الفن دائما هو صراع/ سيرجي أيزينشتاين

الفن دائما هو صراع/ سيرجي أيزينشتاين

“إذا ما كان هناك أحد يستحق أن يوصف بأنه “شكسبير السينما” فمن الواجب أن يكون هو سيرجي أيزنشتاين… ولكن على عكس شكسبير كان أيزنشتاين أكثر من مجرد ممارس رائد لفنه، بل كان أيضا المنظر الأساسي له”

 

|سيرجي أيزينشتاين|

|ترجمة وأعداد: هشام روحانا|

هشام روحانا

هشام روحانا

يُعتبر سيرجي أيزنشتاين (1898- 1948) واحدًا من أهم مخرجي السينما العالمية ومُنظرا  سينمائيا عظيما ساهم في تأسيس نظرية السينما، وأثار بأفلامه وتجاربه في التطبيق السينمائي جدلا عميقا حول علاقة السينما بالفنون الأخرى وعلم الجمال. ولد سيرجي عام 1898 في مدينة ريجا Riga بمقاطعة لاتفيا.  درس الرسم والهندسة. ومع اندلاع الثورة البلشفية في روسيا هجر الهندسة وعمل رساما في إحدى الصحف قبل أن يلتحق بالجيش الأحمر، ليشارك في تصميم قطارات الدعاية الشهيرة للثورة البولشفية التي كانت تجوب روسيا. إنحاز أيزنشتاين في تجاربه المسرحية إلى جانب الاتجاه الطليعي الذي كان يرفض مفهوم الواقعية التقليدية واختار العمل في المسرح الطليعي بموسكو متبنيا النظرية التركيبية التي ترى ضرورة تفكيك جوانب العمل المسرحي إلى قطع صغيرة يمكن ضمّها إلى بعضها البعض وتقديمها حسب رؤيا المخرج. ما تزال نظريته عن “اللقطة” والمونتاج تثير جدلا عميقا في أوساط العاملين في الحقل السينمائي.

يقول الباحث البريطاني ريتشارد تايلور عن سيرجي أيزنشتاين: “ إذا ما كان هناك أحد يستحق أن يوصف بأنهشكسبير السينمافمن الواجب أن يكون هو سيرجي أيزنشتاين. إن مكانته ودوره في تطوير السينما كشكل فني تشبه في  جوانب عديدة تجربة شكسبير في تطوير الدراما الحديثة، ولكن على العكس من شكسبير كان أيزنشتاين أكثر من مجرد ممارس رائد لفنه، بل كان أيضا المنظر الأساسي له، ولذلك لم يكن فقط  ”شكسبير السينما ولكن أيضا، وعلى نحو ما، ستانسلافسكي وبريخت وربما أيضا ميرهولد“.

 

مقاربة جدلية للشكل السينمائي، سيرجي أيزينشتاين- 1929

مقاربة جدلية للشكل السينمائي، سيرجي أيزينشتاين- 1929

 

            في الطبيعة لا نشاهد أيا من موضوعاتها منعزلا،

            بل إن كل شيء في اتصال بشيء آخر،

            إما قبله أو إلى جانبه، تحته أو فوقه

جوتيه

وبحسب ماركس وأنجلز فإنّ المنظومة الجدلية ليست سوى إعادة إنتاج واعية للطبيعة الجدلية (للمادة) لأحداث العالم الخارجية

ولهذا:

فإن انعكاس المنظومة الجدلية للأشياء في العقل

على شكل إبداع المجرد،

من خلال مسار التفكير

تنتج: المنهجية الجدلية في التفكير

الجدلية المادية- الفلسفة

وأيضًا

فإنّ انعكاس نفس نظام الأشياء

من خلال إبداع الملموس

وبينما أنت تعطيه شكلاً فإنك تنتج :الفن.

وتأسيس هذه الفلسفة هو مفهوم ديناميكي للأشياء:

الوجود- كمفهوم ارتقائي ثابت ينشأ من التفاعل بين متناقضين متعارضين اثنين

التركيب (Synthesis)- الذي ينشأ من التعارض بين الأطروحة ونقيضتها (Thesis and antithesis).

