حكاية مغص/ عادل زعبي

حكاية مغص/ عادل زعبي

فتحت باب مرحاض عموميّ وفور ما أن أغلقت على نفسي بابه شعرت بدوار خفيف حين اكتشفت أنّ مؤخرتي ما تزال نظيفة، وأنّ ما حسبته حممًا أفلتت منها كان مجرّد وهمٍ، تمامًا كحبيبتي التي طالما تمنيت عودتها

"مبولة"، مارسيل دوشان، 1917

“مبولة”، مارسيل دوشان، 1917

.

|عادل زعبي|

عادل زعبي

عادل زعبي

مغص شديد! لكن لا مناص من انتظار الحافلة؛ مغص شديد وما من مرحاض يستطيع أن يقلني نحو بلادي، من بلاد الكلاب المشرّدة، إذا ما فاتتني هذه الحافلة. إنه الموعد الأخير. وإذا قبلت دعوة المغص ستطير الطائرة بالغد، ويُوارى من دون قبلاتي قلب جدّتي العطوف تحت الثرى. يشتدّ المغص، وساعة محطة الحافلات تشير لثلاث دقائق تفصلني عن موعد الانطلاق. أمّا حركة أمعائي فتقول إنه حان موعد الانفجار. فأركض دون وعي منّي لهدير صوت المحرّكات نحو باب فتحتُه بتأنٍّ كي لا أهدم بيت عنكبوت عجوز.

كانت الصراصير مسترخية في مسيرتها بدورة الحياة متآخية مع الجرذان فيها، ومتقاسمة معها شحّ المياه السائلة من ماسورة المرحاض المركزية. لكني من دون أن آبه بها أو أتمعّن بماهية حياتها أكثر، تموضعت مكاني بعد أن خلعت سروالي ورحت مباشرة أشدّ على نفسي حتى ظننت أنني قد انتهيت وأخرجت مني كل حشوة جسدي، من دون أن يبقى لي ما أحمله بسفري إلا جلدي. ولكن يا لصدمتي المهولة ويا لخيبة أملي الكبيرة حين نظرت أسفل مني ولم أرَ غير قطعة براز واحدة بحجم ولون حبة قهوة لم يتم طحنها بعد.

أمهلني الوقت بعض شذرات منه لتنظيف نفسي بأطراف أوراق مستعمله قبل سماعي لصداح مكبّر صوت محطة الحافلات يعلن موعد انطلاق حافلتي كمن يُنبئ بفاجعة. فركضت خائفا ممسكا بمغصي بسرعة من جديد نحو أضواء حافلة كنت أراها تسير مع أنها لم تكن تسير. مزّق السائق ورقة أخرجتها له من جيبي وسمح لي بأن أبدأ رحلة بقيادته تزيد عن اثنتي عشرة ساعة في حافلة ممتلئة بمسافرين لا يفكّرون بأبعد من النوم، في هذه الرحلة الليلية الطويلة.

بعد جهد في البحث عن مكان اهتديتُ أخيرًا لمكان في المقعد الخلفيّ حيث وجدت شخصًا يجلس على مقعديْن من يساري وشخصًا يجلس على آخريْن من يميني من دون أن أجد لي مكانا بينهما أو في الحافلة غير أوسطهما. للشخص الذي على يساري رائحة كريهة جداً أذكر أنني شممتها قبل قليل في المرحاض، لكنّ طامتي العظمى كانت أنه وبالتزامن مع سير الحافلة قرّر خلع حذائه ورفع قدميْه على المقعد القريب من جهتي والبدء بفرك أصابع قدميْه بحنان حتى أنساني المغص واسم جدتي.

تشتدّ الرائحة والمغص يدخل في ثبات. تشتدّ الرائحة أكثر وهو الآن يفرك أصابع قدميه بيد ويأكل كعكا منزليّ الصنع باليد الأخرى، من دون أن ينسى تبادل الادوار بين الحين والآخر بينهما، وبالتالي بين أصابع القدميْن التي يفركها. الشخص الذي يجلس على يميني دائم الانتظار لرسالة قد تصل إلى هاتفه المحمول بكلّ لحظة بعد كل مرة يرسل فيها واحدة. يبدو أنه عاشق ويبدو أنّ العاشقين الحقيقيين لا ينزعجون من الروائح الكريهة.

