تقاسيم على ناي الغياب/ حنّا أبو حنّا

|حنّا أبو حنّا| “أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر […]

تقاسيم على ناي الغياب/ حنّا أبو حنّا

محمود درويش. بريشة اسماعيل شموط، 1971

|حنّا أبو حنّا|

“أنا حبة القمح

التي ماتت لكي تخضرّ ثانية وفي

موتي حياةٌ ما..”

محمود

“سأصير يومًا كرمةً

فليعتصرني الصيف منذ الآن

وليشرب نبيذي العابرون على

ثـريّات المكان السّكّريّ!

محمود

محمود

حنا أبو حنا

أيها الحبيب؛

ما كنت أحسب أنّ الغياب الذي ناوشك وجاذبته حتى تطل من فرجة الباب على أفق البياض في “اللاهنا”.. ما كنت أحسب أنّ هذا الغياب الذي شيمته الغدر –كما تقول– يغدر بك قبل أن يغدر بي فأجيء أنا لأعزّي فيك وكان هاجسي أنك أنت الذي ستعزّي فيّ! لا أقول، كما قال شوقي في حافظ: “قد كنت أوثر أن تقول رثائي”، فنحن لا نتعاطى الرثاء لكننا يحملنا خنجر الحزن على مناجاة الغُيّاب. أليس هذا ما كان في مناجاتك إدوارد سعيد؟

قلتَ في أمسية التوقيع على الجدارية: “الموت عذاب الأحياء”، ونقول: على قدر المحبة يكون العذاب..

وأنت تعرف مقدار محبتنا لك. فقد هبطنا –كما قلت– “هبوط الأرامل في ساحة الذكريات”.

أيها الحبيب؛

بالدمع ناجيتك والتابوتَ المسجّى في مقبرة البروه تحت سمائها الحزينة وصورة ابتسامتك المشرقة تسمعني.

اِعتذرت عن السفر إلى رام الله وآثرت أن أكون مع صوتكِ:

“فيا موت انتظرني ريثما أنهي

تدابير الجنازة في الربيع الهشّ

حيث ولدتُ، حيث سأمنع الخطباء

من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين

وعن صمود التين والزيتون في وجع

الزمان وجيشه..”

وتعزّيت بالوجود مع العديد من منظمات الشباب الذين التقوا عبر الاختلاف ليحققوا وصيتك. ما أروع أن تراهم في عطر زهرة العمر يعدّون التابوت الملفّع بالكوفية وصورتك الباسمة المشرقة بالتفاؤل.. وبعد الصلاة يحملونه في مسيرة رائعة إلى مقبرة البروة التي يتحرّش بها الضياع ولكنها لا تزال تحتفظ بأشجار الرّمان وأكوازه الكريمة وبالصبّار –حيًّا ويابسًا وببعض أشجار التين التي لم تنسَ العطاء..

هنا يا محمود سجّي النعش وتقدّم المشيّعون يحملون السنابل والورود، بل أكوازا من الرمّان قطفت من هناك.

هل تسأل كيف اهتدينا؟ ألا تذكر الخارطة التي رسمتها لنا في “لماذا تركت الحصان وحيدًا”:

” – هل تعرف الدرب يا ابني ؟

- نعم يا أبي: شرق خرّوبة الشارع العام

درب صغير يضيق بصبّاره

في البداية، ثم يسير إلى البئر أوسع أوسع، ثم يطلّ

على كرم عمّي “جميل”

بائع التبغ والحلويات

ثم يضيع على بيدر قبل

أن يستقيم

…………….

- هل تعرف البيت يا ولدي؟

مثلما أعرف الدرب أعرفه

ياسمين يطوّق بوابة من حديد

ودعسات ضوء على الدرج الحجري

وعباد شمس يحدّق فيما وراء المكان….”

………………..

نحن على التلة، تحت سماء البروة نتمثل البئر والياسمين والنحل الذي يعدّ الفطور لجدك على طبق الخيزران. إنها ماثلة في خيالنا لأنك خلّدتها ومهما يَعِث الغاصب في ثراها ومهما يكن من دنس الاغتصاب فإنها تظل طاهرة في ضمير الأجيال تنتظر أبناءها.

