مع ديوان ” أن نشرب السراب ” لفرحات فرحات/ حنا أبو حنا

قراءة في ديوان “أن نشرب السّراب” * “الألم وجوديّ, ونحن القراء أمام أسئلة كبيرة حول العدالة والظلم، حول طبيعة العلاقات في هذا الوجود حيث لا تتوازى كفتا الميزان”

مع ديوان ” أن نشرب السراب ” لفرحات فرحات/ حنا أبو حنا

غلاف "أن نشرب السراب"

.

|حنا أبو حنا|

الشاعر حنا أبو حنا

يفتح عنوان هذا الديوان أبوابا ً ولا يغلقها ويترك القارئ أمام أسئلة يستوحيها: إن شرب السراب وهم وخداع والسراب هو الوهم الذي يخدع البصر كأنه الماء الذي يغازل الروح الظامئة في الصحراء ثم يفتك بها بالظمأ..

نقف عند القصيدة الأولى: “كيف سأبدأ أغنيتي؟”. يدور الحوار بين القصيدة والشاعر, فالقصيدة تهمس:

هل تكتب لي قطرة حب ٍ

أو دمعة شهد ٍ في نيسان؟

وفي سؤالها الهامس هذا: العطش إلى قطرة حب, لكن السؤال يتأرجح حالاً إلى دمعة شهد حيث اقتران الدمعة بالشهد قد يعني دمعة الفرح ويأتي ذكر نيسان ليحمل عطر الربيع. فالشّاعر في حالة من الحيرة ولكنه لا يعرف أن يعيش في الوهم, إنه مسكون بالحزن والحيرة: “لا أعرف كيف تكون أغنيتي” وتمنى لو يعرف. كما أنّ همّه هو الحنين لليوم الآتي: “أستبق الموج إلى الشطآن”. القصيدة حافلة بالمعاناة: نزيف في الصدر (شلال), قدم تتعثر فوق “أزقة الجّرح”. الشعور بالمأساة راسخ وهذا الشعور قرين للاعتراف بالضياع:

“فأنا لا أعرف كيف أصول

أو كيف أجول أو كيف ستبدأ مأساتي”

والجوّ عاصف بالحزن, بالألم, بالصّقيع وبعد حين يتكشف سر الألم, بشكل تقريري:

“يؤلمني أنّ الله هناك

في كلّ مكان

قد أعلن موقفه الآتي:

لا فرق: شعوب الأرض

ما بين الأبيض والأسود

ما بين الظالم والمظلوم

ما بين القاتل والمقتول

وأظن بأن الشرح بسيط

وبأنّ َ كلامي مفهوم”.

الشاعر فرحات فرحات

فالألم إذن وجودي, ونحن القراء أمام أسئلة كبيرة حول العدالة والظلم, حول طبيعة العلاقات في هذا الوجود حيث لا تتوازى كفتا الميزان. والسؤال الهامس الذي تـُستهلُ به القصيدة وتوجهه إلى الشاعر هو بين عاشقين ليس بمعنى العشق المعروف, لكنه بين الشاعر والقصيدة التي تتوق إلى عالم يسوده الحب والعدل. ويرى الشاعر أن أغنيته المجروحة بالظلم وبطش الظالم بالمظلوم تحمل سر المأساة, وهو لا يرى أفقا ً لهذا السباق بينه وبين الموج سعيا ً إلى شطآن الأمان. يقول:

“مأساتي أضحت أغنية في عرس الموت

في ظل الصمت

في عهد لا يملك أحد غير الكلمات

تأتي وتروح

كلهيب الشمس المسروقة في شهر شباط”

إذن هي مأساة, وماذا أبلغ في التعبير بمثل هذا النوع من الطباق “عرس الموت” ثم الخروج بهذا الحكم اليائس حيث ليس سوى الكلمات ملجأ أمام المأساة. وأخيرًا يعتذر لأغنيته لأنه لا يستطيع أن يكتب “قطرة حب”: “فالنغمة ما زالت تدمي

