تحرير القارئ اليهوديّ من “الثقب الأسود”/ إيفي بات ـ إيلان

تحرير القارئ اليهوديّ من “الثقب الأسود”/ إيفي بات ـ إيلان

القصص مشبعة بالبلبلة اليهودية الفلسطينية الكبيرة بين الحلمين والرموز والعلاقة مع هذا المكان وبين رغبة الأوائل في امتلاك المكان وفرض السيطرة اللذين يُلغيان بشكل تام الأحلام والرموز وارتباط الشعب الآخر بالمكان

عبد عابدي، "لاجئون"، 2012

عبد عابدي، “لاجئون”، 2012

>

|إيفي بات ـ إيلان|

“كعصفورة تُترك مكانَها، هكذا ترك الرجلَ مكانُه، ولا مكان له سوى البيت الخالي من مستقبله، ولا منفى إلا رحيل إنسان متروك من مكانه. ولا البيت إلا مكانا تقف جدرانه حوله، ولا منفيٌّ سوى سكنى القلب خارج ذاته وصمته أياما طويلة.”

ألموج بيهار، من قال حاخام شمعون”، “قال حزقيل، فصل 10 (في مدوّنة ألموج بيهار)

< 

• عودة: شهادات متخيّلة من مستقبلات ممكنة

• محرران: عُمر الغباري وتومر جاردي. إصدار برديس/زوخروت، 205 صفحات.

.

حلّت علينا أيام الذكرى كالفلسطينيين (الذين ورد أسمهم في العهد القديمـ المترجم) على شمشون وحلّت على قسم منّا الأعياد. ولأولئك الباحثين عن المشترك بين الشعبين هنا ـ بشكل رمزي وإن لم يكن بشكل يومي ـ صادفت في السنوات الأخيرة إجراء طقوس ومراسيم تحيي الماضي والفُقدان الفلسطيني، بشكل متزامن أو منفصل عن ذاك الإسرائيلي. النافذة التي انفتحت على الماضي الأليم اللا ـ متكافئ، لشعب حقق سيادته ولآخر فقد وجوده المادي، الأرض ونسيج حياته وقدرته، هي دون شك سير باتجاه الحقيقة. إلا أن الكتاب الذي بين أيدينا يتقدم بخطى أبعد من التأمل المشترك في الماضي.

خرج تومر جاردي وعمر الغباري في كتاب عودة، لاجتراح الشفاء لمستقبل منطقتنا بواسطة الآلية الأكثر حرية كما يبدو ـ الخيال. ككاتبين ومغامرين بنفسيهما، وجّها الدعوة لكاتبات وكتّاب بالعبرية والعربية إلى نوع من جولة “زوخروت” ولكن بالمعكوس ـ ليس إلى القرى المهدمة التي لم يبق منها سوى القليل، والتي بعمل مقصود وجريء من التوثيق فقط يُمكن أن يتمّ تجسيد وجودها للجمهور الإسرائيلي اليهودي وتدعيم الرواية الفلسطينية بخصوص ماضي هذه القرى، وإنما في رحلة إلى المستقبل المتجدد الذي يُمكن أن ينشأ هنا بعد عودة اللاجئين، وهي عودة غير ممكنة كما يتضح لنا من خلال الحاضر اللحوح.