لاشكّ أنك تذكر زيارتك البروة أول مرة بعد انقلاب قارورة الزمن. سميت تلك الزيارة: الحجّ.

لقد رأيتَ دون ما نرى الآن من فجور الغزاة الذين يزوّرون التاريخ والجغرافيا. وأنت القائل:

” لا شيء يمنع هذا المكان من الإنتظار قليلا

هنا ريثما ترتدين قميص النهار

وتنتعلين الهواء…”

كان أبلغ ما هزّني وفاء هؤلاء الشباب وحرصهم على تحقيق كل تفاصيل الجنازة. أصرّوا أن لا يكون رثاء. كانت هناك أغنيات وكانت قراءات من شعرك من حناجر ربيعية، وقد أتاحوا لي أن أناجيك في ذلك الجوّ الحزين. ومن بعد كانت خطوات ثقيلة وأيدٍ تحمل السنابل الصفراء والزهور –غير التي استثنيتَها– تكلل التابوت وتضيف بعضا من أكواز الرمان وقصف التين التي لم تزل تحرس المكان.

عذرًا يا محمود.. آثرتُ أن أكون هنا مع الأغصان الندية واعتذرت عن السفر إلى رام الله. أنت تعلم أنّ كل بلد في فلسطين ينافس لاحتضانك.

هناك في رام الله كانت جنازتك المهيبة/ الرسمية والاحتفال باسمك “المذهّب” وأنت الذي حدست فقلتَ: “هنا أو هنا سوف يغرس زيتونَهُ… دمُنا”.

أيها الحبيب؛

أيها القائل:

“… ربما

ما زلت حيًّا في مكانٍ ما، وأعرف

ما أريدُ ”

مهما يكن وراء “ربما ” هذه من أبعاد، فأنت تعرف واثقا أنك كنت، وما زلت ولن تزال حيّـًافي القلوب، في ضمير الأجيال، في وجدان هذا الشعب الذي يحضن جراحه وأقساها جراح خناجر تمزيق الذات. لقد اتحد هذا الشعب في الذهول واللوعة حين صكّ القلوب نبأ رحيلك فتقاطر يشارك باللوعة والدموع في وداعك.

أنت يا محمود مَن قَهَر صفة الأميبا فينا، ولو إلى حين، فقد أجمعنا على حبك. لست ناسياً أولئك الذين قلتَ عنهم: “يحبّونني ميّتا ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا” أو: “يريدونني أن أموت لكي يمدحوني”. أو “ستغفر كل خطاياي في ساعة ثم يشتمني الشعراء” أو: “ستُروى أساطير عني وعن صَدَفٍ كنت أجمعه من بحار بعيده”، لكني أتحدّث عن الناس الذين آمنتَ بهم، وآمنوا بذواتهم وحقهم في الحياة الكريمة وسرى شعرك فيهم إلى جذور الأمل ينعشها وسما بأبصارهم إلى ما وراء الألم ودفّأ القلوب بالنغم الذي يرشّ على نعنعها برداً وسلاما.

قبل ليلتين كنّـا في أحد البيوت نحتفل بنجاح صديق، وقد التقى هناك المهندس والمحامي والطبيب والباحث والصحفي والسّالكون في ميادين أخرى عديدة. بعد عجقة الطعام والشراب انطلقت أصوات تغني الحنين إلى خبز الأم ثم جاء صاحب البيت بديوانك: “لماذا تركت الحصان وحيدًا” فقرأ منه بنفَسٍ دراميّ معجِب ثم طلبوا أن أقرأ قصيدتك: “أرى شبحي قادما من بعيد” وكان شعرك سيّدا مشاركًا.

حدّثتك عن احتفال الشبيبة بك… والأمثلة تطول.

هذا نهج جديد يا محمود! أنت هنا.. وأنت هناك. شعرك خبز ونبيذ.

محمود

أيها القيثارة السحرية؛

أورَثْتَنا “بحّة الذكرى على حجر الوداع”، وللذكرى –كما تقول– “روائح زهرة / ليليّة تبكي وتوقظ في دم المنفيّ / حاجتَه إلى الإنشاد”.