وهجًا

مطرًا

دمعًا

وحنيني لليوم الآتي يبقى”

ونبقى مع السّراب في قصيدة “فاتا مورغانا” والكلمة تعني نوعا غير عادي من السراب, فالسراب أنواع عديدة ومنه ما عرفتـّه العربية باسم “سراب الواحة”. يستهلّ القصيدة بتوجيه الخطاب أيضًا إلى مخاطب مؤنث. إنها الأغنية- القصيدة:

“أريدك سرابًا

أو سحابة ليلية

أريدك وهجًا يذوب

في ليلة سرمدية

أريد سرك أن يموت

هناك

خلف جدار الصين

أو خلف تلال العروبة المنسية”

نجد هذا الخطاب في العديد من قصائد الديوان. في الاستهلال في قصيدة “دعاء”:

“فلتنثري هذا البكاء لأنني

سأصوغه شعرا ً على صدر الزمن”

وفي “خارطة”:

“أقرأ في صوتك خارطة الوطن

ممتدًا بين حقول الشوق

وصلف العيش”.

وفي “خارج التغطية”:

“كيف لي أن أسبق الريح إليك ِ

وأنت خارج الزمان والمكان”

وفي “حالة أولى”:

“سأخرج وحدي لأبكي عليك ِ

ليوم ٍ, لشهر ِ, لعقد لأكثرْ”

وفي “حالة ثانية”:

“إتبعيني واتبعي درب القصيدة

واسكبي نزف المتاهات”

وفي “حنين”:

“أطلي بماء الورد أغنية تضيع

عن بيت جدي

في أزقة ذكرياتي”

ولا بدّ أن يقف القارئ عند قوله: “أريدك ِ سرابًا”. من يطلب السراب متعمدًا؟ من يطلب أن يسوده الوهم وهو عالم أنه وهم؟ لا بدّ أنّ المأساة فاجعة وهو يحاول أن يكون في حالة المخـَّدر.. “أريد سرك أن يموت”, سعي حثيث لدفن آثار المأساة بعيدًا بعيدًا خلف جدار الصين أو خلف تلال العروبة المنسية. هنا يصل الباراشوت إلى الأرض, ويقف الشاعر على أرض المأساة! وفي قصيدته “حنين” يخاطب الأغنية مرة أخرى:

“أطلي بماء الورد أغنية تضيع

عن بيت جدي

في أزقة ذكرياتي..”

حتى الأغنية التي يمكن أن تكون حضنًا دافئًا إلى حين, حيث الذكريات هي البلسم, هذه الأغنية “تضيع” ويا ليتها كانت “تضوع”!

وتجيء القصيدة التي حمل الديوان عنوانها: “أن نشرب السّراب”. إنه يناجي القصيدة:

“في صحوة الإعصار أسأل ثغرك الباكي

عن حفنة من نار ْ

عن كسرة من دمعة صغرى..”

الناس يسعون إلى كسرة الخبز قوتا ً, أما كسرة الدمعة هذه, فهي أعمق غورا ً من المأساة السانحة.. إنها المأساة الكبرى التي يمضي الشاعر شيئا ً فشيئا ً إلى جلائها:

“أتسلق جدران القصيدة

عل َّ وهج َ الحروف يضيء لي عتم الطريق

أسألها أن تجمع لي شتات أفكاري..”

نعيش في شعر فرحات الألم الذي نعرفه ونحياه: “حفنة من أحرف صغيرة/ مزروعة بالشوك والأحزان” الشمس بلا ألوان.. والتربة ما عادت تنبت أزهار الرمان.. وتتصاعد نغمة الألم والويل متصلة بالأرض حافلة بالمأساة:

“هل تدري سيدة رحلت

أني مزروع في صمتي

وبأني بت بلا عنوان؟”

إنّ الوقوف عند هذيْن السّطرين يكشف عن سرّ الألم وهول الضياع حيث يصبح المرء بلا عنوان. وشيئا ً فشيئا ً تتكشف أبعاد الألم وأسراره ومرة أخرى يهبط الباراشوت إلى الأرض الدامية:

