فلسطين وسراب النجومية/ الياس خوري

بدل ان تدخلنا الرواية في اعماق علاقة رجل بامرأته وفي اسرار الحب والزواج، غرقت في مطاردة بوليسية بحثا عن منطق الانتحاريين وسبب تورطهم في هذا النوع من العمليات

فلسطين وسراب النجومية/ الياس خوري

httpv://youtu.be/GDDziAQISbY

>

|الياس خوري|

قرأت رواية الجزائري ياسمينة خضرا ‘الصدمة’، مرتين. فالرواية التي ترجمتها من الفرنسية الى العربية نهلة بيضون، وصدرت عن دار الفارابي في بيروت عام 2007، اثارت ضجة في فرنسا عند صدورها عام 2005، وجاءت لتؤكد موقع كاتبها، وهو ضابط جزائري متقاعد يوقع كتبه باسم زوجته، في الأدب الرائج في فرنسا، وفي صناعة اسم عربي مغاربي يضاف الى لوائح الاكثر مبيعا من مغاربة وجزائريين.

قرأت الرواية للمرة الأولى عند صدورها، واصبت بخيبة أمل. فالرواية تعاني نقصا في المعلومات عن الوضعين الفلسطيني والاسرائيلي، كما ان بنيتها البوليسية التشويقية تبدو مفبركة، وشخصياتها غير مقنعة، كأنها مأخوذة من ريبورتاجات صحافية كتبت على عجل.

هناك بابان للرواج ودخول جنة ما يُطلق عليه الفرنسيون اسم ‘ادب القطارات’: الجنس، ومن الأفضل ان يكون الكاتب امرأة عربية شرقية، او الارهاب والهجوم على الاسلام، وصولا الى الدفاع عن اسرائيل بشكل مباشر او موارب.

اختار خضرا السرد البوليسي التشويقي عن الارهاب الأصولي، ذهب الى ‘سنونوات كابول’ وحط في اسرائيل، وكتب عن الاحتلال الاسرائيلي وكأنه صراع بين ضحيتين، تاركا التفوق الاخلاقي لـ “الضحية اليهودية”.

قرأت الرواية للمرة الثانية من اجل فيلم ‘الاعتداء’ لزياد دويري، الذي اقتبس رواية خضرا الى السينما، وذهب بجوازه الامريكي للتصوير في اسرائيل. واختار ممثلة اسرائيلية يهودية للقيام بدور الانتحارية الفلسطينية سهام، متعللا بأن الممثلات الفلسطينيات رفضن مشاهد التعري في الفيلم!

اصابتني الحيرة من خيار مخرج ‘بيروت الغربية’، فالسينمائي اللبناني الواعد، وجد نفسه في مكان لا يعرفه، ووسط رواية مليئة بالأخطاء، فحاول ترقيع بعض اخطائها، لكنه لم يستطع الافلات من الغواية الاسرائيلية، التي اراد لها ان تأخذه الى جوائز الاوسكار!

الهوس بالشهرة الذي قاد المؤلف الى كتابة روايته الملتبسة المعاني، قاد المخرج اللبناني الشاب الى السقوط في الفخ نفسه، والى محاولة تقديم وجهتي النظر، بحيث يساوي بين الجلاد والضحية، متناسيا ان هذه المساواة تقود حتما الى تفوق الجلاد اخلاقيا على ضحيته.

في قراءتي الثانية للرواية اكتشفت خللها البنيوي على ثلاثة مستويات:

زياد دويري

زياد دويري

اولا: جذر الخلل هو حكاية الاصول البدوية لبطل الرواية. فجده الكبير قاتل في الجزيرة العربية مع لورانس ثم وصل لا ندري كيف الى فلسطين. لكن العشيرة لا يظهر اثرها في حياة الرجل، وهذا ممكن لأنه ابن فنان وقام بخياره الشخصي وغادر العائلة. لكن عودته الى العشيرة واستقبالها له تبدو مفبركة، ولا قوام لها. شهد كيف هدم الاسرائيليون منزل العشيرة، ثم مات وهو يحاول انقاذ قريبته فاتن من قرار الالتحاق بالانتحاريين.