واقف أنا بين يدي الذكرى. أقلّب صفحات “ألبوم” الذاكرة. أحس بشيء من التعزية أني أجدك هناك. أليس هذا ما نفعله حين نقف حدادًا؟ نحاول أن نقتنص صورة حميمة للفقيد تشحذ الحزن والعزاء.

أذكر أول لقاء لنا. كان في كفرياسيف وأنت طالب في المدرسة الثانوية. جئتُ للمشاركة في مهرجان شعريّ (هل تذكر تقييمك لتلك المهرجانات؟). جلسنا قبل المهرجان في بيت أحد الأصدقاء. اقترح أحدهم أن أقرأ في المهرجان قصيدتي “الأرض”. قلتُ: أنا لا أحفظ شعري غيبا، قلتَ يا محمود إنك مستعدّ أن تحضر المجلة التي نشرت فيها القصيدة من مسكنك وتلوتَ بعض أبياتها.

كنتُ نشرتُ قبل ذلك في مجلة “الغد”، مجلة الشباب التي كنتُ أصدرها آنذاك، لقاء وحديثا لمراسل المجلة معك، وفيه صورتك، حديث طالب في السابعة عشرة من عمره ينظم الشعر. أفرح بكلّ موهبة واعدة تزهر في حقل المأساة.

لعلك تذكر ما كتبتُ في كتابي “خميرة الرماد” عن أول عهدك بحيفا: “كان في عينيه ياسمين العشرين حريريا نفّاذ العطر حينما جاء إلى حيفا. وكانت خصلة من شعره تنسدل على جبينه فيعالجها برفق مُـلِحّ. كأنما هبط بالمظلة من عالم المدرسة الثانوية في كفرياسيف إلى عالم الصحافة والسياسة، وفي يده باكورة شعرية سمّاها “عصافير بلا أجنحة”.

….

“جاء إلى حيفا ليعمل مع هيئة تحرير مجلة “الجديد” وصحيفة “الإتحاد”. خطيراً كان ذلك الانتقال من عالم القرية إلى عالم المدينة ومن مقاعد الدراسة إلى مكتب التحرير حيث كهول متمرّسون وحيث أجواء التصدّي للقهر والإضطهاد وأحاديث عن قِـيَم وفلسفات ومواقف. وقد حظي هذا الشاب بمحبة الجميع وتقديرهم ففيه ذكاء وكياسة وحسّ مرهف ورعاية للكرامة وجِدّية وإبداع.

“أحبّ يحيى هذا الطائر الذي أخذ الريش يقوى في جناحيه. رأى كيف تبرعم اللغة بين يديه في خلق جديد حتى وهو يكتب التقرير والتعليق. إن لِـما يكتبه نكهة خاصة تمتاز بالأصالة…”

كنتَ في بيتنا أخًا، ابنَ بيت، تحضن أمية الطفلة وتمسد بخصلة شعرك جبينها لتنعس وتنام، وبعد زمن أخذتَ لوحةً رسَمَتْها وجعلتَها على غلاف مجلة “الجديد”.

سرعان ما كان الحديث ينتقل إلى القراءة وآفاق ما نقرأ– استعراضاً ومناقشة وتقويما. وكانت القراءة لا تنحصر في الأدب الذي استأثر بالوقت، لكن الفلسفة والفنون كانت لها حصة حسنة.

أذكر أحاديث عن ما سمّاه بعضهم “اللغة الشعرية” وكيف أن قدس الشعر لا تدخله تلك الكلمات فاعتبروا مثلاً أنّ كلمة “أيضًا” لا يحتملها الشعر حتى جاء من قال “غير أني بالجوى أعرفها / وهي أيضا بالجوى تعرفني”، فأعطوا تلك الكلمة جواز دخول. ورأينا أنّ “شعرية الكلمات” هذه عرفتها آداب أخرى فسمّاها الإنكليز  diction  c poeti .

أنِفَ بعضهم من كلمة سمك مثلا فقال محتالاً: “الفريسة المزعنفة”. سمّينا ذلك “طبقية الكلمات”، التي لم نعترف بها، وآثرنا ما سميناه “ترابية القصيدة” لغةً وموضوعاً.

