صفحات من يوميّات/ أحمد طارق

صفحات من يوميّات/ أحمد طارق

صفحات من يوميات الكاتب لشهر سبتمبر 2001، وكل التفاصيل الواردة فيها حقيقية مائة في المائة. أكتبها تباعا بلا ترتيب…

las-vegas

>

|أحمد طارق|

أحمد طارق

أحمد طارق

السبت الموافق 15 سبتمبر 2001

قد تكون أول مرة أعترف فيها بأني لم أحس بأي نوع من الخوف أو القلق. قد يكون التعبير الأدق لحالتي وقتها هو الترقب والإثارة مخلوطة بالكثير من عدم الفهم.

كنت جالسا وحدي في الغرفة الباردة أطرق على سطح المائدة السوداء، التي أجلس على رأسها، بإصبعي بإيقاع منتظم، متطلعا بعينين يملؤهما الخواء إلى المرآه التي أمامي والتي أعرف من أفلامهم أنها ليست بمرآة، هي زجاج عاكس يقف على جانبه الآخر رجال يرتدون رابطات العنق يراقبون حركاتي وسكناتي عن كثب.

بدا ضابط المباحث الفيدرالية، السيد أيفن كما عرف نفسه، في حلته السوداء كأبطال فيلم الرجال في الملابس السودا،ء بوجه خال من التعابير وملامح قد نحتت من صخر جذب كرسي ووضعه على يميني ثم مال علي وسألني بغتة:

- أتعرف أسامة بن لادن؟

- نعم أعرف أسامة بن لادن!!

- كيف تعرفه؟

- من التلفزيون!! من الصحف من الإنترنت!!

- لا تعرفه شخصياً؟

- شخصيا إزاي يعني؟ أنا أسكن في القاهرة و أسامة بن لادن مجهولٌ أين يقيم..

تجاهل ردي الساخر وسألني:

- أعضوٌ أنت في أحد نوادي الطيران الخاصة في مصر؟

- لا أفهمك بصراحة.. لم أسمع بمثل هذه النوادي في مصر..

- أتعرف كيف تقود طائرة؟

- بالكاد أقود السيارة!

- لماذا تعاركت مع صاحب النزل الذي كنت تسكن فيه؟

- لأنه عنصري.

- لأنه يهودي.

- لا، لأنه عنصري.

- لماذا رحلت يوم العاشر من سبتمبر؟

- لأني مللت من لوس أنجيليس.

- أين كنت يوم الحادي عشر من سبتمبر؟

- في لاس فيجاس.

- أكنت تقامر؟

- لا…

ظهرت في عينيه نظرة جذل وكأنما وجد ما يبحث عنه، فعاجلته:

- الوازع كان اقتصاديا وليس دينيا بحتا..

ثم ابتسمت في ألم..

أدركت يومها كم هو صعب أن تكون متهماً لكونك أنت..

الثلاثاء الموافق الحادي عشر من سبتمبر 2001

زرت مدنا كثيرةً من قبل، ولم أبهر قط. راهنت أصدقائي على أنّ مدينة مصنوعة كفيجاس لن تبهرني البتة. أعلنت ضربات قلبي المتسارعة خسارتي الرهان، منذ اللحظة الأولى عندما رأيت الأنوار المتلئلئة في الأفق. أول ما تقع عليه عيناك هرم ضخم ينبثق من قمته عمودٌ من الضوء ليعانق السماء، الموسيقى في الشارع لا تعرف لها مصدراً ورشاشات مياه عديدة تلطف حرارة الجو في كل مكان مفتوح. كل الموجودين تغلفهم غلالة من سعادةٍ وإنبهار. يوزعون المشروبات على بعضهم البعض وما أن تدخل أي كازينو تشرب ما شئت مجاناً.

كل كازينو متفرد و يسابق الآخرين في الإبهار. من سقوف عالية مصنوعة من شاشات عملاقة تعرض سماء صباح صافية في الليل إلى أحواض أسماك قرش عملاقة تسبح إلى جانبك.

