“فارس يا غسّان فارس”/ أنوار سرحان

عن حالتنا النقدية في فلسطين 48 ■ انحسر نقّادنا بما لا يتجاوز أصابعَ الكفّ الواحدة، ولكنها كفٌّ ممزّقةٌ مشرذمة، كفٌّ تصفع صاحبها قبل غيره وتشوّه الثقافة أكثر مما تبنيها. فهي تكاد تختزل الثقافة بالأدب مفصولاً عن ارتباطاته، بل وعن كلّه أصلاً

“فارس يا غسّان فارس”/ أنوار سرحان

|أنوار سرحان|

“رأينا أن المستوى الفنيّ، فنّيّ، سينما، الراقصة كواكب، تمّ ترمتم طقّ لع بج، إسهال من أكل تفّاحة ديمول.. وزارة الزراعة، شياح، صندوق بريد لا يوجد، كاسك. طقّ. كعبه أبيض. استفرغ في المغسلة ودفع فاتورة. دائرة مكافحة المخدّرات اسمها مؤسّسة النقد الفني. المحاشش استديوهات، الاستديوهات بالباص. طع طع فقع الدولاب.. وهيك كتاب يحتاج لهيك نقد!”

لا تجزعوا أعزّائي، لم أجنّ بعد، ولم أسكر بلا ريبٍ، بل وليست الفقرة المدهشة أعلاه من ابتكاري، إنّما هي للعظيم غسان كنفاني، ختم بها إحدى مقالاته النقدية السّاخرة الموقّعة باسم “فارس فارس”، بعد أن تعرّض لكلّ نقطةٍ فيها بالحجّة والبرهان.

والمبحر في عوالم المقالات الموقّعة باسم فارس فارس، التي كتبها غسّان أواخر الستّينيات من القرن الماضي، يرى وجهًا آخر لغسّان، يتجلّى ناقداً موضوعياً مهما بدا لاذعاً، صارخاً مهما بدا ساخراً، عميقاً مهما بدا بسيطاً، إنّه ببساطةٍ ناقدٌ حقيقيٌّ ذو رؤيةٍ ورؤيا، يعي دوره في صَوغ الثقافة برفع ما يستحقّ وردع ما لا يستحق.. يعرض الإيجابيات والسلبيات، مقيّماً ومقوّماً بمعايير المثقف الواعي لقضاياه، والأديب العالِم بالأدب والإنسان المنتمي لرؤاه، لا يبالغ في ذمٍّ أو مدحٍ إلا وأسبقه وأتبعه بما يدلّل عليه ويُكنزه بالمصداقية. فإذًا، غسان نموذجٌ متجسّد للناقد كما ينبغي أن يكون، ليس في مجال الأدب وحسب، بل للثقافة بكلّ مجالاتها، سياسةً وديناً وعلمَ اجتماعٍ وغيرها، وبقالبٍ ظريفٍ مهما بانت قسوته.