لم تعد الرائحة بعد ساعتين من السفر تستفزني كما في السابق؛ فقد رضختُ لها ووجّهت أسهم كل النقمات التي بداخلي منها نحو شخصين لا يتوقفان عن الثرثرة قرّرت أنهما هما الآن أكثر من يزعجانني داخل حافلة جلّ المسافرين فيها يغلقون أجفانهم ويمثّلون بأنهم نائمون ويمثّلون أنهم يشخرون. فانا لا أعتقد قطعًا بأنّ نسبة اختيار ذلك الرجل لرائحته عالية في الازعاج والتنفير مثل هؤلاء الشخصيْن اللذين اختارا أن يقلد أحدهما للآخر صوت الحمير.

يصحو المغص دفعة واحدة على كابوس أنني مسافر داخل حافلة لا يوجد فيها مرحاض فأنكمش وينتفض لأعرف ويعرف أنّ كابوسه هو واقعنا المرير. فأقبض على نفسي. أحاول أن أتذكّر الرائحة أو لحظاتي الجميلة برفقة جدتي أو حتى أن أصغي للثرثرة لإخماد ثورة أمعائي، ولكن من دون فائدة. فالحافلة تمشي والبراز يتقدّم رويدًا رويدًا ونسمات رياح أوساخي بدأت تفلت من ثقب مؤخرتي ورائحتي أنا الآن هي أكثر ما يزعج الشخص الذي يجلس إلى يساري.

إذا كان العقل فعلاً سيّد الجسد كما قال لي أحد أساتذتي اليساريين ذات مرة، لماذا لا أحاول الآن تخيّل نفسي داخل مرحاض فخم أفرغ فيه كل فضلات طعام الأمس، ولماذا لم أشعر براحة بعد تخيّل ذلك؟ لعلّ الأمر كان حقا يحتاج لتمرين طويل قبل أن نستطيع تطويع جسدنا بالكامل لعقلنا والتحكّم به حدّ تمويهه- كما قال يومها ذلك الاستاذ العفن. بدا لي ذلك الوقت المناسب للمباشرة بالتمرّن على ذلك ولكني وما أن شعرت بأني قد خطوت الخطوة الأولى نحو السيطرة الكاملة حتى شعرتُ بحمم دافئة تخرج من مؤخّرتي أجبرتني على توظيف كلّ قدراتي الذهنية للتحوّل إلى تمثال لا يتحرّك؛ تمثال يعمل في داخله على إخماد ثورة هذا المغص البركانيّ الطافح.

إنها الواحدة من بعد منتصف الليل وهذا يعني أنها الساعة الثالثة من سفري على متن هذه الحافلة ولا شيء يلزمني الآن أكثر من الثبات في وضعيّة التمثال. فأيّ حركة زائدة ستجعل كلّ مؤخرتي رطبة هذا غير الأثر الذي ستتركه على سروالي، وبالغ الأثر الذي ستتركه على نفسي التي يكاد ان يجعل منها مغصي الشديد هذا أضحوكة. أضحوكة مقرفه لا تستطيع أن تبرر نفسها حتى لنفسها. ثم تبًا وألف تبًا للمخيّلة، وبالذات لمخيّلتي الحمقاء هذه التي لا تكفّ الآن عن جعلي أتخيّل حبيبتي الورديّة التي طالما تمنّيت عودتها، تخرج من بين الركاب وتعود لتجلس على حجري من جديد تمامًا كما فعلت لياليَ طويلة في الماضي.