كل شيء هنا علني وواضح، القوادون يوزعون منشورات بصور فتياتهم وأرقام تليفوناتهن.  أما بالنسبة للتنقل من كازينو إلى آخر، إذا ما لم ترد أن تمشي، ما عليك سوى أن تقف على سيور متحركة تأخذك في كل مكان.

توجهت إلى محل لأشتري علبة سجائر، وهي للعلم أرخص من أيّ ولاية أخرى بنحو دولارين. ابتسمت لي بائعة التبع فابتسمت لها. سألتني عن بلدي فأجبتها، سألتها من أي بلد هي قالت لي من البرازيل. سألتها إن كانت كل البرازيليات فاتنات مثلها فأعطتني رقم تليفونها وتواعدنا على اللقاء في اليوم اللاحق.

ذهبت لأنام وأنا في حالة صوفية عجيبة من النشوة والإنبهار. هاتفت صديقي الذي راهنته على أني لن أنبهر ووعدته بأن أبعث له قيمة الرهان عندما أمتلك نقودا أو أكسب في لعبة الروليت.

فتحت التلفاز قبل أن أنام فتسمرت من الصدمة وعدم الفهم، مثل الجميع اعتقدته فيلماً غريبا يعرض على السي إن إن.

لم أنم وشعرت بمشاعر مختلطة عجيبة واحتجت أحداً لأشاركه.

انتظرت حتى الصباح وهاتفت الفتاة البرازيلية فقالت لي ألا أهاتفها مرة أخرى لأنها لا تريد أن تواعد أمثالي ثم أغلقت السماعة.

جلست وحيدا و أحسست بضآلتي و بهتت صورتي تحت أضواء فيجاس الباهرة..

الجمعة الموافقة السابع من سبتمبر 2001

بعد يوم مزعج من المشي المستمر في شوارع المجمع السكني جلست لأكتب تقريري الذي سأسلمه لرؤسائي عن ما وقع من أحداث اليوم. كان مزاجي معتلا جداً، فلأنني أعمل بلا تصريح عمل يبعثني رؤسائي إلى أسوأ المجمعات السكنية لأعمل في النوبتجيات الليلية كل يوم.

أنام في التاسعة صباحاً ثم أعاود العمل من السادسة مساءً.. كنت متعبا ذهنيا جدًا، بالإضافة إلى المعارك والمشاجرات المستمرة مع صاحب البنسيون الذي أسكن فيه.. قلت له بصراحةٍ اليوم أنّ كونه عجوزًا يهوديًا نجا من الهولوكوست وهاجر طفلا إلى أمريكا يجعله، طبعا، مستحقاً لتعاطفي ولكن لا يجعلني أصبر على سخافاته العنصرية طوال الوقت. مشاكله مع العرب من الأفضل أن يبقيها لنفسه، وإحتديت عليه ربما لأنه إختار وقتاً سيئا في إستفزازي.

رميت كل تلك الأفكار جانبي وتابعت كتابة التقرير الذي لا يحتوي أيّ حدث ذي أهمية اليوم على غير العادة. فالمنطقة التي أعمل فيها يحدث فيها تبادل لإطلاق النار شبه يومي. لا أملك حتى عصاة أهشّ بها على غنمي، لا أملك سوى الووكي توكي الذي أبلغ به رؤسائي بأيّ حدثٍ طارئ، طبعا بعد أن أختبئ؛ فأنا هدف محتمل للقتل كي لا أبلغ أحداً.

وفجأة دخل علي رجل يبدو من أصول لاتينية ويرتدي قميصاً أنيقا وساعة ثمينة، تشبه ساعة والدي التي يحتفظ بها في حقيبة سوداء ورفض مرارا وتكرارا إعطاءها لي. عندما رآني ابتسم وحياني بالأسبانية، ابتسمت لأنّ هذا الموقف يتكرر على الأقل كل يوم مرة.

رددت بأسبانيتي الضعيفة:

- أعذرني لا أتحدث الأسبانية..

نظر لي نظرة حيرة وعاجلني بالإنجليزية:

- من أين تأتي يا أميجو؟

لم أشأ أن أعطيه إجابة سريعة فسألته:

- ماذا تعتقد؟

قال بعد التفرس في وجهي:

- أممممم من كوبا.

- لا أتحدث الأسبانية يا عزيزي!