إنّ الاستيعاب الديناميكي للأشياء، أساسيّ أيضا وبنفس القدر من أجل فهم صحيح للفن ولمجمل الأشكال الفنية، ويتجسّد هذا المبدأ الجدلي في مجال الفن على شكل

صراع

بوصفه العنصر المؤسس لكل عمل فني ولكل شكل فني

ذلك لأنّ الفن دائما هو صراع :

I  -  من حيث رسالته الاجتماعية.

II -  من حيث طبيعته.

III -  ومن حيث منهجيته.

I  - من حيث رسالته الاجتماعية؛ ذالك لأنّ مهمته كشف تناقضات الوجود وتظهيرها. وذلك من أجل تشكيل وجهات نظر مُنصِفة من خلال تنظيم التناقضات القائمة داخل عقل المشاهد، ومن أجل صقل مفاهيم ثقافية ملائمة، تصعّد من هذا الصدام الديناميكي ما بين الرغبات المتناقضة.

II من حيث طبيعته؛ إذ أنّ طبيعته هي التناقض القائم ما بين الوجود المادي والنزعة الإبداعية، ما بين القصور العضوي والمبادرة الهادفة، إذ يقود تضخيم المبادرة الهادفة- مبادئ المنطق العقلي- إلى تخشب الفن في شكل تقانة المعادلات الرياضية. (تتحول لوحة المنظر الطبيعي إلى خارطة طوبوغرافية، بينما تتحول صورة القديس سباستيان إلى مخطط تشريحي).

Paolo Veronese, 1555, oil on canvas, San Sebastiano, Venice, Italy

Paolo Veronese, 1555, oil on canvas, San Sebastiano, Venice, Italy

وتقود نزعة العفوية الطبيعية – ذات المنطق العضوي- إلى تحلل الفن ليغدو بدون شكل.

وبما أن حدود الشكل العضوي (المبدأ الخامل للوجود) هو الطبيعة، وحدود الشكل العقلي (المبدأ الفعال للإنتاج) هو الصناعة، فإنه على تقاطع الطبيعة مع الصناعة يقف الفن.

ينتج صدام منطق الشكل العضوي ضدّ منطق الشكل العقلي:

جدلية الفن- الشكل.

ويقوم التفاعل البيني بينهما بتحديد الديناماكية، وليس فقط في نطاق مفهوم مجال الزمن-المكان (الحيز)، بل في حقل التفكير المجرد بعينه. وإنني لأنظر أيضا إلى إنتاج المفاهيم الجديدة ووجهات النظر في الصراع بين الإدراك المألوف والتمثُل العيني بوصفه ديناميكية – ديناميكية عطالة الإدراك- أي كتحريك ونقل “وجهة النظر التقليدية” نحو أخرى جديدة.

وتحدد كمية مقاطع الفَوْت (Interval) وطأة التوتر. (يُنظر، في الموسيقى على سبيل المثال لمفهوم مقاطع الفَوْت. هنالك حالات حيث تكون فيها أبعاد الفواصل واسعة إلى الحد الذي يُنشئ كسراً- إنهيارا لمفهوم التناغم في الفن، على سبيل المثال “انعدام السَمَاع” لمقاطع محددة من الفَوْت).

إن الشكل المكاني لهذه الديناميكية هو التعبير.

وإن أطوار التوتر فيها هي الإيقاع.

إنّ الأمر ساري المفعول على جميع أشكال الفنون وفي الحقيقة على جميع أشكال التعبير.

وبالمثل، فإنّ التعبير الإنساني هو صراع بين ردود الفعل المشروطة وردود الفعل غيرالمشروطة. (  وفي هذا فإنني لا استطيع الاتفاق مع كلاجيس Klages (1) الذي :

1  -  لا يأخذ بعين الاعتبار التعبير الإنساني بوصفه مساراً بل على أنه ثابت كنتيجة.