ولستُ بمكانٍ أن أتحدّث عن موهبة غسان الفذّة، إنما تذكرتُه فيما قرأت بعض ما نُشر أخيراً في صحافتنا ممّا يُحسب على النقد، وبصراحةٍ كدتُ أزغرد لولا أنّ لساني أقطش ألثغ؛ فبكلّ الصدق أعترف بأني كنت أظنّ نقّادنا قد ماتوا، عفواً أعني لم يولدوا بعدُ، ولمّا اكتشفتُ أنّ ثمة من يدّعي غير ذلك فرحتُ (لا بأس أنا هكذا طيّبةٌ أحياناً وتسرقني الشائعات مثل الكثيرين، وأصدّق ما أسمع مهما كان مغرضاً). المهم أني صدّقت أنّ نقدنا لم يمُت، أو وُلد على الأقل، وقلت لعلّه زمن الربيع العربيّ والصحوة والثورات التي دبّت فينا آمالاً بأنّ ما عشناه من تزييفٍ في شتّى مناحي ثقافتنا قد يمّحي أو يتعرّى، أو حتى يُصلَح، فهل تُصلح حالتنا النقدية إذًا؟! ولستُ أعني بلا شكٍّ ذاك المديح المجّانيّ المغدَق في المنتديات والذي بات مستشرياً مستفحلاً في عوالم النشر الإلكترونيّ، من النقد الشلليّ المسبغ لأوصافٍ وعباراتٍ باتت ممجوجةً لفرط ما استخدمها أصحابها من “الرائع” و”المبدع” و”الأديب الكبير” و”الشاعر المتألق”، وما حذا حذوها، لفلانٍ لكونه مديراً لموقع أو مسؤولاً عن مهرجان، ولفلانةٍ، تحيةً لضحكتها الجميلة الجذّابة أو لصبغة لوريال ومساحيق لانكوم الصابغة لمعالمها، أو حتى من مبدأ المصلحة المتبادلة “حك لي وأنا أحكّ لك”! (تعليق بتعليق ونقد بنقد والبادئ أكرم)..

لا بالطبع لستُ أعني هذا، إنما ذاك النقدَ الذي من المفترض أن يمارسَ دورَه في تشكيل الحالة الثقافية وبنائها، وترسيخ دعائمها ونفض شوائبها، وأخصّ بالذكر ما يحدث في بقعتنا المسكينة من هذه الأرض الفلسطينية المحتلّة عام 1948، إذ انحسر نقّادنا بما لا يتجاوز أصابعَ الكفّ الواحدة، ولكنها كفٌّ ممزّقةٌ مشرذمة، كفٌّ تصفع صاحبها قبل غيره وتشوّه الثقافة أكثر مما تبنيها. فهي تكاد تختزل الثقافة بالأدب مفصولاً عن ارتباطاته، بل وعن كلّه أصلاً. منها ناقدٌ قد توقّف العالم الأدبيّ لديه عند أبي تمّام أو البحتريّ، ونسي أنّ الثقافة والأدبَ لا يموتان، وأنّ رحم الإبداع تظلّ ولادةً، أما الثاني فقد سبقه معرفةً بحمد الله واكتشف أنّ ثمة أدباً حديثاً، ولكنه لم يعرف منه سوى محمود درويش أو سميح القاسم (ربّما لأنّ الآخرين قد رأوا ما رأوه فيهما). وإذا ما سألتَه عمّا يحدث في وسطنا الأدبيّ اليوم لاكتشفتَ من محادثةٍ قصيرةٍ كم أنّه لا يستقي معلوماته إلا ممّا يسمع من أخبارٍ أدبية تصله كما أحاديث الجارات حول فنجان قهوةٍ باردةٍ مملّة (بلا شك سنلوم جارته إذن كونها لم تبلغه بالحقيقة الأدبية كاملة ولن نلوم ناقدنا). وآخر لا يقرأ ما يُنشر كونه لجيلٍ يصغره، “فلا يليق بناقدٍ أن يواكبَ من هم من جيلٍ يليه ويعترف لأحدهم بالإبداع”! تماماً كما يحدث مع آخر لا يمكن أن يبحث إلا في إبداع كتّابٍ من خارج هذه البلاد كيلا يضطرّ إلى إنصاف ابن بلاده.. (رحمكِ الله يا جدّتي كم كنتِ تحفظين من الأمثال لوصف هؤلاء).