هذا العمل الذي يقود الأدب في المسار السياسي الواضح يستأنف على المتعارف عليه أدبيا وبشكل عالمي، ولا أقل على ثوابت سياسية محلية: اقتراح إنتاج أدب مُجنَّد منذ البداية لفكرة سياسية عينية وهدفٍ محدد يطرح تحديا ما بعد ـ حداثي، ساخر، باسم، حيال الفهم القاضي بأن الأدب الجيد يأتي من ينبوع “صافٍ” خال من دوافع سياسية. الأدب المجنَّد كُتب في الماضي تحت مظلّة أنظمة حكم قمعية بينما شكّل الأدب الفرداني والشخصي مقاومة للقمع. إلا أن الأمر هنا معكوس إذ أن هذا التماثل السياسي الجذري والمباشر تحديدا، يطرح السؤال، إلى أي مدى يخدم الأدب الآخر هنا (وهناك وفي كل مكان) الذي يعرّف نفسه كأدب لا سياسي عمليا أهدافا محددة وسلطوية وإن كانت مُضمرة. من ناحية ثانية، فإن الدعوة المفتوحة للكتاب أن ينضموا إلى هذه الفكرة تشكل تهديدا للفهم الشخصي لدى أولئك الأدباء الذين يعملون من حرية داخلية وتقترح على الأدب نوعا من الهدف الجماعي، اقتراح راديكالي بحدّ ذاته. خاصة أن الهدف الذي يقترحه الكتاب يُعرّف بالضبط الأمر غير الممكن تقريبا ـ التخيل المشترك للمستقبل ـ ويطلب من الكتاب أن يأتوا بحصيلة إبداعهم جنبا إلى جنب من صميم اللغة والعالم الرمزي للشعب الآخر.

هكذا، فإن نقطة انطلاق الكتاب هي بحدّ ذاتها نوع منillocutionary act ، أي فعل لفظي وهو فعل داخل العالم يغيّر فيه في اللحظة التي يُقال فيها (خلاف الحديث عن أقوال عن أمور في العالم، أسئلة وما إلى ذلك). من اللحظة التي طلب فيها المحرران من الكتاب باللغتين أن يكتبوا عن العودة في كتاب مشترك فقد أنتجا لأول مرة ـ بالذات في توجههما لإنتاج أدب سياسي في تعريفه ـ إمكانية التأمل غير السياسي فقط في المدلولات والمشاعر والعوالم الخيالية المصاحبة لمسألة العودة. وبما أن العودة هي بمثابة ثقب أسود في نظرة اليهود في إسرائيل إلى إمكانية وجود مستقبل مشترك، فإن الكتابة هنا هي فعل يحرّر اليهود في المعادلة من عدم القدرة على التفكير أو الاستماع للحديث عن إمكانية المستقبل المشترك، خاصة أنها تدعو الكتاب الفلسطينيين أن يأتوا بصوت العودة بوعي إلى الحيز حيث اليهود ـ لأجل تخليص الموضوع من التغييب في هذا الحيز.

في اللحظة التي قال فيها الغباري وجاردي ـ تعالوا نتحدث معا عما سكتنا عنه حتى الآن بحضور بعضنا البعض، فإنهما كسرا الصمت. ولأنهما لم يقولا ذلك في مؤتمر أكاديمي وإنما في حيز مفتوح للعب والخيال والرموز ومحرر من الردّ على الواقع مباشرة، فإنهما حرّرا العودة أو وفّرا لها الحرية.

ابتداء من المقدمة المفعمة بالحياة التي كتبها الغباري للكتاب ـ مقدّمة متخيّلة بحد ذاتها تصف سفرا مشتركا للمشاركين في الكتاب من حيفا إلى بيروت بعد سنوات من نشر الكتاب وبعد العودة ـ فإننا نسمع ليس فقط عن المستقبل الذي لن يكون فيه عمل للمترجمين لأن غالبية الناس يتحدثون اللغتين بل أيضا عن المصاعب الجمّة التي يُمكن أن نصادفها في سفر خيالي بسيط كهذا.

“أردنا أن نُنتج أدبا يفتح الخيال السياسي ويبدأ برسم خيال جماعي لحياة لا تقوم على الفصل والأسوار والتصاريح”، كتب جاردي (في الفيسبوك). والغباري يدمج في سفره الخيالي المتأخر إلى بيروت قصة الكتاب الحقيقية، بما في ذلك الكاتبات والكتاب العديدون الذين رفضوا بشكل قاطع المشاركة وأولئك الذين وافقوا ولم يفلحوا في كتابة قصة عن المستقبل. وتحدث عن المقدمات السبع التي كتبها بنفسه ومحاها قبل أن يصل إلى المقدمة التي أوردها في الكتاب وفيها تُضيء اللحظة المشتركة وبيُسر سيرورة كانت في الواقع وحيدة وغير واضحة المآل.