2 -   يحيل كل شيء متحرك إلى مجال “الروح” بينما يحيل فقط تلك العناصر المعيقة إلى مجال “العقل”. ["العقل" و"الروح" بمفهومهما المثالي ويتماثلان عن بعد مع الأفكار حول ردود الفعل المشروطة وغير-المشروطة].

إن هذا الأمر صحيح تحديدا في الحقل الذي يمكن فهمه على أنه فن. على سبيل المثال فالتفكير المنطقي أيضا يمكن فهمه على أنه فن، فهو يُظهِر نفس الآليات الحركية: الحياة الفكرية لأفلاطون أو دانته، سبينوزا أو نيوتون كانت واستمر الحفاظ عليها بتأثير البهجة النابعة من الجمال الخالص لعلاقات التناغم الإيقاعي بين القانون والمثال العيني، بين النوع والفرد وبين السبب والنتيجة. ويسري مفعول الأمر في مجالات أخرى، مثلاً في الكلام، حيث تنبع سيولته، حيويته وحركيته من شذوذ الجزئي عن علاقته مع القانون الناظم للمجموعة بالكامل. بعكس ما نشهده  من العقم في التعبير في مثل هذه “اللغات” الاصطناعية تامة التنظيم كالاسبيرانتو(Esperanto).

وهذا المبدأ عينه هو مصدر الفتنة في الشعر. إنّ التناغم الإيقاعيّ يصعد كصراع بين المقاييس الموزونة المتحققة وبين تنوع توزيع النبرات الذي يحاول تجاوز هذه المقاييس.

إنّ مفهوم الظاهرة الثابتة شكلياً كوظيفة ديناميكية يعبّر عنه جدليا أجمل تعبير في مقولة جوتيه الحكيمة: “الارختكتورة هي الموسيقى وقد تجمّدت” (Die Baukunst ist eine erstarrte Musik).

وفي حالة الأيديولوجيا المتجانسة (وجهة النظر الأحادية) فإنّ الكلية مُخترَقة بمجموعها وصولا إلى أصغر تفاصيلها من قبل مبدأ الروح. وهكذا، فعلى طول مسار صراع  المشروطية الاجتماعية وصراع الطبيعة المتحققة فإنّ منهجية أيّ فن هي مبدأ الصراع ذاتهبوصفه المبدأ الاساسي للايقاع المتناغم المطلوب إبداعه وإجتراح الفن-الشكل.

III – الفن هو دائما صراع من حيث منهجيته

وهنا سنتناول المسألة العامة للفن من خلال تناول المثال الخاص لشكله الأعلى- الفيلم.

اللقطة والمونتاج هما العناصر الأولية للسينما.

لقد تم تحديد المونتاج من قبل السينما السوفيتية كعصب السينما.

ومن خلال تحديد طبيعة المونتاج يمكن حلّ الإشكالية العينية للسينما. الوعي الأول لصانعي الفيلم ومنظري السينما الأوائل ، نظر إلى المونتاج بوصفه وسيلة من وسائل التعبير تضع اللقطة المحددة واحدة تلو الأخرى في بناء من قوالب. ويتم اعتبار الحركة داخل هذه القوالب البنائية للقطات على أنها الإيقاع.

إنه مفهوم خاطئ نهائيًا!

إذ أنّ ما يعنيه هذا هو أنّ معنى موضوع ما سيتحدّد في علاقته مع طبيعة منحاه الخارجي، بحيث يغدو المسار الميكانيكي لصناعة الحبكة هو المبدأ. وفق هذا التعريف فإنّ المونتاج هو وسيلة لتبسيط الفكرة بمساعدة لقطات منعزلة :بينما يكون المبدأ “الملحمي” من وجهة نظري حيث يصعد المونتاج من تصادم اللقطات- اللقطات المستقلة وحتى المتعارضة الواحدة مع الأخرى؛ المبدأ “الدراماتيكي”.