كنت مستسلمًا لحاضري المرير حين توقفت الحافلة في محطة نائية وأقلّت شابًا لا يتجاوز العقديْن من عمره. تحرّكت الحافلة مباشرة بينما وقف الشاب قرب مقصورة السائق لحظات قبل أن يندفع ويرمي نفسه كقذيفة على نصف مقعد خالٍ يفصل بيني وبين الشخص الذي على يميني، قذيفة جعلتني أشعر بعد سقوطها بأني سقطت إلى داخل مصرف رئيسيّ لمدينة يقطنها ملايين البشر. لهذا الشاب القذيفة، وفوق الضرر الجسيم الذي سبّبه لي، نظرة لصّ حائر كيف ينقض على فريسته. نسيتُ كلّ المرارة السابقة وصرت أتابع حركة يديْه وأتجرّع مرارة كلّ ما سيحدث لي لو تمّت بالفعل سرقتي.

بعد ساعة من الرّعب والخطر توقفت الحافلة بالقرب من أضواء محال تجارية وتوقف بعدها سائقها معلنًا عن استراحة لا تزيد عن أربعين دقيقة، فنهضت على مهلي رغم مغصي ونزلت من الحافلة أبحث عن مرحاض كفارس يصحب معه لجام جواده الوسخ، بعد أن خذله بالمعركة. وكذاك الفارس المليء بالعار بعد أن شقوا صورة جدته الوحيدة أمامه، فتحت باب مرحاض عموميّ وجدته. فور ما أن أغلقت على نفسي بابه شعرت بدوار خفيف حين اكتشفت أنّ مؤخرتي ما تزال نظيفة كما الأطفال، وأنّ ما حسبته حممًا أفلتت منها كان مجرد وهمٍ، تمامًا كحبيبتي التي طالما تمنيت عودتها. اتخذت موقعي وبقيت لدقائق طويلة أشدّ على نفسي محاولا التخلص من مغصي من دون أيّ فائدة تذكر.

وحالما خرجتُ من المرحاض اشتدّ الدوار اكثر فانبطحت على الأرض وتذكرت أنّ جدتي التي أنا متعجّل أمري لتشييعها كان قد ووري قلبها العطوف الثرى مصطحبا معه قبلاتي منذ ما يقارب عقديْن. فقرّرت أن أبقى مكاني غير مكترث لنداءات سائق الحافلة أو بمغادرتها بعد ذلك. بقيت مكاني غير مهتمّ حتى بتشييعها بنظري. بقيت متمعّنا صورة حبيبتي التي طالما تمنيتُ أن تعود مستغرقًا بالوقت ذاته في التفكير بأسباب هذا المغص العجيب. بقيتُ كذلك إلى أن رأيت شهابًا صغيرًا يسقط من السّماء بالقرب من مكان وقوف الحافلات فركضتُ نحوه سعيدًا بتحقّق نبوءة جدتي التي قالت لي وهي مريضة وأنا طفلها المدلل، إنها حتى وإن ماتت فلن تتوقف عن تدليلي وسترسل لي باستمرار شهبًا من السماء تأخذني لزيارتها وقتما أشاء.

جلستُ على الشهاب الصغير وكان بحجم صخرة كبيرة وفي اللحظة التي تمنّيت أن يعود بي إلى السماء عاد بي إلى السماء بسرعة لم أتمكّن من حسابها. حينها رأيت نفسي داخل مرحاض من نور الشمس. شمس على خيوط نورها تقف البلابل. الحوض فيه قمر على شكل قمر أما معطّر الجو؛ فهو من التلال وبساتين الزهور. هناك في مرحاض السماء تومضعتُ أنا الإنسان ورحتُ ومعي كل أحلام ضحايا الحروب بالحياة، وكلّ حرمان العاشقين أشدّ على نفسي حتى أخرجت من مؤخرتي كلّ القاتلين والمستعمرين عبر كلّ العصور. شددت حتى أخرجت كلّ السارقين، سرقة فلسطين وعار الشعوب. حتى أخرجت كلّ شيء وبتّ أرى فيما أنا جالس بحضن جدّتي العطوف أنّ حلم الشعوب بوحدة كلّ القلوب، بعد شفائي من مغصي الشديد، قد أضحى قريبًا. قريبا جدًا!

 

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>