رِسَالَة إلِكترُونِيّة/ حنا جبران

أنا أريدُ أن أعيشَ جميعَ أحرفِ الجرِّ معك… أريدُ أن أكونَ خارجَك كذلك، وفوقَك، وتحتَك، وعليك، وداخلَك… أدخلُ وأخرجُ وأعلو وأهبطُ وأنامُ وأصحو… أريد أن أشاهَدَ وأُحَسَّ وأُعاشَ بلمسٍ وهمسٍ ومسٍ وحِسٍّ –أريد أن أُلْتَهَم- فأنا قربانٌ جاهزٌ ليكونَ ذبيحةً حيةً على مذبحِ حبِّكِ المترددِ

رِسَالَة إلِكترُونِيّة/ حنا جبران

بريشة: أليسون ليفنغستون

|حنا جبران|

حنا جبران

قلتِ مُطَمْئِنَةً: تأكد أنك دائمًا تسكنُ في أعماقِ أعماقي.

فكرت مليًّا بمعنى الحبّ عندما يتحولُ إلى شهادةِ طابو نحملها في قلوبنا تثبت لنا أننا نسكنُ في قلب محبّينا.

أوقفتني كلُّ كلمةٍ من كلماتِك- “تأكّد أنك دائمًا تسكنُ في أعماقِ أعماقي”! بعد سنينَ طويلةٍ من عَيْشي إياك! ما حاجةُ فعلِ الأمرِ المطمئنِ؟ أأحتاجُ إليه بعد سنواتٍ ما تساءلتُ يومًا خلالَها عن مكانِ سكني داخلَك؟ لستُ بحاجةٍ لأن أتأكدَ من أنني أعيشُ، فأنا أعيشُ، وأتنفسُ، وأتحرّكُ، وأنمُو، وأحبُّ… نعم، ما زلتُ أحبُّ. فماذا يفيدني التأكدُ ممّا هو ليسَ بحاجةٍ إلى الإثباتِ؟ إذا لم أكنْ أعلمُ علمَ اليقينِ أين أسكنُ فيك، فلا كلامٌ، مهما علت درجةُ تأكيدِهِ، يسكنني هناك. في اللحظةِ التي أشعرُ فيها بأني بحاجةٍ إلى تأكيدٍ، إلى أن أنظرَ حولي لكي أتيقنَ أين أنا، وفي قلبِ من أسكنُ، فسوفَ ألملمُ أطراف حبّي وأرحلُ، بعيدًا عن القلبِ، بعيدًا عن الحبِّ.

أنا أعلمُ يا حبيبتي؛ كلمةٌ لم تعودي تستعملينَها منذ فترة، أنّ خلافَنا ليس فيما إذا كُنا نحبُّ أو لا نحبُّ، ولكنه في كيفية حبَّنا. أنتِ تعلمينَ كذلك أنك تسكنينَني، ولكننا في الفترةِ الأخيرةِ لم نعد نعرفُ عنوانَ سُكنانا، فتهْنا- تهْنا في فضاءِ الحبِّ نحاولُ أن نُمسِكَ فيه بطرفِ حبلٍ يقودُنا من جديدٍ إلى حيث نريدُ، ولكنَّ رمالَ العاصفةِ أعْمَتنا عن إيجادِ طرف حبلِ الحبّ.

خلافُنا يا حبيبتي هو لغويٌّ نَحْويٌّ يتمركزُ حولَ حروفِ الجرِّ. فأنا، يا حبيبتي، لا أريدُ أن أكونَ فيك! أنا أعلمُ أني فيكِ- أنا أريدُ أن أعيشَ جميعَ أحرفِ الجرِّ معك، وجميعَ ظروفِ المكانِ والزمانِ. أريدُ أن أكونَ خارجَك كذلك، وفوقَك، وتحتَك، وعليك، وداخلَك – أريدُ أن أكوَن معَك، وأثناءَك- أريدُ أن أكونَ أمامَك وخلفَك أدخلُ وأخرجُ وأعلو وأهبطُ وأنامُ وأصحو- أريد أن أراني وإيّاكِ بمرآةِ أعيننِا أو بانعكاسِ مرآةٍ تخجلينَ النظرَ إليها لترَيْنا. أريد أن أشاهَدَ، وأُحَسَّ وأُعاشَ بلمسٍ وهمسٍ ومسٍ وحِسٍّ –أريد أن أُلْتَهَم- فأنا قربانٌ جاهزٌ ليكونَ ذبيحةً حيةً على مذبحِ حبِّكِ المترددِ، الخائفِ، الذي ينظر يمنةً ويسرةً ولا يجدُ ما يعيشُهُ سوى قولٍ يؤكدُ لي أني أعيشُ في داخلِ داخلِك.