أهي صوفية؟ حتما لا؛ إذ أننا نبحث عن تعريف للطبيعة بالكامل، عن الأسلوب الرئيسي وروح السينما في قاعدتها التقنية (الضوئية). نحن نعلم ان ظاهرة الحركة في الفيلم تنبع من حقيقة أنّ صورتين ثابتتين لجسم متحرك تتابعان الواحدة بعد الأخرى تؤلفان مظهرا متحركا حين يتم عرضهما على التوالي في التسارع المطلوب. إنّ هذا الوصف الشائع لما يحدث كتوليف هو المسؤول جزئيا عن الفهم المغلوط والشائع لطبيعة المونتاج والذي أظهرناه في ما تقدم.

دعنا نستكشف بشكل أكثر دقة هذه الظاهرة قيد البحث- كيف يحدث الأمر في الواقع- ومن ثم نضع استنتاجاتنا. تنتج صورتان ثابتتان موضوعتان الواحدة بعد الثانية مظهر حركة. هل هذا دقيق؟ من ناحية تصويرية وتعبيرية- نعم، لكن من الناحية الميكانيكية ليس الأمر صحيحاُ، ذلك لأنّ كل عنصر متتابع لا يتم إدراكه  ثانياًلماقدسبقهبلفوقه. هذا لأنّ فكرة (أو إحساس) الحركة تنبع من مسار تركيبه على انطباع الموقع الذي تم تخزينه (في الإدراك)  كالموقع الأول للعنصر، أي إلى موقع مرئي جديد لهذا العنصر. وبالمناسبة، هذا هو السبب الذي يفسّر ظاهرة العمق المكاني، عندما يوضع سطحان الواحد فوق الآخر ليظهر كتصوير مجسّم، ذلك لأنه عندما يركب عنصران في نفس البعد الواحد فوق الآخر فإنّ بعداً إضافيا يظهر. وفي حالة التصوير ثلاثي الأبعاد فإنّ تركيب عنصرين موجودين على مستويين مختلفين، الواحد فوق الآخر، ينشئ مجسما ثلاثي الأبعاد. وفي حقل آخر، فإنّ كلمة محددة (معنى حرفي ما (Denotation)  توضع بجانب كلمة أخرى تخلق مفهوما مجرداً، كما في اللغة الصينية أو اليابانية عندما يشير رمز ماديّ (Ideogram) ما إلى نتيجة متعالية- مفهوم جديد. (إن التضارب الناتج من هيئة الصورة الأولى- التي غدت مطبوعة في الدماغ مع الصورة المستوعبة التالية تولد، بالتعارض، شعورا بالحركة. ودرجة هذا التضارب تحدّد عمق هذا الانطباع، ويحدّد المستوى الذي يتملك فيه هذا العنصر الواقعي إيقاعه الأصيل. نجد هنا، مؤقتا، ما شاهدناه مجسّما في الرسوم الغرافية أو اللوحات. ما الذي يحدد التأثير الدينامي للوحة؟ تتابع العين اتجاه عنصر ما في اللوحة، لتحتفظ بإنطباع بصريّ يصطدم  مع الإنطباع اللاحق النابع من اتجاه عنصر آخر في اللوحة. إنّ تضارب هذه الإتجاهات يشكل التإثير الديناميكي في عملية إدراك المشهد الكليّ.

1- قد يكون خطي بالخالص كما في السوبرماتيزم (Suprematism) (2) أو لدى فرنان ليجيه (Fernand Léger).

