كُرباج / أحمد كيّال

كُرباج / أحمد كيّال

عَرَب في دولة إسرائِيل؟ غير مُعقول، يا للهول، غير مُمكِن. هَذهِ الهويّات أكيد مزوّرة! تتحسّس حفف البلاستك.. تحاوِل أن تَجِد ثُغرًا صغيرًا في الهويّة كي تُدخِلَنا فيه. ثغرًا واحِدًا، فَتحة أمَل واحِدة تُثبِت عَدَم وجودنا حقًا.

camera

|أحمد كيّال|

ahmad-qلمساعدة القارئ على عَصر أكبَر كَميّة مُمكِنة مِن التَجرِبة المَنقولة في النَص ومُتعة قرائَتِه يُرجى التَزوُّد بـ (1) خَيال واسِع للاستمتاع بالتأثيرات الصوتية (بين نجمتين)، (2) دلو للبصق و (3) الابتعاد عن أيّ شيء قابل للكسر إثر أيّة حركة لا إراديّة.
شكرًا،
مُضيفَكُم لهذهِ الرحلة.

- بداية المشهد.
*موسيقى أفلام السباغتي (الويسترن) الشهرية*

مُنازلة،
ثلاثة شبان عَرَب من جهة واحدة، من الجهة الأخرى امرأة عِبريّة (ربّما وَجَب القول “يهوديّة” لكن سحقا للسياق الإسرائيليّ مُتعَدّد الأقنعة) واحدة دة دة دة * صدى * أمام مَدخَل المحطّة المركزيّة للباصات، القُدس (تُقرأ بصَوت مُقَدِّم ميدانيّ على قناة الجزيرة).
تتقدّم إلينا بخطىً ثابتة، يهتزُّ الماء في البُقَع القريبة مع كُلّ خطوة (راجِع أفلام جودزيلّا لفِهم الإيحاء). أحاوِل أن أراها، يمكنني وَصفُها بعَجيزة ضخمة فقط (طيز بالفصحى الطليقة) ورقعة شَعر مصبوغة.

“سَتَطلُب الهويّات لا محالةلا مجال للهَرَب!
الشاب المَقدِسيّ، لا إراديّاً، يتّخذ وضعيّة دفاعيّة لحماية الهويّة حالما يراها تتقدّم نحونا. والقَصد هنا ليسَ بالمفهوم الذهني الذي يتجسّد بكومة من اللحم والشحم، إنّما بطاقة إثبات الشخصيّة (كأنّ إثبات شخصيّتك لنفسك ليس صعب بما يكفي)، إنّها قطعة البلاستيك اللتي تُحَدّد مَن تكون غصباً عنك والدعسة ع راسك.
أُحاوِل المقاوَمة (في ذهنيوالتفكير بطريقة للتملّص من الموقف، لكن لا مَناص. تَبّاً.”

“لماذا أنتُم هُنا؟”، تَطرَح علينا هذا السؤال الوجودي. “لماذا نَحنُ هُنا؟” سؤال شَغَل سلسلة مِن أعظَم وألمع العقول على مَرّ التاريخ، تَطرَحهُ عليّنا حارسة الباب هكذا.. دونَ أيّة مُقدّمات. دون أيّ تعارُف لائق، دونَ وجبة عشاء و كأس نبيذ وموسيقى كلاسيكيّة تليقُ بوطأةِ هذا السؤال.* أدخِل سيمفونيّة بيتهوفِن الخامسة هُنا*

“نَنتَظِر الباص”، أكثَر الأجوبة قوّة على الإطلاق للسؤال المذكور أعلاه. في هذه اللحظة لا يسعُني التعبير عَن عظمة هذا الجواب ومدى جدارته.

“لماذا تَنتَظرون الباص بعيدًا عَن المحَطة؟”

كُنّا ننتظر في المنتَصَف بينَ محطّة الباص ومحطّة القطار منتَظرين الرابِح في السباق، لكن هذا حتمًا لم يعنِها، لَم تَنتَظِر الجواب.
تَطلُب الهويّات. * صَوت كُرباج *
ثالثنا يُخرِج الهويّة أوّلاً بَعد طَلب الحارسة النبيلة.

نُمَرّر لها الهويّات بكُلّ الحقد والضغينة الّتي يُمكن أن تُحشَر في حَرَكة لطيفة كَمَدّ اليدّ.

تلتقط الهويّات. تُخرج الهويّات من الأغطية. تتلَمّس الهويّات. تَ تَ مَ عَّ ن بِدقّة في الهويّات. واحدة تِلوَ الأخرى. تُمَرِّر أصابعها على الهويّات. تُريد أن تَتَأكّد مِن أنّ الهويّات ليست مُزَوَّرة. (فكرة عشوائيّة: إلى نفسي المستقبلي – أبقِ على هويّتك داخل كلسونَك، وحينَ تُطلَب منك إحرص على أن يروكَ تُخرجها من كلسونَك)

عَرَب في دولة إسرائِيل؟ غير مُعقول، يا للهول، غير مُمكِن. هَذهِ الهويّات أكيد مزوّرة! تتحسّس حفف البلاستك.. تحاوِل أن تَجِد ثُغرًا صغيرًا في الهويّة كي تُدخِلَنا فيه. ثغرًا واحِدًا، فَتحة أمَل واحِدة تُثبِت عَدَم وجودنا حقًا.
تَبدأ بتَفَحُّص هويّتي ثانيًا، أخرِج بطاقة الطالب خاصّتي… كَي لا تأخّرنا وتدعنا نذهَب لعَدَم كوننا مادة خام جيّدة لممارسة العُنصريّة ضِدها حَيث أنّنا لا نَشَكّل أيّ تهديد مباشر ولسنا “مشبوهين” مِن الطراز الأوّل. أطلِق بطاقة الطالب * صوت رصاصة * كي أضعها بعيدًا. كي أُحبِطَ عزيمتها. كي… نتفادى أن تنظر إلى هويّة الشاب المقدسي.