عفوًا، سّيدتي، فأنا خارجُ خارجِكِ ما أبحثُ عنه.

عندما يتمشكلُ الحبُّ لا تفحصي براغيَهُ ولا مساميرَهُ، بل عيشيهِ واقفِزِي فوقَهُ وعليهِ، وتمرمغي بترابِهِ وعُشبِهِ، فإن هوى، فهو هوى، والهوى يهوي، وسوفَ نشعرُ بسقوطِنا الحرِّ عندما يهوي

كم يمكنُ لناسكِ حبٍّ أن يعتزلَ داخلَ كهفِ أعماقِكِ؟ لقد اعتزلتُ طويلاً ولم أذُقْ لقمةَ خبزٍ إلا مَعَكِ. دُعيتُ إلى تذوّقِ الطعامِ، فلم أمضَغْهُ، بل شَممْتُ رائحتَه وأنا أتخيلُّ وصفةَ طعامِكِ أنتِ، فما فتحتُ فمي، ولا أدخلتُ شيئًا إلى شيئي. فهل أطمئنُكِ لأقولَ لكِ “تأكّدي أنَّكِ ما زلتِ في عمقِ أعماقي؟” فأينَ تمضغينَ تلك اللقمةَ؟ وكيف يعيشُ الجسدُ من دونِ خبز، مع أنّهُ ليسَ بالخبزِ وحدَهُ يحيا الإنسانُ؟!

أحيانًا يتمشكلُ الحبّ بتعريفِهِ. نحاولُ أن نتأكدَّ من تلكَ البراغي التي تربطُ أعمدَتَه، وهل مساميرُ أخشابِهِ ثابتةٌ. عندما يتمشكلُ الحبُّ لا تفحصي براغيَهُ ولا مساميرَهُ، بل عيشيهِ واقفِزِي فوقَهُ وعليهِ، وتمرمغي بترابِهِ وعُشبِهِ، فإن هوى، فهو هوى، والهوى يهوي، وسوفَ نشعرُ بسقوطِنا الحرِّ عندما يهوي. عندها، على الأقلِّ، نكونُ قد جمعنا ذكرياتِ السنوات العشرِ في قلوبِنا، فمن يسكنُ أكثرَ من سنواتٍ سبعٍ، حسبَ قانونِ الحبِ، يمتلك المكانَ إلى الأبد، من دونِ ورقةِ طابو. فمن يمكنه العيشُ في مكانٍ وطئت أهداب عين ساكنِهِ الأسبق جميعَ زواياه؟ وهل يتحملُ القلبُ وقعَ أقدامِ الغزاةِ بعد أن اعتادَ على ملامسةِ وغَزَلِ وهمسِ ولمسِ وتدليلِ وتدليكِ رموشِ العينِ له؟ أوتفهمينَ لماذا لا يزعجُني عدمُ تأكيدِكِ لي أني أعيشُ في داخلِ داخِلِك؟ أنا أعلمُ أني أعيشُ هناك! إن دخلَ قلبَكِ أحدٌ، وأنا أشكُّ في ذلكَ، فسوفَ يراني مكتوبًا محفورًا على جدرانِ داخِلِك، جدرانٍ تحملُ كلماتٍ جبرانيّة، تعزفُ لحنًا فيروزيًّا لا يزولُ.

لأننّي أنا، ولأنّكِ أنتِ، فسأنهي باعتذارٍ إن كنتُ قد ظلمتك، فأنا لا أحيا في فردوسٍ، ولي هفواتي، ولي ظلمي، ولي طلعاتي ولي نزلاتي، ولي حبيبة تغلّبُني وأغلّبُها.

رَدّ

توقّفت عن فحص “ميلي”، وفوجئتُ برسالتك تصلني في أسبوع الآلام، وكأنّك أردتني أن أعيشَ ذكرى هذا الأسبوع مع السيّد المسيح، فهو جاء ليفْدِيَنا بموته، وأقلّ ما يمكننا عمله هو أن نعيشَ ألمه. أشكركَ لذوقِك في اختيار الزمان، فأنت دائمًا تسيطر، وأنت دائمًا تختار، وأنت دائمًا تُفلسف زمكانية اختياراتك– فمن أنا لأقفَ أمام بلاغتِك؟ وكيف يمكنني، أنا الإنسانَ الذي يفكر من خلال نبضات قلبه أن يتغلّب على حدّة تفكيرك؟ نعم يا عزيزي، فلك حبيبة، تغلبك وتغلبها، ولا أرى للتغليب مكانًا.