وتذكر حديثنا عن “المعادل الموضوعي” ورأي جيمس جويس. وعن ثورة أبي نواس ورضوخه للخليفة (المسَلَّط)- مع “التحفّظ”: “فسمعاً أمير المؤمنين وطاعة / وإن كنتَ قد جشّمتني مركبا وعرا”!

طوّفنا بالمعلقات. أعجبك ذلك الشاب المأساوي الذي جمع المطامح في ثلاثة وأحببت وجه خولة الذي “كأنّ الشمس ألقت رداءها عليه”. أحببتَ في المتنبي المخيلة المبدعة والصياغة الآسرة والأنََـَفة الثائرة، وكم عاد ذكره في المحاورات المختلفة. وقرأتَ “رسالة الغفران” مجتازا وعورة اللغة إلى المعاني الكامنة وراء السخرية المبطّنة. وامتدحنا سعة صدر تراثنا الأدبي الذي حفظ قسمة المعري “أهل الأرض” إلى اثنين، وظَرف أبي نواس وغير ذلك مما يشير إلى مجتمع عرف الصحة في بعض عهوده.

طبعا تحدّثنا عن “الواقعية الإشتراكية” التي اعتقدناها وعن اختلافها عن المذاهب الأدبية الأخرى. وقفنا طويلا عند غوركي وماياكوفسكي وناظم حكمت وعاشق إلزا. سألنا عن سرّ انتحار ماياكوفسكي. وأحببنا أقمار لوركا الملوّنة ورشاقته الفنية. وكان شكسبير في مسرحياته وسوناتاته حاضرًا وعرّجنا على اختلافها عن سوناتات بترارك (واليوم نتحدّث عن سوناتات محمود درويش).

هل أستطيع أن أحيط بكلّ مطالعاتنا وحواراتنا التي لم تعترف بحدود؟

أدركتَ أنّ الثقافة العميقة القزحية التي تظلّ يدها على مجسّ نبض الزمن– إنما هي نسغ الدوحة الشعرية.

وحينما التقينا في القاهرة أوّل مرة بعد رحيلك -كنّا: أحمد أخوك وأنا– بادرتك مبتسما بالسؤال الذي اعتدناه في حيفا: كيف أنت والقراءة؟ فقلتَ: كالنملة!

وأذكّرك بالنادرة التي طالما ذكرناها وأنت تقول بابتسامة لطيفة: ابن الكلب!!

كنّا في تلك الأمسية مع بعض الأصدقاء في “مقهى روما” في حيفا (غاب هذا المقهى اليوم وحلت محله متاجر مختلفة)، وقد استغرقنا في النقاش الذي تلفّع بدخان السجائر الكثيف (كلنا كنا مدخنين في ذلك الزمان)، حين اقترب منا ماسح أحذية. عرض عليك خدمته لكنك في زحمة النقاش رفضت. وافق جارك فاقتعد هذا الدخيل على الكرسيّ القزم ومضى في مهمته حتى انتهى، ومن دون أن تننتبه أنزل قدمك على صندوقه وشرع يمسح. قلتَ له إنك لا تريد. قال: مجانا! وظلت يداه ترفّان على فردة الحذاء أسرع من فراشة حتى سطعت برّاقة لامعة تناغي بلمعانها المصباح. قام الرجل مسرعًا. استدار ومضى. صِحتَ تناديه أن يعود ليكمل ويلمّع الفردة الثانية، لكنّه ولّى مسرعا يبحث عن زبون آخر. كان منظر فردتي الحذاء –اللامعة الصارخة والمهملة الشاحبة البائسة– ضاحكاً باكياً وقد هبط بنا من قمة الأولمبوس إلى الوحل.

قمت من تحت نور المصباح إلى حيث مزيد من العتمة لتتفادى فضيحة المفارقة وليعود الحوار الذي كان قد حمي.

عندما نهضنا لنعود إلى البيت كان منظر الفردتين مزعجًا وكأنك تلبس فردتي حذاءيْن مختلفين.. وأنت تتمتم: ابن الكلب لماذا فعل ذلك؟ وكلنا يحاول أن يفسر.