كذلك القصص نفسها وعددها 12 (بما في ذلك المقدمة التي تقرّب القراء من الكتّاب، والنهاية المأمولة لزماننا نحن) يصفون بغالبيتهم مخاض العودة بدون غرق في الأوتوبيات أو المثاليات.

أي مستقبل يُمكن أن يخلق مصالحة مع واقع من الدمار؟ فالدعوة للكتابة لم تكن إلى تخيّل عالم لم تحدث النكبة فيه بتاتا على كل نتائجها وأطوارها ـ كما حصل ربما وغير مرة في العالم العربي أو الفلسطيني على الأقلّ في السنوات الأولى غداة العام 1948 وكما فعل الأدب العبري الذي قلّد تماما الرواية الفلسطينية. هنا، مع الدعوة لتخيّل المستقبل الذي يصحح الواقع الصعب الذي نشأ في هذا المكان، فقد أحضر الكثيرون ممن قبلوا الخروج إلى الرحلة معهم أشكالا من المصالحة غير المكتملة في المستقبل ظلت ناقصة بالرغم من إعلان الحلول.

لدى إسراء كلش في قصة “الرجّالية”، قصّة عودة كاملة لعائلات تعود إلى قرية زرعين، مع الجلبة والبلبلة، توثيق BBC  ورغبة الشبان في العمل والفعل في حين أن البالغين مشوشون من شدة التأثّر، “لم نصدّق أننا عُدنا إلى جنة عدن خاصتنا المفقودة ـ الموجودة كما اعتدنا أن نفكّر منذ طفولتنا. عدنا…عودة. العودة.. عاد. يعود. عُد أيها الفلسطيني إلى أرضك…مطلوب منك أن تعود الآن يا ويلي ما أشهى هذه الكلمة! يا ويلي! أي متعة وعذاب، أي تعب!”.

الإشارات المقتضبة إلى اليهود في قصة كلش (التي يُمكن أن تكون بالنسبة لليهود بمثابة مرآة لا تُطاق لتغييب الفلسطينيين من القصة اليهودية) تبدأ بـ “أن الصهاينة اقتلعوا من أرضنا”، وتنتهي من خلال جابوتينسكي وبيتار بحيث يستخدم والد القاصة المفكر الصهيوني مثالا على كيفية أن اليهود جددوا ذاكرة عمرها 2000 عام لغرض إثبات عدم قلقه على الذاكرة الفلسطينية بعد عقود فقط من الشتات. مصاعب العودة والتوترات بين العائلات والأجيال التي تبرز هنا تحلّ أسطورة الشخصية الملحمية “الرجّالية”، التي تمّ اجتراحها لغرض المقاومة الفلسطينية والتي تلتئم القرية حولها في قيامها من جديد من بين الأنقاض.

في قصة حسام عثمان “بيت أبي”، يتحول الاعتراف بالحقوق في بيت وقسيمة في يافا إلى متاهة بيروقراطية حزينة وعبثية لأخوين يقطنان في منطقة رام الله. صحيح أن الحواجز في الطرقات قد اختفت والمكاتب مفتوحة لاسترجاع  الأملاك، لكن في واقع قامت فيه شوارع وجاليريات ومراكز تجارية مكان كل هذه الأملاك فإن حلم العودة يصير رحلة عبثية. فالأخوان اللذان يتأسفان بدايةً لأن والدهما لا يشاركهما الرحلة يحمدان الله على أن الأمل المتجدد وخيبة الحلم في النهاية لم يكونا من نصيبه. في هذه القصة “العودة” تتمة مُثلى للواقع الحالي. مثلما تحدث مسار أوسلو عن السلام والدولة الفلسطينية في حين أن الواقع زاد من القمع ” فإن “العودة” في القصة مرفقة بعلامات معينة للحرية إلا أن الواقع ظلّ خاليا من المضمون المرتجى.