وأما ناقدنا الأهمّ، فساعٍ أن يبين بصورة الموضوعيّ والجريء، وقد بنى لنفسه تصوّراً أنّ الناقد يجب أن يخاف الجميعُ سلاطة لسانه ووقاحتَه التي ليست بالضرورة منبعثة من معرفة وتمكّن نقديّ وجرأةٍ وشجاعة وموقفٍ بيّن، بل ربما تنبعث من دوافع ذاتية ضيّقةٍ، بل ومشبوهة. وفي الحالة الوحيدة التي ينطلق لسانه مهللاً ومكبّراً بأنّ موهبةً قد تجلّت هنا، ستدرك في حديثٍ غير مباشر، وبصدفةٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن الموضوع، أنّ ثمن تلك المقالة لم يكن أكثر من قنينة ويسكي من النوع الفاخر أهداها له ذاك الشاعر أو الكاتب. لا بأس فثمة ناقدٌ آخر، يذكّرنا بيونس شلبي في مسرحية “العيال كبرت” و”مدرسة المشاغبين”، إذ يلملم عباراته من كلّ حدبٍ وصوب من دون أن تفهم ما يريد أن يقول (مش انت اللي قلت والا هو الي قال وودّوني عند عمّتي…)، فهو يتحدث عن كلّ من في هذا الكون من الإبداعات في نصف صفحة يرمي بها ثمانيةً وسبعين اسماً، وخمّن يا عزيزي ما يقول… لا بأس، ألسنا في عالم التكثيف؟؟ حسنٌ.. ما زال ثمة ناقد آخر يرى أنّ النقد تسويقٌ وترويج، ولاعتبارات لن نصِفها بالعنصرية ولا ضيق الانتماء طبعاً فهو أرقى من هذا، إلا أنه لا يملك أن يرى إلا من ينتمون لنفس انتمائه وإن افتقروا لما أسبغ عليهم.

فهل أُلام إذن إذ قرأتُ ما قرأتُ، إن استعرتُ من الأفلام المصرية القديمة ما كان يقوله المتسوّلون: “لله يا محسنين لله”، وتوسّلتُ (ناقداً) فارسًا جديدًا وهتفت: “فارس يا غسان فارس”، لعلّ نقدنا يتحرّك قليلاً وتدبّ فيه الحياة بما يليق بما لدينا من الطاقات؟

أخشى فقط لو بُعث الفارس حياً واطّلع على حالتنا النقديّة البائسة في هذه البلاد أن يعيد فقرته الرائعة التي استعرناها استهلالاً لهذا النداء قالباً عبارتها الأخيرة لتغدو: “تمّ ترمتم طع لع بج …… طع طع فقع الدولاب… وهيك نقد يحتاج لهيك كتابة”!

(كاتبة فلسطينية)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. ما قلته عن النقد الغائب يُقال عن الأدب الغائب
    النقد جزء من الظاهرة ألأشمل ـ الثقافة العربية هنا
    وهي ثقافة تتطور فيها حقول وإبداعات تذهب في ثنايا الضجيج الثقافي الفارغ من المعنى
    هناك أدب فني راق
    هناك مسرح راق
    وهناك موسيقى وغناء
    وهناك ما تيسّر
    لكن المشكلة في خلط الأوراق وفي وقاحة المتأدبين والمتأدّبات والكتبة والمتكتبات. مثلهم مثل النقاد الذين تحدثت عنهم ينتجون التافه من نصوص وكتب والآن روايات، لكنهم يختفون وراء ضباب الشلّة ومداخلاتهم النوعية ـ كلها نوعية في الفترة الأخيرة..
    نقاد متسكعون على هامش الثقافة وكتاب مثلهم هذا يطبّل لذاك وهذا يطبطب لتلك والله أعلم شو بعد!
    بمعنى آخر، إنه كان على اتحاد الكتاب الذي قدمت استقالتك من وظيفتك فيه أن يجرؤ على ضمّ الأدباء والأديبات وترك كل من ليس له دخل في الموضوع يتدرب حتى يصير!
    لكن الكتاب والكاتبات ـ ما شاء الله ـ عبرتهم في الكثرة
    وهي لم تتحول حتى الآن إلى كيفية أو نوعية
    تطول القوائم والألقاب والنصوص ويقلّ الأدب
    وللذين يكبون مسؤولية كالذين ينتقدون

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>