إنه انتقام ولكن ممّ؟ هل كانت لهجة رفضك، وأنت في حرارة النقاش، قاسية أو مهينة؟

بعد يومين قلتَ لي: بذلت خلال هذين اليومين أقصى ما أستطيع لأوازي لمعان الفردتين ولكن عبثا. أنظر! ابن الكلب!!

أيها الحبيب !

حصاناً جامحاً كنت تدوزن الصهيل.

وإذا للحصان جناحان يرفّان، يقويان، يحوّمان ويقتحمان المدى.

هل تذكر أمسية جئت فيها إلى بيتنا ومعك مجموعة شعرية سميتها “أوراق الزيتون” ؟ أردتَ أن أكتب لك تظهيراً للكتاب وأن أكتب عناوين القصائد والكتاب بخطّي. فرحتُ بالثمر. قلت لك: والت ويتمان سمّى ديوانه: “أوراق العشب” لكنّ تسميتك فلسطينية بارعة.

كنت تسعى إلى تناسق بين الشكل والمضمون. طلبت إلى الرسام المعروف م. غات أن يرسم لوحة الغلاف فأبدع (تذكر كيف طلب جبرا نقولا أن تعطيه تلك اللوحة بعد تصوير الكليشبه، وقد فعلت). حاولتُ أن ينسجم مع الرسم اسم الديوان بالخط الديواني وأن يكلله اسمك “بخمسة أحرف أفقية التكوين”.

ومما كتبتُ على الغلاف: “هذا الفتى الذي انبتته زيتونتنا الخالدة منذ ثلاثة وعشرين عامًا، أورق وأثمر فأنشد للجذع الراسخ في الأرض الملوّعة والطير المهاجر.. يحتضن أعشاشه ويدعو أسرابه إلى العودة”. وفي التظهير فرح بما تبشر به هذه الموهبة.

وتذكر أمسية أخرى بعد زمن إذ جئت ومعك مجموعة جديدة سمّيتَها “عاشق من فلسطين”. طلبتَ أن أكتب عناوين القصائد وأن أعدّ الغلاف– لوحةً وخطًّا. أردت لخط عنوان الغلاف أن يكون متميزا. لستُ خطّاطاً محترفاً ولكن لي جهدي في هذا المضمار. عجبتَ من إصراري على مزيد من التجارب. قلتَ: هذه كلها جميلة.. ولكني استغرقت في معاودة التجربة.

وبعد زمن جئت بالمجموعة التالية: “آخر الليل” فكتبتُ لك عناوين القصائد. أما الغلاف فقد أعدّه الفنان عبد يونس. كنتَ دوما تسعى إلى الإرتقاء حتى في مظهر الديوان…

أذكر حديثك معي عن الصّدى الذي أثاره هذا الديوان في الساحة العربية وكيف أن هذا الصدى يشرع في وجهك تحديا كبيرا.

أقلب صفحات الألبوم وأعود إلى “خميرة الرماد ” مرة أخرى. قلتُ آنذاك:

“كان راصداً لذاته، لتطوّره الشعريّ، يتحدّى ذاته ليتجاوزها دائما. كانت خطواته على جمر المأساة ولهيبها. كرّس قلبه لـ “نداء العاصفة” وتحدّى مخرز الإضطهاد المصوّب إلى العيون. سجن وحددت إقامته وفُرِض عليه أن “يثبت وجوده” في محطة الشرطة في حيفا صباحاً ومساءً وتصدّى الرقيب لقصائده ليخنقها”.

وهذا أيضا ما ورد في كتابي ذاك:

“ذات أصيل مرّ محمود وهو في طريقه إلى محطة الشرطة لـ “إثبات الوجود”، ببيت يحيى. حدّث كيف حذف الرقيب إحدى قصائده من مجموعته المعدّة للطبع “آخر الليل”. كان الرأي أن تفتدى القصيدة بقصيدة. في اليوم التالي جاء محمود ومعه تلك القصيدة الفداء. عنوانها: “الأغنية والسّلطان”، وفيها يروي حكاية القصيدة التي:

“لم تكن أكثر من وصفٍ

لميلاد المطر

ومناديل من البرق

الذي يشعل أسرار الشجر

فلماذا قاوموها

حين قالت: إن شيئاً غير هذا الماء

يجري في النّهَر

وحصى الوادي تماثيل…

وأشياء أُخَـر”

اجتازت القصيدة مقصّ الرقيب وختمت الديوان”.