يتحدث علاء حليحل في قصته “شمعدان” عن العودة من زاوية نظر أم فاروق، امرأة في السادسة والثمانين تعيش تجربة عودة مَن كانت خطيبة زوجها بمشاعر مختلطة من الحسد والحميمية. في القصة مُنح حق العودة لـ 200 ألف لاجئ بينهم لطيفة الجميلة التي كانت الصديقة الغنية والجميلة، “النصف الثاني” لأم فاروق والتي فازت بزوجها فقط لأن لطيفة ووالدها تركا القرية في العام 1948. في حين أن أم فاروق مهدّدة ومتألمة من الشعور بأن صديقتها العائدة هي الحب الحقيقي لزوجها، تطلب لطيفة الحصول على جواز سفر بدون الشمعدان غير قادرة على القبول بالرمز الإسرائيلي المطبوع على وجه عودتها التي حلمت بها طيلة حياتها. وجدت لطيفة العائدة طريقة لمعارضة الرمز الذي ينغّص عليها، بينما أم فاروق ستضطر للتدرّب على معايشة الشعور الحارق بالغيرة.

هل الغيرة الحارقة بين نساء في توالي العمر هي تثميل للغيرة بين الباقين في فلسطين المحتلة وبين صورة فلسطين في زمن مضى، الأوتوبيا المعشوقة بإرادة تامة؟

القصص إذن مشبعة بالبلبلة اليهودية الفلسطينية الكبيرة بين الحلمين والرموز والعلاقة مع هذا المكان وبين رغبة الأوائل في امتلاك المكان وفرض السيطرة اللذين يُلغيان بشكل تام الأحلام والرموز وارتباط الشعب الآخر بالمكان. كذلك، فإن الجهد في تجديد الارتباط ونسجه بشكل مغاير مشبع بالبلبلة والألم كما يتضح.

في قصة أمل قعيق بعنوان “جنازة متأخرة”، تقرأ القاصة عن امرأة توفيت في مخيم عين الحلوة في لبنان وطلبت أن تُدفن قرب ينابيع الكابري حيث القرية التي ترعرعت فيها. الشخصية التي يرد رسمها في القصة مع طلبها الأخير تُدرك أن ينابيع الكابري قد جفّت، بينما تسمع القاصة منها بعيني روحها الكثير من التعليمات الذكية بخصوص الطريق التي عليها أن تسلكها وكيف عليها إحضار رفاتها وإلى أين ولماذا. هذه القصة كما القصة الألمعية التي كتبها تومر جاردي الذي يسأل مباشرة ـ ويُجيب ـ إذا ما كانت الكنوز التي يحكي الفلسطينيون أنهم خبأوها في جدران بيوتهم ليست سوى مجاز لـ”الجمال القريب من القلب” للمكان ذاته، يُمكن أن نقرأها كنظرة واعية حلوة على مرة عن كل فكرة العودة. القاصة الشابة لدى قعيق ترى المرأة بهار عودة من الكابري بوضوح بكلّ التفاصيل ـ فهي تقوم بواجبها الوطني من خلال الاقتراب الشخصي الحميم الذي تُبديه تجاه المرأة الميتة التي تتطلع إلى أن تُدفن في المكان المحبب عليها. إلا أن الجنازة المتأخرة التي قد تكون جنازة التوق إلى العودة بشكل عام، توق أولئك الذين “ماتوا” ليعودوا فيما ألأماكن التي تاقوا جدا للعودة إليها قد ماتت مثل ينابيع الكابري.