- جمهورية الدومينيكان؟

تعجبت من جهله..

- يا عزيزي لا أتحدث الأسبانية! أنا من بلد الهرم.

ثم ابتسمت إعتقادا مني أني أرشدته إلى الحل…

فقال: جواتيمالا (إشارة منه إلى الأهرامات التي أنشأتها حضارة المايا)

بعد ضحكة خاطفة، توقفت عنها عندما رأيت الخجل على وجهه، قررت أن أساعده وقد أعجبتني اللعبة:

- يا عزيزي أنا لست لاتينيا فابعد عن أمريكا الوسطى والجنوبية.. أنا مصري..

- أين هذا؟

صعقت وقلت له:

- ألم تتعلم في مدارس ألم تقرأ إنجيلك؟!

- قال نعم نعم سمعت الاسم من قبل ولكني لا أعرف أين تقع.

كنت في حالة مزاجية سيئة منذ البداية ولم أكن في حالة تسمح لي بأن أتحمّل الجهل الشائع هنا والذي يصعقك منذ أن تصل إلى العالم الجديد. فالتفتّ إلى التقرير لأكتبه ولأجد فيه عزائي من غباء هذا الشخص.

تأمل في ملامحي وبعض لحظات من تفكير يبدو عميقا قال:

- نعم أنت من جنوب أوروبا؟

قلت بدون أن أنظر له:

- لا.

قال: آسيا؟

قلت: لا.. مصر تقع في أفريقيا يا سيدي..

نظر متشككا وقال: لا أنت تكذب عليّ فأنت لا تبدو أفريقياً…

أسقط في يدي وبدأت في نوبة ضحك طويلة..

امتلأت الحافلة على عينها إلا المقعد المجاور لي. إضطرّ للجلوس عليه عجوز أسود ذو هيئة عملاقة ظلّ يرمقني بنظرات ثابته طوال الرحلة إلى لوس أنجيليس والتي استغرقت ستّ ساعات

السبت الموافق 8 الثامن من سبتمبر 2001

قلت لها أحبك… ونظرت بعيداً وأنا أكيدٌ أنها ستردّ الكلمة بخير منها. ليس هنالك من مكان أفضل من هذا الشاطئ الذي شهد بداية “ذا دورز”، فريقنا الموسيقي الأمريكي المفضل.. شكرا لهذا الفريق لأنه كان أحد أسباب لقائنا بالإضافة إلى إهتمامها بالشأن الشرق أوسطي الذي ملأ أيامنا الأولى بأحاديث محايدة عرفنا عن طريقها بعضنا بلا أقنعة.

الوقت مثالي. عواطفنا في أوج اشتعالها ونتقلب منذ أن وقعت عينانا على بعض في بساتين العشق الوردية التي لم تفلح أيٌ من لغات المعمورة أن تصفها.

مرت حوالي دقيقة وبدأت أنا هروبي الداخلي بتأمّل راكبي الأمواج وهم يحاولون البقاء لثوان معدودة على قمة الموجة ثم ينقلبون رأسا على عقب. تساءلت في نفسي عن جدوى هذه الرياضة إن كان المصير محتوماً، وقبل أن يأخذني عقلي إلى جدوى الحياة بدورها، عدت إلى أرض الواقع بعقلي وعينيّ معا.. نظرت إليها لأرى ردة فعلها تجاه أول تصريح بالحب. مازالت تدفن وجهها الجميل في كتاب نيتشه، الذي حاولت جهدي أن أحدثها عنه، بدون أن أكون قد قرأت أياً من كتبه كي لا أبدو جاهلا أمام فتاتي الألمانية، مستعينا بكل ما قرأت عنه وعن فلسفته…

- ستيفاني، قلت لك إني أحبك!

- وماذا تريدني أن أقول؟

- قولي ما تشعرين به…

- أنا متضايقة.

- متضايقة؟

- لا أريد أن تسيء فهمي… لكن الإنسان لا يحب بهذه السرعة يا صغيري.

- ماذا تقصدين؟.. نحن نتواعد منذ أسبوعين..