وتحدّثتُ في الكتاب عن الإقتراح الذي عرض عليك، وأنت في موسكو، للإنتقال إلى بلد عربي وقلت لك رأيي. تذكر قصيدتك: “أنا عائد”.. لكنّك عدتَ إلى موسكو وبعد زمن دعاني أحدهم أن أفتح محطة “صوت العرب” فسمعتك تتحدث من القاهرة عن تغيير موقع لا موقف. خجلتُ من الهجوم الذي شنّه عليك بعضهم. وحين تحدثنا عن الموضوع في القاهرة قلت لي إنك استشرت الرفيق إميل توما، الذي كان في موسكو آنذاك، في الأمر وهو الذي شجعك قائلاً ما معناه: إنطلق فالدنيا أمامك!

أيها الحبيب

أيها الوفيّ!

في الألبوم زاوية حبيبة يحملها تسجيل.

ذات صباح جاءني صديق من شفاعمرو. قال هل شاهدت البرنامج الذي قدمته ناهده الدجاني ومحمود درويش عنك في التلفزيون اللبناني؟ قلت: آسف. لم أرَه! قال: “خشيت ذلك ولذلك سجلته فلئن كنت لم تره فإنك تسمعه.. ألقى طفل قصيدتك: “طفل من شعبي” وأجاب محمود عن أسئلة عنك. استمع إلى الوفاء والتقدير”.

سمعت صوتك الذي لم أسمعه من زمان وذكرت عهدك هنا، فكانت رعشة حنين… ماذا قال حافظ ابراهيم عن دمع شكر الوفاء!

وهناك صورة من الأمسية التي استقبلنا فيها فدوى طوقان. لم يكن بدّ من أن يكون اللقاء في مسكنك، في شارع حداد، فأنت لا تستطيع مغادرة البيت في الليل. هذا من شروط “إثبات الوجود”! كان اسمك قد ذاع، وكانت أمسية حميمة التقى فيها بعض من ريش جناح الطير. قرأت فدوى وقرأ الآخرون وكنتَ متألقاً. حمل لي ذلك اللقاء، أنا الذي عاش في فلسطين كلها وطوّف فيها وكان زملائي في “الكلية العربية” في القدس من كل بلد طالب واحد، شعورَ الجريح الذي يلمسون جرحه الحي بالملح.

تواترت اللقاءات بعد أن انفرجت بعض الزوايا. كنا في بيتك في باريس وقد شمخت قامتك الشعرية وكان حديث عن الكرمل و”الكرمل” المجلة وحديث عن سعي المناصب إليك. كان رأيي أن لا تغازل المناصب عن كثب لأنّ عروس الشعر غيور تأبى مشاركةً في فراشها.

وكان اللقاء في أتلانتا، في مؤتمر “رابطة الخريجين العرب في أمريكا”. كنتَ قد أَبِقْتَ بصفقة أوسلو، كما فعل إدوار سعيد. إدوار الذي كان مدعوًّا للمشاركة لم يتمكّن من المجيء لأنه كان تحت العلاج آنذاك. حدثتني كيف حاول ياسر عرفات خلال رحلة إلى جنوب أفريقيا أن يثنيك عن عزمك لكنه لم يقنعك.

وكانت لك أمسية شعرية في المؤتمر. طلبت إليّ أن أكون في الصف الأول لتكون بيننا صلة بصرية تحسّ فيها بالتجاوب الذي يطلقك في الإلقاء على سجيّتك. عدتَ على هذا الطلب في أمسية شعرية لك في القاهرة. ثم أصبح نكتة بيننا عدنا عليها في أمسيتك الرائعة في حيفا.