>

بدون عنوان، رأفت حطاب. يبدأ الأمر ببطء. أوصي بالمشاهدة حتى النهاية حتى وخصوصا لمن لا طاقة له لتحمل التصوير البطيء للطبيعة أو تمثيلات معروفة لشجر الزيتون والحنين الفلسطيني من كل نوع.

>

شريط الفيديو المرفق هنا هو عمل الفنان اليافوي رأفت حطاب، صحيح أنه ليس عمل ضمن الكتاب (عُرض لأول مرة في العام 2009)، يعرض هو أيضا نظرة فلسطينية مركّبة وواعية ومخلصة جدا للحلم الذي لن يتحقق. عنوان العمل بدون عنوان متعدد الدلالات. كلمة عنوان، هي أيضا إشارة إلى مكان مُحدّد. ربما أن مفهوم الإخلاص لحلم العودة هو هو الغائب الذي يستطيع الكتاب ويحاول أن يبدأه أو يستكمله.

قبل أن نعود إلى قصة جاردي دعونا نتمعن في اثنتين أو ثلاث من أوتوبيات العودة التي تسللت إلى هذه المجموعة. يُمكن أن نعتبر قصة المقدمة التي كتبها الغباري أوتوبيا واقعية نسبيا. صحيح أنه ليس لها طعم حلم سلس بل حموضة رقيقة بعض الشيء، إلا أن عالم سفر الكتاب إلى بيروت هو عالم تم فيه تصحيح جزء من حالات الغُبن فيما يستمرّ النقاش حول البعض الآخر فيما تجد السياقات الرمزية اليهودية والفلسطينية مكانا لها جنبا إلى جنب كما جاء في تغيير أسم الشارع المعروف لنا باسم يتسحاق سديه إلى شارع السموأل بن عاديا وهو شاعر يهودي عربي من القرن السادس الميلادي في شبه الجزيرة العربية.

أوتوبيا أخرى، وهي أيضا بائسة بعض الشيء، غنائية وشاعرية جدا، كتبها حنا عيدي بعنوان: “بين حلم النهاية وواقعية البداية ـ مسافة ثلاث نبضات”. تبدأ القصة بفقرة شعرية “نعى الناعي فلسطين فَطرنا فراشات تزحف …” والتي يُمكن أن يُفهم من تتمتها أنه قد وقعت في فلسطين كارثة نووية. الشخوص العائدة، من غير الواضح ما إذا كانت أشباح أو ملائكة، تريد العودة عارية من العداء ومن الثياب مع إكليل شوك على رؤوسها وأيد خضراء. تنقاد وراء شخصية أم مسنّة، أم صالح، ووراء حلم العودة المطلقة المدفوع بالمحبة. تتحول القصة لاحقا إلى قصّة أم صالح فقط، التي تصل إلى بيتها في يافا وتجد فيه امرأة “بيضاء البشرة” التي تشهد أنها إنما انتظرت عودة أم صالح طيلة حياتها وتريد فقط أن تخدمها في بيتها. تعلن أم صالح أن الفلسطينيين هم “أبناء وبنات محمود درويش”، وتطرح في النهاية تحديا شعريا مطلقا: “لقد سكبنا على الجرح قبلاتنا للشفاء. إذا أردتم، فاجمعوا جراحاتكم مع جراحتنا واستعدوا للشفاء بالداء نفسه”.