تركت الكتاب من يديها. هزت رأسها واعتدلت في جلستها ونفضت الرمال عن جسمها الغض، ثم خلعت نظارتها الشمسية، واجهتني ونظرت لي نظرة الرجل الأبيض الذي يرشد الأفريقي البدائي إلى الخلاص..

- هي الاختلافات الثقافية كما وصفها عالم الاجتماع الفرنسي إيمانيويل تود.. هناك فارق بين أن أحبك وبين أحب أن أكون معك.

- ارحميني من فلسفتك الفارغة… أسحب كلمتي التي قلتها.. إنسيها وأكملي قراءة كتابك.

- لا، لا يجب أن تفهم أن العرب والشرق أوسطيين لا يفقهون الاختلاف بين الحب والإعجاب..

- ماذا تعنين أيتها العالمة ببواطن الأمور؟

- أعني أن العربي يحب القهوة ويحب زوجتك ويحب زوجته الأخرى ويحب بلده ويحب برنامجًا على التليفزيون… العرب لا يعرفون معنى الحب. أتعرف شيئا.. لقد صارحني مغربيٌ في ألمانيا بحبه في مقابلتنا الثانية!

وجدت في كلامها الفرصة السانحة للهروب من كلمة قلتها ولعنت نفسي في الدقيقة السابقة ألف مرة على أنها خرجت من فمي، فرددت متسلحاً بنبرتي المتعالمة:

- المشكلة لغوية في المقام الأول.. هو لا يحبك هو معجب بك ولكننا نستخدم الحب في لغتنا في كلتا الحالتين..

- المشكلة اللغوية هي انعكاس لمشكلة ثقافية أعمق..

- ماذا تعنين؟

- أعني أن مشاعركم تتطور بسرعة وتهوّر.

وقفت ونفضت جسمي من رمل الشاطئ وارتديت ملابسي وابتسمت وقلت لها بكل هدوء:

- ستيفاني… لا أريد أن أراك مرة ثانيةً فبرودك الألماني لا يناسب دمي المتوسطيّ.. أنت مملة…

تجاهلت ملامح وجهها المصدوم وابتسمت بثقة بطل من أبطال ميلان كونديرا، بعد أن يهجر حبيبته برغبته، استدرت و أنا أحيي نفسي على ثأري لكرامتي ضدّ من يدّعون أن العربي سريع تطور المشاعر..

الأحد الموافق السادس عشر من سبتمبر 2001

مرةً أخرى ومثلما حدث في الليلة الأولى، بعد الإجابة على المئات من الأسئلة التي تتشابه في المحتوى وتختلف في الصياغة، إصطحبوني إلى غرفة غير مكبلٍ و طلبوا مني أن أخلع حذائي وقلادة كان قد أهدتها لي عجوز من السكان الأصليّين، غالبا كي لا أشنق نفسي في الحجز وإن كنت لم أفهم كيف سهوا عنها في الليلة الأولى.

ثم قادوني إلى غرفة صغيرة … حوالي متر ونصف في متر ونصف فارغةَ تماما إلا من رفٍ صغير بين التقاء حائطين في إحدى الزوايا. دُفعت ببعض الخشونة، أغلقوا الباب خلفي، تكورت على هذا الرف.

بدأت في نوبة من الرعشة الشديدة… لم أعرف إن كانت من برد مكيفات الهواء المركزية القارس أم هو جهازي العصبي الذي تحملني وأنا أتصنع الرصانة وأمزجها ببعض السخرية في مواجهتي لمواقف هذا اليوم العجيب.

أم هو ترقب وخوف من غدٍ غير متوقع ليكون حلقة جديدة من سلسلة الأحداث العجيبة التي تتداعى على رأسي منذ وطئت العالم الجديد. تداعت على رأسي الأحداث، كيف كنت أنا وبعض الأصدقاء نسافر إلى الولايات المتحدة في الصيف لنعمل بلا تصاريح عمل في أجازة الدراسة ونؤجّر سيارات برخصة مصرية ونسكن في موتيلات بكارنيهات بيوت الشباب فقط.. بل ومرة فتحت حساباً في البنك على عنوان موتيل.