في أمسية أتلانتا وأمسية القاهرة ارتفعت أصوات تطالبك بقراءة قصيدتك “بطاقة هوية” التي اشتهرت بسطرها الأول: “سجّل أنا عربي”، وفي المرتين أبيت ذلك وقد تحدثنا في هذا الموضوع أكثر من مرة.

أما الأمسية الشعرية التي أقيمت لي في مؤسّسة عبد الحميد شومان في عمان فلم تجلس فيها في الصف الأول حيث جلس العلاّمة إحسان عباس وهاشم ياغي وأدباء آخرون، لكني تواصلت معك بصريا وأحسستُ بالدفء هناك. في اليوم التالي حين لبيت دعوتك إلى الغداء قلت لي: لقد أحبّ الجمهور شعرك. قلت لك: يهمني رأيك أنتَ!

أخي محمود؛

تذكر حديثنا عن إدخال شعرك إلى منهاج الدراسة الثانوية. بعد جهد كبير ونقاش حاد اتخذنا في لجنة المناهج قرارًا بإدخال نصوص من شعرك إلى المنهاج. قالت الستّ هاله، المفتشة آنذاك: حتى لو اخترتم نصوصاً غزلية فسوف تدخل كتبه إلى مكتبة المدرسة وسوف يتحدث المعلم والطلاب عن أشعاره الأخرى. عارضَت وعارض معها مدير المعارف العربية. لكن القرار اتُّخِذ بالأغلبية. صدرت الكتب وقد حذفت منها بعض النصوص وكنتَ أنت وغسان كنفاني أول الضحايا. لكنا لم نستسلم فقد صدرت النصوص في المنهاج الرسمي ولذلك شفعنا الإحتجاج بطباعة النصوص المغتالة على نسائل لنتيح لكل معلم يجرأ أن يعلمها. واليوم في المنهاج الجديد نصوص لك أخرى وسوف ندافع بشدة عن حقها.

محمود؛

أيهذا الجامح..

في عيد ميلادك الخمسين بعثتُ لك بتهنئة قلت فيها: “أيهذا الجامح الذي لا تنفك البروق الساحرة تهمز جياد عربته النارية عبر الآفاق ليقطف ما وراء النجوم..

يا من عمّدته ربة الشعر في نهر الإبداع والخلود، ولكي لا تهفو هفوة ثيتـس أم أخيل، عادت فحملته من موقع آخر وعمّدته ثانية..”

أنت الذي كنتَ راصدًا لذاتك.. تتحدّى هذه الذات لتتجاوزها دائمًا، لذلك كنت تفاجئنا دائما بالجديد.

أنت القائل: “هزمتك يا موت الفنون جميعها”، وأنت الفنان بامتياز. هازم جوهر الموت.

محمود

أيها الحبيب؛

ظللت في السنوات الأخيرة تحاور الغياب، قبل “الجدارية” وبعدها، فاعتصرت منه أبعاداً وجودية باهرة الكشف والإبداع. لكن زيارات الموت المتواترة، وروعة ما أثـمرته في شعرك لم تُعدّنا لهول المصاب. كان النبأ طعنة نجلاء وكان اعتقالَ الذهول والفزعَ بالآمال إلى الكذب!

هذا فضاء البروة يعانقك وينتظر ترابه أن يحضنك ويعدّ لك النّسغ لتنبت ما شئت فيه، زيتونا أو صفصافاً أو خرّوباً كما قلت:

“أنا هابيلُ ، يرجعني التّرابُ

إليك خرّوباً لتجلس فوق غصني يا غرابُ”

ونهتف بك كما هتفت بأنكيدو: “… فانهض.. كفى نوماً! تحرّك قبل أن يتكاثر الحكماء حولي / كالثعالب..”

أيها الحبيب ! إلى اللقاء.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. مقالة الأستاذ حنا أبو حنا كتبها بعد وفاة الشاعر مباشرة، لذلك يفضل دائما ذكر تاريخ النشر الأول. هذا مهم للتوثيق، والا فالقارئ يمكن ان يظن انها كتبت في 11 اغسطس 2011 التاريخ الذي ظهر في اول المقالة!!

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>