أوتوبيا تسفي بن دور بنيت الغنية بعنوان “كنز في بيسان”، هي أوتوبيا حنين مشتركة تجد الطريق إلى الشفاء “بواسطة الداء نفسه”. الحنين هنا هو حنين لاجئين فلسطينيين من بيسان وليهود من الموصل في العراق الذين كانوا أول من استوعب اللاجئين الفلسطينيين في مدينتهم ومنهم سمعوا عن بيسان قبل أن يهجروا إسرائيل ما بعد ألـ 48 بأنفسهم. في الدولة الحديثة العهد، اليهود المشتاقون للحياة الهانئة في الموصل موزعون على أرباع بين بيسان وطبريا والقدس وطيرة الكرمل. في هذه القصة يبدأ جمال بيسان ألأصلية وسحرها أيام الرومان ويبدّل وجه بيسان الحالي البائس كما يتم تصويرها في العادة في إسرائيل اليوم. إلى هذا الجمال البدئي، إلى بيسان كجوهرة، وباسمها الأول بيسان يحن الجميع بأشواق تتسرب إلى القارئ. في هذه القصة الأكثر إشفاء في المجموعة تتحقق مقولة حبيبة فاديا “خلاص ليس فيه ذكرى منفى هو نصف خلاص فقط، ومنفى فيه ذكرى خلاص فإنه نصف ذكرى هو” . (وردت لدى ألموج بهار في المقطع أعلاه). هنا العربية المشتركة وتاريخ اللجوء المتقاطع والاستعداد لتذكّر لجوء الآخَر بتفهّم وبشفقة هو هو الكنز والبرنامج المشترك الذي يُمكِن للمدن المنهارة كبيسان أن تولد من جديد من خلاله. لدى بن دور بنيت وبفضل الذاكرة المشتركة تحظى بيسان بتحقيق جمالها الأصلي واحتمال حصول الشراكة والأمل اللذين انهارا ضمن سيرورات قومية وحداثية قائمة على أساس إقصاء مجموعات لاجئين مُستضعفة.

قصة جاردي التي تختتم المجموعة بالعبرية وبالعربية تتطرق هي أيضا، كما أشرنا، إلى الكنز الذي ظلّ في الخلف. لكن هنا ترفض هذه القصة الخشنة والعبثية والقطرية أكثر من أي قصة أخرى في المجموعة البقاء متأرجحة بين الحنين وإمكانية الشفاء المصحح وبين التأمل ـ المرّ أكثر أو أقلّ ـ في الغبن والدمار غير القابلين للتصحيح. بدل ذلك، يُلقي جاردي بنا إلى واقع جديد معروف بشكل مروّع في أساسه الشخصي والجمعي معا، قلة في المال وعدم قدرة المشتغل بالكلام على تحصيل رزقه (ومجازا، كثيرون آخرون)، والحاجة الباعثة على اليأس إلى العملة المرتجاة التي تتحكم بالحياة الحقيقية للجميع. لدى جاردي، “في النضال السياسي الشاق والصعب بين مؤيدي العودة النيو ليبراليين وبين مؤيديها الفوضويين الشيوعيين انتصر النيو ليبراليون. “هكذا في عالم تعيش فيه الشخصية الراوية على جزيرة صناعية مقابل يافا ـ “منشية الجديدة” ـ مع لاجئين فلسطينيين ويهود فقراء آخرين، فإن التغيرات الحاصلة بقوة العودة لا تغيّر من توازن القوى الحقيقي بين مَن لديه الإمكانيات وبين من يعدمها، وهو توازن يظلّ أهم من كل توازن قومي. بل تقلب هذه القصة الألمعية الموازين القائمة في اتجاهات عدّة: تأخذ القارئ إلى جو من انعدام الراحة المُضحكة وتقترح في الوقت نفسه معاني مُقلقة وغير مساومة لانعدام الراحة هذا.

خط التماس الذي يقودنا عبره جاردي وارد في القصة بصوت صادق ومركّب من الواقع الحالي إلى المستقبل الذي تقزّم فيه الرأسمالية القديمة العودة المرتجاة، حتى وإن كانت العملية نفسها عبثية وغير ممكنة. الدعوة لتخيّل خط التماس هذا هي الدعوة التي تحرّك الكتاب كله وتوحّد أل 12 كاتبا الذين يقدّم لنا كل واحد منهم واقعا متجددا على طبق آخر يوسّع من العرض أمامنا. هذا الاستعداد لبذل الجهد الجماعي، لإسماع جماعي لأصوات تقترح علينا نقاط تماس مختلفة ـ سلسة وطبيعية جدا مثل القطار من حيفا إلى بيروت عند عمر الغباري والذي يُشفي في بيسان بن دور بنيت ويلغي بالكامل الوجود اليهودي في زرعين وحولها لدى إسراء كلش ـ هو جهد مثير ويمسّ القلب ويربي.

