه وأتمنى لو يأتي صوت امي صارخا هامسا اسمي من عند شباك منزلنا في القرية.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. أدمنت أسلوبك،
    اكتبي أكثر!

  2. تمارا بقدر أقلِك اسا انكِ وحده من الكاتبات المفضلات عندي؟
    زمااان ما قرأتش نص وغرقت فيه متل ما قرأتِك اسا.

    بحبك تكتبي, ضلّي أكتبي وغَرقيني.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>