ثانيا: يبدو ان الكاتب لا يعلم الف باء الحقائق عن فلسطين تحت الاحتلال. الفلسطينيون في اسرائيل اخذوا الجنسية الاسرائيلية بعيد النكبة وتأسيس الدولة، وهذا حال سهام. اما فلسطينيو الضفة وغزة فمن المستحيل ان ينالوا هذه الجنسية. وكي تزبط معه الرواية اضطر الكاتب الى القفز على الحقيقة، ما سمح لأمين بنيل الجنسية الاسرائيلية، وهو البدوي الفلسطيني الذي يقيم افراد حمولته في نواحي جنين. هذا الخطأ جعل من الرواية تركيبة، ومجرد معادلة لا صدقية لها. اما من نال الجنسية الاسرائيلية من فلسطينيي الضفة وغزة فهم المتعاونون والعملاء.

لا يبدو من سياق الرواية ان الدكتور امين كان متعاونا او عميلا للموساد، بل على العكس من ذلك، انه رجل شريف وطموح ومقتنع بالتعايش العربي اليهودي، وبقي كذلك حتى موته في جنين. من اين اتى بجنسيته الاسرائيلية اذا، وهل يحق للكاتب ان يلوي عنق الحقيقة بهذا الشكل التعسفي، كي ينقذ سياق روايته؟

ثالثا: تبدو حكاية الطبيب الفلسطيني الاسرائيلي مع زوجته، التي يجب ان تكون لب الرواية، بلا معنى. فالجراح البدوي امين الجعفري يكتشف ان منفذة العملية الانتحارية في تل ابيب هي زوجته سهام.

الفتاة اليتيمة الآتية من كفركنا التي احبها امين وتزوجها منذ خمسة عشر عاما صارت طلسما بالنسبة لزوجها. كيف ولماذا وما معنى الحب اذا؟

بدل ان تدخلنا الرواية في اعماق علاقة رجل بامرأته وفي اسرار الحب والزواج، غرقت في مطاردة بوليسية بحثا عن منطق الانتحاريين وسبب تورطهم في هذا النوع من العمليات.

عناصر الخلل الثلاثة تفقد الرواية معناها، وتأخذها الى ما يشبه الخطاب الاستشراقي الجديد عن الارهابيين الانتحاريين، وتضيّع جوهر المسألة. فسر العلاقة بين امين وزوجته الانتحارية، يصير غطاء لحجب واقع الاحتلال الوحشي في الضفة وغزة والقدس. لا شيء تقريبا عن معاناة الناس مع المستوطنين الذين ينهبون الأرض والمياه ويقتلعون الاشجار. لا شيء عن القمع والسجون والأسرى. اما واقع الأقلية الفلسطينية في وطنها اي في اراضي ال48، فلا شيء عن مراراته، فتصير جنسيتهم الاسرائيلية امتيازا تمنحها لهم اسرائيل عليهم ان يبرهنوا عن جدارتهم بها! هكذا يتجاهل المؤلف ان الفلسطينيين ليسوا مهاجرين الى اسرائيل بل هم اصحاب الأرض، وان اسرائيل ليست المكان الذي هاجروا اليه بل المكان الذي هجّر منه اهلهم، وانهم يعانون من مصادرة ارضهم وتدمير قراهم، بحيث صاروا لاجئين في وطنهم، يعيشون في ظل نظام تمييز عنصري.

حاول زياد دويري انقاذ بعض عناصر الخلل التي في الرواية بحرفية سينمائية لا تفتقر الى المتانة، فألغى الجانب البدوي الساذج من شخصية امين، وجعل من سهام مسيحية كي يخفف من الهوس بالاسلاميين في الرواية، ثم صنع مشهد الفيديو الذي هو اكثر مشاهد الفيلم قوة، ولا اثر له في الرواية، لكن بدل ان يقتل امين بالقصف الاسرائيلي في جنين كما في الرواية، يعيده سالما الى تل ابيب حيث ينهي الفيلم بحيرة الرجل وعدم قدرته على تحديد خياراته.

نهاية الفيلم التعيسة تتصادى مع البنية الروائية المفككة، فيسقط المؤلف والمخرج في الحفرة نفسها، ونكون امام عمل ادبي سينمائي يساوي الجلاد بالضحية، جاعلا من الالتباس موقفا.

اما لماذا قام دويري بتصوير فيلمه في تل ابيب، فتلك مسألة محيرة. هل اراد المخرج احداث صدمة تؤدي الى منع الفيلم وتقود تاليا الى رواجه؟ ام انه انبهر باسرائيل وبطابع تل ابيب الاوروبي؟ ام انه التسرع المبني على جهل بحقائق الصراع؟ ام هي غواية هوليود؟

قرر المخرج ان يقتحم هوليود، والكلمة المفتاح هي اسرائيل، فاستعان بهذا المفتاح كي يربح العالم حتى ولو خسر نفسه.

(عن “القدس العربي”)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>