Suprematism (Supremus No. 58),  Museum of Art (Malevich)-1916

Suprematism (Supremus No. 58), Museum of Art (Malevich)-1916

2- أو أنه قد يكون ذا طابع “قصصي”، إن السر الكامن وراء الحركية المدهشة لشخصيات الرسامين دومييه (Daumier) ولوتراك (Lautrec) تكمن في حقيقة أنّ الأعضاء التشريحية المختلفة للجسد يتم تمثيلها في حالات مكانية(وضعيات) مختلفة مؤقتا، وبشكل منفصل. فعلى سبيل المثال لوحة لوتارك الآنسة تسيسي لوفتس (Miss Cissy Loftus) ، فإنه إذا ما اتخذ المرء الوضعية A للقدم فإنه سيبني وضعية الجسم بالكامل بشكل متلائم لوضعية القدم، إلا أنّ الجسد من الركبة إلى الأعلى يمثل على شكل وضعية هي A+a. التأثير الحركي لمجموع الأجزاء الثابتة للصورة يتحقق هنا! من الوسط الى الكتفين نرى A+a+a ، تغدو الشخصية حية وتستطيع أن ترفس.

Lautrec - Miss Cissy Loftus

Lautrec – Miss Cissy Loftus

يعتمد الطابع “الملحمي” أو “الدرامي” هنا على منهجية الشكل وليس على المحتوى أو المخطط.

 3- بين “1″ و”2″ هناك المستقبلية (Futurism) الايطالية الأولية كما لدى جياكامو بالا  (Balla)، إنه “2″ لانه يُحصِل التأثير من خلال الحفاظ على الوحدة الطبيعية والدقة التشريحية  بينما هو “1″ لانه يُحصِل هذا بواسطة العناصر الأولية الخالصة وهو “3″ لأنه بينما يهدم الطبيعية فإنه لا ينتقل تماما نحو التجريد.

Umberto BoccioniUnique Forms of Continuity in Space 1913.

Umberto BoccioniUnique Forms of Continuity in Space 1913.

4- إنّ التعارض في الاتجاهات قد يكون من النوع الايديوغرافي]صورة/ رمز يستعمل في نظام كتابة اللغات كالصينية والهيروغليفية} (المتصل بالرموز الكتابية). بهذا يمكننا الحصول على قوة التعبير في التشويه التشريحي والمكاني (في الحيز) للأعضاء والذي نستطيع تسميته انعدام تناغم مؤقتًا.

مشهد من فيلم المدمرة بوتامكين- سرجي إيزنشتاين  -1925

مشهد من فيلم المدمرة بوتامكين- سرجي إيزنشتاين -1925

من الممكن التوجه الى الامر بشكل مقولي على أنه “خروج عن القياس”، ويشكل هذا التشوه المكاني (في الحيز)عامل جذب وآلية ثابتة لدى الفنانين. ويشير كميل ماكولير (Camille Mauclair)  لهذا الامر في كتاباته حول رسومات رودين (Rodin) بالقول: الفنانون العظماء مايكل أنجلو، ريمبرانت، ديلاكروا، جميعهم وفي مرحلة معينة من بزوغ عبقريتهم يرمون جانبا ووراء ظهورهم الدقة التي ندركها بعقلنا التبسيطي ورؤيتنا المألوفة من أجل بلوغ الأفكار وبناء مخطوطاتهم التصويرية لأحلامهم. اثنان من فناني القرن التاسع عشر- رسام وشاعر- حاولا القيام بصياغة جمالية لهذه الـ “خروج عن القياس”. رينوار قدم هذا الطرح: الجمال بجميع أصنافه يجد فتنته في التنوّع، إذ تشمئز الطبيعة من الفراغ والانتظام في المقاييس. لهذا السبب لا وجود لعمل يمكن تسميته بالفنيّ إذا ما لم يقم به فنان يؤمن بالـ” خروج عن القياس” ويرفض كل الأشكال المعدة سلفاً. الانتظام ضمن المقاييس، النظام والرغبة في الكمال (وهو كمال زائف دائما) يهدمان الفن، والإمكانية الوحيدة للحفاظ على الذوق في الفن هي التأكيد أمام الفنانين والجمهور على أهمية “الخروج عن القياس” لأنه أساس كل فن.

وكما يشير بودليير: (Baudelaire) ذلك الذي ليس مشوّها قليلا يفتقد قدرة الإغراء الملموسة، وعلى هذا يمكن القول بأنّ “الخروج عن المقاييس” هو المفاجئ والمباغت والمدهش وهي أمور جوهرية ومميّزة للفن.