تذكرت المكسيكيين الذين تقابلهم في الشوارع ليصنعوا لك بطاقة شخصية مزورة ورقم ضمان اجتماعيّ لتعمل به بخمسين دولاراً، بعد أن يصوّرك صورة فورية أمام ستارة وضعوها على قارعة الطريق.

تقاطع أفكاري صور هجوم سبتمبر الذي طالعت على شاشة التليفزيون من حجرتي في الفندق. منذ أيام معدودة، راحت السكرة وتغيرت صورة أمريكا في عيني. من يومها أدركت أن أمريكا ليست منزّهة: فهي أيضاً ترتكب الحماقات. تدخل حروبا غبية وتدخل في أزمات اقتصادية طاحنة، وقبل كل هذا تتعرض لضربات إرهابية على أرضها.

الأحد الموافق التاسع من سبتمبر 2001

“يبدو الناس غريبين وأنت غريب،

الوجوه تبدو قبيحة وأنت وحيد.”

تمسك بتلابيب رأسي تلك الأغنية وتأبى أن تتركها، كيف لا وأنا أمشي وحيداً غريباً على شاطئ “فينيس” مهد فرقة “ذا دوورز”.

إن لم يقصدني “جيم موريسون” فمن قصد؟

إحساس هو خليط من الاستوحاش والارتباك، خليط لا يقلم أظفاره سوى عدد لا بأس به من علب البيرة الطويلة التي تشربها وأنت تتسكع في الشارع، شريطة أن تخفيها في كيس ورقيّ. لم أفهم المغزى من ذلك ولكن إن كنت في روما. المحيطون كلهم يشربون من أكياس ورقية. الأصوات أصبحة أليفة في أذني والألون أصبحت زاهية أكثر. خفت صوت “ذا دورز” وملأت إيقاعات “الريجي” الهواء بأشعة الشمس.

بدأت بعد فترة بالتقدم نحو الآخرين وإلقاء التحية بابتسامة واثقة بركن الفم الأيسر. أتعمّد أحياناً أن أقحم نفسي في حوارات بين الناس أو أفتح حوارات عشوائية مع أيّ فريسة تقع في يدي لكي أتواصل مع هذا المحيط المختلف.

تحدثت مع راستافاريين وبرازيليات وفلسطينيين واسرائيليات. رقصت معهم وغنيت وقفزت في المحيط البارد. كانت الكحول قد لعبت برأسي واستبدلتني بخير مني. النسخة المرحة الاجتماعيّة من شخصي القاتم المتوحّد السخيف. البنفسجي في نفسي تحول إلى برتقالي، لون يناسب هذا المكان، حتى ساقتني قدماي إليها. جالسة هي وحيدة ترتدي تنورة قصيرة جداً تكشف عن ساقين طويلتين مبهرتين.

بادرتني بلكنة بريطانية:

- أتريد أن تجلس؟

- أتنتظرين أحداً؟

ناظراً إلى زجاجة الفودكا وعلبة عصير الكرانبيري الكبيرة التي استبعد أن تشربهما وحدها..

- ليس قبل ساعة..

- أتعرفين لماذا سأجلس، لإني لم أذق عصير الكرانبيري في حياتي.

- تمزح.

-لا أمزح… ولا الفودكا.

- تمزح.

- نعم أمزح..

ضحكت وهي تصبّ لي كأسًا من الفودكا وعصير الكرانبيري الذي لم أكن قد ذقته من قبل.

زادني الراح طلاقة وبدأت أحكي وأنا حكّاء أملك من الحكايات تلاً. أراقب عيناها التي تتسعان بالإعجاب والدهشة والإنفعال وأنا سعيد بالمنحنى الذي اتخذه اليوم..

وفجأة ظهر من كانت تنتظر. طويل نحيل حرق شعره حديثاً بماء الأكسيجين. لا أشعر بعدم الارتياح لظهوره بل أوليته الكثير من الاهتمام واستمررت في الحكي وقد زاد جمهوري واحداً. لا يشعرني بتهديد أو ربما كنت أمارس عملية “احتواء” للقادم الجديد..