في داخل الثقافة الإسرائيلية المؤسسة على إلغاء التجربة الفلسطينية وعلى عدم القدرة على الاعتراف بالغبن واحترام توْق المهجرين إلى الأرض ذاتها وتوق الموجودين فيها إلى الحقوق والحرية، فإن الكتاب يشكل تحديا أدبيا وإنسانيا. هل بمقدور قرّاء العبرية أن يتقبّلوا العودة المتخيّلة الفلسطينية (واليهودية) أو أن دين الفصل بين الشعوب يمنع حتى الإصغاء إلى حلم الآخر؟ لدى المتمسكين بدين الفصل ميل معروف للغرق في لعبة المرايا حيث يتمحورون في كل جزئية يُمكن أن تُفهم على أنها نفي للوجود اليهودي فيما هم ينفون بالمطلق الرواية الفلسطينية. هذا الميل المعروف والمُنهك تجسّد في مقال رسمي وحيد حتى الآن نُشر عن الكتاب (“كيف ستكون هذه البلاد بعد تطبيق حق العودة”)، هآرتس، 5.1.2014، عدنة شيمش، مقال علق في تحليل ضحل حول المدلول السياسي للقصص كأنها كانت عرضا لمفاوضات فاشلة ولم يتعاطَ ولو للحظة مع تنوّع نوعية المشاعر والفن الأدبي ولا مع تجربة الإصغاء المركبة التي تقترحها. انعدام القدرة على الإصغاء لمشاعر مجموعات أخرى ـ حتى كما ورد، ضمن تعابير أدبية غنية ومتنوعة ـ ذكرتني بسطر في أحد كتب “نفق الوقت” لجليلة رون بندر ـ عميت الذي قُيّض لي أن أتصفحه في ظروف حزينة. في السلسلة، يصل زوجان من الأولاد الإسرائيليين إلى لحظة تاريخية مُصممة للشعب اليهودي ودولة إسرائيل (المدمجتان معا في خلطة صهيونية معروفة). وجودهما في لحظات من الماضي مربك جدا فيكتشفان أن كل محاولة منهما لشرح أي شيء بخصوص المستقبل الذي أتيا منه سيجعلهما في نظر المستمعين مجنونين بالضرورة وعليه يصمتان عندما توجه إليهما الأسئلة.

في ضوء الصمت المدوي لعدم الفهم العنيف بين مَن يبحث عن مستقبل مشترك في هذه البلاد وأولئك المعارضين لذلك، يحاول هذا الكتاب أن يُقنع بالكلام ولو قليلا. بل أكثر من ذلك، مثلما تُؤكّد ذلك القصص المتنوعة، فإن الجهد الجماعي الرمزي الذي يُحدثه الكتاب يغيّر الواقع على نحو لا تُسعف فيه كل معارضات الداعين إلى تكريس الجمود. في المكان الذي تلتقي فيه العربية والعبرية وتتقاطعان في الحديث عن عودة متخيلة، وفي المكان الذي يتصارعون فيه لا على الأرض والموارد بل على قدرة التخيّل المشترك للأمور، يبدأ نشوء المجتمع المشترك المطلوب للتغيير الحقيقي. وربما هناك فقط.

.

هل أستطيع الكلام عنِ

السلمِ والحربِ بين الضحايا وضحايا

الضحايا، بلا جُملة اعتراضيةٍ؟

هل يقولون لي: لا مكان لحُلْميْن

في مخدعٍ واحدٍ؟

محمود درويش، من “طباق” إلى إدوارد سعيد. كتاب كزهر اللوز أو أبعد.

• مدوّنة ألموج بهار

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>