عند التفحص عن قرب لخصوصية “الجميل” في “الخروج عن المقاييس” كما تظهر في فن الرسم سواء كما لدى جرينفلد (Grünewald) أو رنوار (Renoir) سيتضح لنا أنها تكمن في عدم انسجام في علاقة تفصيل ما، في بعد واحد، مع تفصيل آخر، في بعد مختلف.

Pierre-Auguste Renoir’s La Loge (The Theatre Box), 1874

Pierre-Auguste Renoir’s La Loge (The Theatre Box), 1874

إنّ التظهير المكانيّ في (الحيز) لمقدار نسبي لتفصيل ما بالتلاؤم مع تفصيل آخر وما يعقبه من صدام ما بين المقادير المعتمدة والهادفة من قبل الفنان هو ما ينتج التمييز الخاص- ما يحدد ويخصص ما قد تم تمثله في العمل الفني.

وأخيرا، اللون. إنّ أيّ طيف للون يضفي على رؤيتنا إيقاعا محددًا من التردّدات. لا نقول هذا بمعناه المجازي بل بوصفه عاملا نفسيًا خالصا؛ فكلّ لون له تردّداته الضوئية المميّزة والمختلفة عن اللون الآخر. والظل المجاور للون ما وعمقه هو مقدار إضافيّ لمدى الترددات،  وهذا الصدام الحاصل ما بين الاثنين- مقدار التردد الذي قد تم إستيعابه والمصطدم مع الترددات حديثة الإدراك، هو ما يخلق دينامكية في إستيعاب لعبة الألوان. وأيضا وفي خطوة واحدة يمكن الانتقال من التردّدات البصرية إلى تردّدات الصوت لنجد أنفسنا في الحقل الموسيقي. وفي البعد التصوري للمكاني كما في البعد التصوري الزماني تسري نفس القوانين، إذ أن الصراع في الموسيقى ليس فقط شكلا من أشكال الطِباق  (3)، بل هو العامل الأساسيّ الذي يمكننا من استيعاب النغمة كما هي بحدّ ذاتها وفي تحوّلاتها.

وهكذا من الممكن القول إجمالا إنه وفي كل الحالات التي أتينا بها وجدنا أن نفس مبدأ الطِباق  وفي جميع الحقول هو ما يمكّننا من الاستيعاب والتحديد. وفي الصورة المتحركة (السينما) هناك، كما يمكن القول، تركيب  لنقيضين؛ النقيض المكاني التابع لفنون التصوير والنقيض الزماني التابع لمجال الموسيقى. وفي السينما وهو ما يميّزها، يتحقق ما يمكن تسميته: التناقض البصريّ.

وعند تطبيق هذا المفهوم على الفيلم فإننا سنحصل على بعض قوانين النحو السينمائيّ. وأهم هذه الأسس هو أنّ اللقطة (السينمائية) ليست ولا بأيّ شكل من الأشكال عنصرا من المونتاج، بل هي خلية المونتاج الأولية وبحسب هذه الصياغة فإنّ ثنائية هذا الانقسام هي:اللقطة من جانب والنص المكتوب (Sub-title) من جانب آخر، اللقطة والمونتاج يقودان إلى شكل جدليّ مكوّن من ثلاث مهمات تعبيرية موحدة، علاقة داخلية بينية من ثلاث مراحل:

صراع داخل الأطروحة (الفكرة المجرّدة) التي تعبر عن نفسها بالنص المكتوب- وتتشكل في الصراع داخل اللغة وتنفجر- بقوة متزايدة في المونتاج- صراعا بين اللقطات المنعزلة.

إقتحام القصر الشتوي- مشهد من فيلم أكتوبر -أيزنشتاين 1927 .

إقتحام القصر الشتوي- مشهد من فيلم أكتوبر -أيزنشتاين 1927 .