“هذه لا تعنيني” تقول. * صوت رصاصة مُحبَطة *

لكنّها تُعيدُ لي هويّتي وتُبقي الهويّتَيْن الأخرَيَيْن.

أشعُر بالرضا قليلًا لأنّي أراها قد انزعَجَت: “تبدين في حالة مَلَل، أبقيها، تَسَلّي قليلاً”.. أقول، أراها انزعجت وأقِرّ أنّها فَشِلت في شيءٍ ما ويقهرها أنّي طالِب جامعة، وأنّها، هيَ صاحِبة الأرض، لَيسَت أكثَر مِن بَوّابة ذات صلاحيّة خاصّة. (أحاوِل تَبرير تَصَرُّفي المتعالي دون أيّ اعتبار لرفيقي، لكن آخر سيّارة شرطة أوقفتني، أفلتتني لحظَة رأت بطاقة الطالب…فَ.. افتَرَضت، عُذرًا)

تُمارِس كامِلَ قوّتها على هذه الأرض.

- تَطلُب هويّة المقدسي. * فاك *

تنظُر إليها. تَنظُر إليها. تَنظُر إليها…
حُب مِن النظرة الأولى * موسيقى شاعريّة *
تنظُر إليه، تنظُر إلى الهويّة، تطلُب منه أن يلقي لها قصيدة حُبّ، تبدأ برَقمِ هويّتهِ. * سجّل أنا عربيّ ورقمُ هويّتي *

“إثنان، صِفر ، ثمانية …” تعلو وجهَهُ تعابير درامتيكيّة… تتصاعَد دقّات قلبِهِ، ينقلب المَشهَد إلى فيلا مكسيكيّة و أصواتنا تُصبِح مُدَبلَجة.
“هيّا! قُل ما هوَ رقمُ هويّتُك!”

“تُباً لكِ، إنّك تحاولين خربَطتي! إثنان، صِفر، ثمانية…”

“بِسُرعة، قَل لي في العربيّة وأنا سأتَرجِم “، أحاوِل إنقاذ الموقف. * نظرة جديّة جدًا مع شقلة للصدر *

“لا. لن أيأسَ أبدًا. هذهِ السافلة تُحاوِلُ خَربَطتي. إثنان، صِفر، ثمانية… “

يعود المشهَد إلى المحطة المَركزيّة للباصات، القُدس. * مُقَدِّم الجزيرة مرّة أخرى*

تأتي التعزيزات. بَوّاب آخر ذو رُتبة أعلى في حراسة الأبواب.

“تعال انظُر أي رَقم يلقي حينَ أسألهُ عن رقم الهويّة” تَضحَك. يبتعدان قليلًا عنّا، يموّهان نقاشًا عميقًا حَولَ الغوّاصات الروسيّة حاملة الرؤوس النَوَويّة في أحشاء الأطلسي ومَدى تأثيرها على استقرار الأمن و السّلام العَالمي.

في مُخيّلتي يدور الحديث كالتالي:
“تعال نِبعِد شوي نعمل حالنا عم نحكي. هدول العَرَب المنايك عَم بستَنوا الباص، تَع نأخّرهن لحدّ ما يُمرُق الباص. *ضحكة خبيثة*”، تَقول!
“يلاً” يَفرُك يديه، ثَم يضعهُما في جيْبه.
“شو أكلت اليوم؟ مش عارفة، حاسّة الطونا اليوم بالبوفيه كان خربان. كلّ اليوم وأنا أركض، فايتة طالعة على الحمّام”.

يأتي رَجُل في الأربعينات مِن عُمرِه، يحمِلُ عُلبة مشروب طاقة، يشتكي لهُما عَن الشرطي الّذي أوقفَه وسأله “لماذا تَشرَب هُنا؟”. يدور حوار من طرف واحد بينَهُم.
الظاهِر أنّها أسئلة ضمن البروتوكل “لماذا تقف هنا؟ لماذا تشرب هُنا؟ لماذا تأكُل هنا؟ لماذا تتنفّس هُنا؟”

يَصِل القِطار.. يَمضي القِطار.

يَصِل الباص.. يَمضي الباص.

تَعودُ إلينا بضحكة صفراء، أسنانها تفرِشُ وجهها كالرّصيف، تَعودُ عودة الأبطال. تعود بفرحة أوّل عدّائي المراثون.

تُعيدُ الهويّات.

“تَفَضّلوا، إلحقوا الباص” * الجُمهور يُصَفِّق *

استَنفَدَت آخرَ خليّة رماديّة في دماغها لتستخرِج هذه الجملة المتحاذقة، الذكيّة… ويلي كَم ذكيّة.

أودَت بِنا قتلى على الأرض. *صوت ريح، غُبار، أعشاب يابسة تَطير وتَدَحرَج على الطريق*.

أُحاوِل أنّ أستخرِج هَجمة مُضادة مِن حُنجَرَتي. لَم أفلَح تمامًا.

“أحسَنتِ”.. أقول، أبتَلِعُ خَيبَتي.

نَمضي إلى مَحَطّة القطار، محاولة مسكِ العصا مِن الطرَفين تبوء بالفَشَل.
لا… لا أحقِد عَلَيها، هيَ فَقَط تُؤدّي واجبها وعَمَلها.

…القَحبة.

* صوتُ كُرباج *

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. نص ساخر من الدرجة الاولى. ذكي ومشاغب وقوي ومليئ بالصور الفنية وفيه لمحة سينمائية…

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>