وهو على العكس كان لطيفاً جداً ربما أكثر من اللازم. الآن عيناه هو تتسعان من الإعجاب والدهشة والإنفعال وأنا غير سعيد إطلاقًا بالمنحنى الذي يتخذه اليوم.. لماذا افترضت أنه معجب بها؟ كم أنا عربيّ أحمق. طردت الفكرة المزعجة من رأسي الملبد بالغيوم الكحوليّة.

فجأةً يطلب أن يكلمها على انفراد، أختلس النظر.

يتشاجران، لغة الجسد تفضح كثيراً. تأتي مندفعة لتخطف حقيبتها من على الطاولة وتستدير من دون وداع. كم تكسر قلبي تلك الساقان الطويلتان وهما تبتعدان. كنت سأناديها ولكنّ الكلمات اختنقت فى حلقي. رجع هو بابتسامة صفراء مثل قميصه. أشعر بضيق شديد تضخمه حاله السكر البيّن. هو لمح ذلك فقرّر أن يضرب

على الحديد وهو ساخن:

- هل شعرت بأيّ تمييز ضدك في أمريكا؟

- لأ.. رددت باقضاب وعدم رغبة في الكلام.

- أنا واجهتها كثيراً.. لهذا أنا في كاليفورنا ولست في بلدتي في سانت لويس.

- مع أنك أبيض…

أتصنع الغباء حتى أفكر في التصرّف المناسب.

- لا، لأني مثليّ جنسياً.

يعتقد إنه فاجأني ويرقب ردّة فعلي.

- إنت حرّ تماماً في ما تفعله في غرفة نومك.

- إذًا فأنت تتفق معي أنّ الحب قد يكون بين الرجل والرجل أو المرأة والرجل أو المرأة والمرأة.

- نعم. كل واحد حرّ. الحب جميل.

- وماذا عنك أنت؟

- الحب بالنسبة لي هو بين المرأة والرجل.

- ولماذا؟ هل جرّبت الحب بين الرجل والرجل؟

- لا لم أجرب ولا أعتقد أنني سأجرّب.

- خلفيتك الثقافية والدينية تمنعك؟ فقط تدّعي التحرّر؟

أحسست بالغضب من كوني أعامله بكل حذر حتى لا أتهم بالعنصرية مع إنه السبب في ضياع الساقين الطويلتين المبهرتين، والآن يصنّفني على أساس ثقافي وعرقي..

- يا سيد الخلفية الثقافية والدينية تمنع من يريد. أنا لم أرد ومنعني أي شيء. فقط أنا مثلك تمامًا. حرّ.

بدأ يعيد ويزيد ويتفلسف. مشكلة الرجال المثليّين يا أعزائي أنهم رجال قبل أيّ شيء. والرجال يعتقدون دوماً أنّ الإلحاح سيوصلهم للسرير في نهاية المطاف، مثليّين كانوا أم غير مثليين.

فجأة وقفت وانسحبت بهدوء وأدب حازم.

وبدأت الأغنية في السيطرة على رأسي هذه المرة ولكن بإيقاع أكثر عنفًا..

النساء تبدو شريرات وأنت غير مرغوب فيك.

الشوارع غير مستوية وأنت مغتمّ..

الجمعة الموافقة الرابع عشر من سبتمبر 2001

كم يبدو كوميديًّا هذا الكلب الرماديّ الذي تتخذه شركة الجراي هاوند، شركة نقل بالحافلات بين الولايات، كشعار. صدفة ظريفة أنّ الكلب السلوقي المصريّ يلقى تكريماً ما في الولايات المتحدة. هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أتأمّل “اللوجو” على المحطة، بعد ساعة من المشي تحت شمس لاس فيجاس الحارقة ودرجة حرارة يحسبونها بالفهرينهايت، تلك الوحدة التي لم ولن أفلح في التعامل معها. فبالإضافة إلى الميل والرطل يستخدمها الأمريكيون ليكونوا مختلفين عن كلّ الآخرين. على العموم إحساسي الذي لا يكذب كان يقول لي إنّ درجة الحرارة قد تخطّت الأربعين مئويّة.

بدت المحطة المكيفة كواحة ظليلة بعد أن كنت على شفا ضربة الشمس.