وهذا في تناظر لما هو إنساني؛ أي للتعبير النفسي. إنه صراع في المحركات، ويتضح على ثلاث مراحل:

1- التعبير الكلامي الخالص في التكلم دون تنغيم.

2- في التعبير  الحركي (التمثيل الصامت) أي في انعكاس الصراع من خلال التعبير بمنظومة الجسد الكاملة.

3- إنعكاس الصراع في المكان من خلال تزايد حدّة المحركات وتعرجات حركات المحاكاة الجسدية المندفعة إلى الفضاء المحيط متبعة نفس صيغة التشوّه. تعرجات في التعبير نابعة من انقسام المكان بفعل الانسان المتحرك في هذا الفضاء-المكان. ويضعنا هذا أمام فهم جديد بالكامل لمجمل إشكلايات الشكل السينمائي. ونستطيع أن نضع أمثلة لأنواع هذا الصراع داخل الشكل- المميز للقطة السينمائية كما للصراع ما بين اللقطات المجتمعة أو المونتاج.

1. الصراع الغرافي.

2. صراع في مستوى السطح.

3. صراع في الأحجام.

4. صراع الحيز المكاني.

5. صراع ضوئي.

6. صراع إيقاعي.

7. الصراع بين المادة-الموضوع [الجاري تصويره] وزاوية النظر (ويتم الحصول عليه من خلال التشويه الحاصل بالتحكم في زاوية الكاميرة).

مثال الصراع بين الموضوع  وزاوية النظر. مشهد من المدرعة بوتامكين- ايزنشتاين 1925.

مثال الصراع بين الموضوع وزاوية النظر. مشهد من المدرعة بوتامكين- ايزنشتاين 1925.

8. الصراع بين المادة-الموضوع وطبيعته المكانية (من خلال التشوّه البصري بالتحكم بالعدسات).

9. الصراع ما بين الحدث وطبيعته الايقاعية (من خلال العرض البطيء، وتثبيت حركة الصورة).

10. الصراع ما بين العمل البصري بمجمله مع الأبعاد المختلفة الأخرى، إذ أنّ الصراع ما بين التجربة البصرية والسماعية يقود الى إنتاج: الصوت- الفيلم، القابل لأن يتم استيعابه على شكل طِباق سمعي-بصري.

مثال للصراع في مستوى السطح.

مثال للصراع في مستوى السطح.

إنّ صياغة واستكشاف الظاهرة السينمائية كـ” شكل للصراع”  ينتج ولأول مرة إمكانية قيام نظام متجانس يبحث الإشكاليات العامة والخاصة للدراما البصرية للفيلم، بوصفه نظاما يُبدِع الدراما في شكلها البصري السينمائي والتي يتم تحديدها وتنظيمها على شكل قصة سينمائية. من زاوية رؤية الوسيط السينمائي بهذا الشكل يمكن اشتقاق الأشكال الأسلوبية المحتملة بوصفها التركيب النحوي للغة السينمائية .

.

(نُشر النص الاصلي  بالروسية عام ١٩٢٩. النص هنا مترجم عن الانجليزية وهو فصل من كتاب بعنوان Film Form 1949,New York. هذه هي الترجمة العربية الأولى له.)

.

ملاحظات المترجم:

(1) لودفيج كلاجيس  (Klages 1872-1956)  مُنظر وفيلسوف وعالم نفس ألماني تخصص في تحليل الخطوط والاشكال الغرافية.

(2)  السوبرماتيزم: حركة من حركات الفن التشكيلي التي أسسها في موسكو الفنان كازمير مالفيتش عام  1913، واستمرت موجتها حتى عشرينيات القرن العشرين، ولكنها لم تختفِ قبل أن تضع أساس كل فنون التجريد الهندسية اللاحقة التي تدين لها بالكثير.

(3) الطِبَاق في اللغة هو الجمع بين لفظين متضادّيْن، وبشكل عام هو جمع بين مفهوميْن أو مستوييْن متضاديْن.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>