“إلى حيث يكمن طائر الرعب

في خطوط البداية والنهاية

معلقة على وجنات الشعر

برمال زينتها دموع الأطفال

ونفثتها عند شواطئ غزة

كوني شلالا ً هادرًا

يملأ أيقونات الحرية

فتاتا ً من الخبز والحلم

على جبين الذل والهوان”

ويعلو الطلب من القصيدة:

“أيتها القصيدة

علـّقي على حائط التاريخ

تاريخ انهزامي

ثم ارشقيه بماء الورد

وانثري فوق حروفه

أهازيج العودة

موشحة بصوت فيروز

القادم ِ من بلد الإعصار

آه ٍ يا فيروز

مدي جسرا ً بين قلبك المزروع في بيروت

وصوتك الآتي من الشام

آه ٍ يا فيروز

خبئيني في ثنايا صوتك الدافي

مع تراتيل الصباح ورحيل الطيور

دفئا ً وسلام ْ”!

وقد يصل الألم أحيانًا ضفاف اليأس, فالويلات تتوالى, والمآسي قطار رحلته طويلة, و”هولاكو” يعود ملبيًا نداء بغداد وإذا بالشاعر الذي يمزقه الألم يصيح:

“أوقفوا هذا القطار فإني راحل

ما عدت أحتمل التخلف في مسار التائهين

ما عدت أحتمل التعصب

في قلوب الؤمنين

قاموسكم أضحى كلاما ً نافرا ً

وخطابكم,

متعثرا ً كغبار صحراء العرب

وعيونكم

حمقى يغطيها الرمد..”

ويمضي صوت الاحتجاج والاستنكار ليجتاز كلّ الحدود:

“سجّلوا أمامكم:

فراشاتكم,

لن تطير بعد الآن فوق سمائي

وأهازيجكم,

لن تخرق بعد الآن طبلة أذني

فأنتم خرافة ككل الخرافات :

لم يمتطِ عنترة صهوة جواده

ولم يستل طارق بن زياد سيفه

فأنتم خرافة ككل الخرافات

وأضحوكة في سر التكوين !”

وفي القصيدة  “ملنخوليا” يخاطب اليأس:

“يا يأس ُ

وأنت عائد إلى مفارق الشيب

في مقاطع التاريخ

….

أيها المعلق على لوائح الصقيع

مد يديك إلى المجهول

علـّك َ تلمس رائحة الأمس

مرسومة على خيوط العنكبوت

منثورة على خد طفل عربي

باعته أمه في سوق عكاظ

قافية على البحر الكامل..”

هكذا تعلو وتهبط أرجوحة اليأس والأمل, ففي قصيدة أخرى: يريد أن يروي حقول اللوز في زمن البغاء ويعود يزرعه لينبت طفلة.. ويخاطب تاريخنا النائم عن المجد:

“يا مرتع التاريخ

في أوطاننا

طال السبات ُ

ألا تفكر في الرحيل؟

إني كتبتك َ من جديد

ها هنا

وشما ً على صخر الأبوة

في الجليل”

ويظهر الديوان بهذا المقطع من قصيدته “دعاء” حيث يقول:

“فلتنثري هذا البكاء لأنني

سأصوغه شعرا ً

على صدر الزمن ْ

وأصونه

في مهجتي ودفاتري

ضربا ً من الإيمان

في وجه المحنْ”

وقد رأينا كيف اعتذر لأغنيته مؤكدًا:

“أنّ النغمة ما زالت تدمي

وهجا ً

مطرا ً

دمعا ً

وحنيني لليوم الآتي يبقى”

وبذا يتحول الوجه الآخر لعنوان الكتاب ليصبح: “لن نشرب السراب”.

شكرا ً لفرحات على هذا الديوان وشكرا ً لكم على الاحتفاء به.

.

ديوان فرحات فرحات الأخير بين الفرد والمجموع/ باسيليوس حنا بواردي

أمسيه شعرية احتفاءً بإصدار “أن نشرب السراب” للشاعر فرحات فرحات

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>