لا أعرف لماذا تذكرت وصف لوكليزيو؛ كنت قد قرأته في المنتدى، الذي سعدت بخبر حصوله على نوبل للآداب لهذه السنة، عندما قال وهو يصف فترة حياته بين سكان أمريكا الأصليّين بإنها صدمة حسّيّة كبيرة، صعبة، كان الجوّ حاراً، وكان عليّ أن أمشي مسافات طويلة على الأقدام. كان عليّ أن أصبح خشناً، صلباً. منذ تلك اللحظة، اللحظة التي لامست فيها هذا العالم لم أعد كائناً عقلياً.

كنت أحاول جهدي ألا أفكر في أحداث سبتمبر والذي تلاها من أحداث شخصيّة حدثت لي في الأيام الثلاثة الماضية.

دلفت إلى المحطة وتجاهلت الازدحام الشديد ولم يخالطني أيّ قلق؛ فمعظم المصريين يشبهون اللاتينيّين ولم يكن أحد يلقي لنا ببالٍ قبل الأحداث الأخيرة.

اِتجهت في خطوات واثقة إلى الكاونتر الذي تجلس عليه شابة سوداء ممتلئة بعض الشيء تلمّ خصل شعرها المجدول على الطريقة الأفريقية إلى أعلى. تأملتها للحظة ووجدت في وجهها علامات حسن غير خافٍ. وجدت نفسي أبتسم لها وبدارتها بقولي:

- صباح الخير. تذكرة في الحافلة المتجهة إلى لوس أنجليس.

بادلتني الإبتسامة، وطلبت مني اسمي لتكتبه على التذكرة. لم يتبادر إلى ذهني أن أذكر اسماً آخرَ، على أساس أنه أمر روتينيّ ولن تطلب إثباتا للشخصيّة. لكني لم أنكر اسمي أو بلدي من قبل.. ربما لأني لا أقبل ذلك بل بالأحرى لم أحتج إلى ذلك من قبل.

قلت لها اسمي بشكل أوتوماتيكيّ. اختلفت في ثوانٍ، قست ملامحها الناعمة وقالت في صرامة:

- إثبات شخصية إذا سمحت.

هززتُ رأسي بفعل الذهول وبلهجة إستنكارية غاضبة صحتُ:

- نعم!!! أتعملين في الهجرة؟

أشاحت عني بوجهها وأشارت إلى رجلي الأمن الواقفيْن خلفي أن يتقدّما باتجاهي، فصمتت في لحظة واحدة كل الضوضاء في المكان المزدحم واتّسعت عيون الموجودين.

في تصرّف خلتُه المثاليّ في ظلّ ظروفي الشخصية والمناخ العام في أمريكا بعد فوات أقلّ من ثلاثة أيام على الضربة، ناولتها جواز السفر في صمت. تصفحته بجهل وفتحته من اليسار قلت لها من الناحية الأخرى ففتحته مقلوبًا…

انتزعته من بين يديْها بشيء من العنف وفتحته لها من الناحية اليمنى وأنا أثبت عينيّ في عينيها بنظرة غضب. أعطتني تذكرتي ودفعت قدرًا لا أتذكره من النقود، ثم ذهبت لأنتظر النصف الساعة الباقية على المقاعد المخصصة في المحطة.

نظرات الجميع تعتصر قلبي مباشرةً وأنا أتصنّع الهدوء وأشيح بوجهي عن نظرات الخوف والكراهية.. فضّلت الجلوس هنا في تكييف الهواء على الانتظار في الخارج. فضلت جحيم سارتر، الآخرين، على الجحيم الحسّيّ الفعليّ في الخارج. امتلأت الحافلة على عينها إلا المقعد المجاور لي. إضطرّ للجلوس عليه عجوز أسود ذو هيئة عملاقة ظلّ يرمقني بنظرات ثابته طوال الرحلة إلى لوس أنجيليس والتي استغرقت ستّ ساعات.

هربتُ من الموقف بالتظاهر بالنوم طوال الرحلة.

السبت الموافق الأول من سبتمبر 2001

تركني صديقي في منتصف الشارع وقرّر أن يذهب ليشتري علبتي بيرة ليشربهما على البحر على شاطئ “فينس” في كاليفورنيا، مهد فريق “ذا دورز” وحركات “الهيبيّين”.. أسرع صديقي الخطى ولم ينتظرني لأصحبه فبدأت أصيح لاعناً أباه بالمصري متكاسلاً عن اللحاق به. وفجأة وجدت هذا الرجل العجوز يجري في اتجاهي صارخًا: “تعالى هنا يا ريحة الحبايب!”

ابتسمت للرجل الذي يبدو كأيّ مصري عجوز يقابلك في الغربة.. متأنّقاً ومرتديًا حلة إيطالية تبدو غالية الثمن جداً على بعد عشرة أمتار من الشاطئ. عانقني بشدة وكأنه يعانق الوطن وأجهش بالبكاء وبدأ يحكي لي، بلهجة قاهرية راقية وسليمة تماماً، وكأنه رحل من مصر البارحة، عن مصر التي في خاطره التي لم يزر منذ الخمسينات.. أخذ يؤكّد لي بأنّني قليل الحظ لأني لم أرَ مصر التي أفسدها “العسكر”.

جلست معه على دكةٍ خشبية مستغلاً غياب صديقي المندفع وأخذ يحكي لي عن المحلّ الذي كان يعمل فيه في وسط البلد.. وجمال وسط البلد في مشهد رأيته بعد ذلك من عادل إمام في فيلم “عمارة يعقوبيان”. سألته لماذا إذا كان يحب مصر إلى هذا الحدّ رحل، فقال لي: “أنا اتطردت يا إكسلانس، عبد الناصر طردني، ليه عشان ديني.. يعني أنا مصري وابن مصري وحفيد مصري… أنا مالي ومال إسرائيل… أنا لا أتحدّث العبرية بل ولا أمارس “الشابات”ولا علاقة لي بأيّ دين… أنا ديني مصري”.

حاولت ألا أبدو متفاجئاً وأنا أرى الدموع تنهمر من عينه.

أخرج سيجاراً و أعطاني واحداً وقال لي: “خد واحد.. ده بأربعين دولار”. رددت عليه: “لا ده كتير قوي مقدرش”، فردّ: “يا بني خد متبقاش عبيط.. أنا اشتريته من سواق التاكسي وقعدت أفاصل معاه إلى أنا أخدته بخمسة عشرة دولار”. قلت له بابتسامة: “يبقى مسروق”، فردّ عليّ بضحكة مجلجلة: “مَنا يهودي وتربية شارع فؤاد يالا”..

سألته سؤالا حساسا كان يدور في بالي: “هاجرت على إسرائيل؟” قال لي: “لا طلعت على سويسرا… خالي كان يعيش هناك”.

أخرج صور شخصية من محفظته وقال لي: الآن إبني ضابط في الجيش السويسريّ وابنتي متزوجة من أمريكي وتعيش في كاليفورنيا، أنا هنا لأزورها.. وحياة السيد البدوي يا شيخ تيجي تتغدى معايا عندها”.

قلت له ثانية واحدة أسأل صديقي لأني لا أستطيع أن أتركه هنا..”قول له يا أهلاً بيه.. وأهي لقمة هنية تكفي مية”.

كان صديقي قد رجع من السوبر ماركت فشرحت له الأمر على عجالة وحماسة وقلت له: “يريدنا أن نذهب معه”، قال لي “لا لن أذهب إلى أيّ مكان مع هذا اليهوديّ”، فاتسعت عيناي بدهشةٍ واستنكار “إذا كنت محرجاً فسأذهب وأقول له ذلك بنفسي..” فعاجلته: “لا مش عايز فضائح..” وذهبت لاعتذر إلى الرجل وأنا في “نصّ هدومي”، كما نقول، وأنا أحاول أن أتجنب النظر إلى عينيه المغرورقتين بالدموع وابتسامته التي توحي بخيبة الأمل والفهم للموقف.

“مش هتشرب بيرة يا بوب؟”

تجاهلته وقفزت في أول أتوبيس وقف أمامي على غير هدى، ودموع الرجل المصريّ العجوز الذي لم أسأله عن اسمه ما زالت في رأسي.. وذنبٌ ما ثقيلٌ على كتفيَّ.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>