سئمت من الفاعل المستتر وجوبًا وجوازًا مهما كان تقديرُهُ! اشتقت إلى رفعِ اسمِ كانَ وخبرِ إنَّ، فماذا حدث للروافع؟

في أسبوعي هذا سوف أعيش معك درب الآلام، فلكل منّا صليب يحمله، ويشّرفني أن تكون صليبي وسبب آلامي، فأنا ما تهرّبت يومًا من مسؤوليّة، وما اخترت أبدًا الطريق الأسهل، وأنا على استعداد أن أصلبَ وأدفن من جديد، لعلّ أعجوبة القيامة تتحقق فيقوم حبّنا ليحيا من جديد، روحًا تعيش في جسد غير بشري، فأنا قد سئمت الجسد البشري، ولم أكن أعي أبدا أنه يمكن أن يكون سبب خلاف، فقد أسكنتك في روحي، وخبّأتك في قلبي، ولكنّك فضّلتَ الخارج عن الداخل، واخترْت المحسوسَ بدل المُطلق، أنت أيها الفيلسوفُ الذي يتنقل بين الرّوح والجسد، فيغور بشهوات روحه ويحلّق بتسامي جسده.

أنا ما أرغمْتك على الصّيام يا عزيزي، وقد يكون حان الوقتُ لتفحصَ أسنانك، فقد يكون أصابها وهنٌ فأصبحت عاجزة عن المضغ. لن أحاسبك على رجولة أسنانك، فأنا ما تعوّدت الطعن، ولا قِسْتُ يوما حجم سِنٍّ، أو قوة ضَرْسٍ لأحتسب رجولتك، فأنا أبحث عنها في القلب، فهناك، وفقط هناك، يحيا ويموت الأبطالُ الحقّ، والمسيح بطلي، وأنت بطلي، ولكنك قرّرت الخروج لكي تشنَّ عليّ حربًا كلامية، فيا ليتك أبقيت جمراتِها مرمّدة، فقد استَعَرَت نارُها الآن، وعلا لهيبُها، فشوَتْ صبري، وأجبرتني على الردّ، فأنا أتألم، وسوف أشْركك في ألمي، بعد أن أشركتني في ديني.

تقول إنَّ خلافك معي لغويٌّ يدور حول أحرفِ الجر. فأيّ جرٍّ تتحدّث عنه يا عزيزي عندما أصبحتَ تفشل في الجزم؟ فأنا لم أوصلْك إلى قلبي إلا من خلالِ المرور عبر جسدي، وقد عشت أحرفَك الجارَّة، وقد جرّبْت ظروفَ مكانك وزمانك، وبصراحة، لم أنفعل، ولم أفتعل، ولم أتفعفل. أوتظنّ أنني غيرُ قادرة على حَمْل غزواتِك؟ طلعاتِك ونزلاتِك؟ أو تظن أني لا أحسُّ بتيّاراتك عندما تهبُّ على جسدي من جهاتك الأربع؟ أوتظنُّ أني أجبُن أمام أحرف الجرّ يا عزيزي؟ لقد فتحتُ لك قاموسَ لغتي بأكمله! فرشتُ أمامك المصروفَ والممنوعَ من الصرف! وضعت أمامك حروفَ النصب، فما نصبْتَ وما انتصبْت! غالبية مبتدآتك في الآونة الأخيرة محذوفة أخبارُها! سئمت من الفاعل المستتر وجوبًا وجوازًا مهما كان تقديرُهُ! اشتقت إلى رفعِ اسمِ كانَ وخبرِ إنَّ، فماذا حدث للروافع؟ اشتقت إلى اشتغالك بي، بدلا عن انشغالك عني! حتى أدوات شرطِك قصّرت فأصبحت بالكاد تجزم فعلَ الشرْط، ناهيك عن جوابه! أريد أن أشعرَ بالفاعل الظاهر، فكفاك توكيلا لنائبه بعمله! أريد أن أعيشَ المفاعيلَ كلها، أن أكون مفعولا بها أولا وثانيا وثالثا، نعم، أحنّ إلى تلك الأفعال والأعمال التي تنصب المفاعيل الثلاثة! أرغب أن أحيا المفعول فيها، وأعيشَ ثنائية المفعول معها، وأعتزَّ بجمالية المفعول لأجلها، تلك اللاأنانية التي أفتقر إلى ملكيّتها! فماذا حدث لقوة مفاعيلك يا رجل؟! أو تعلم؟ كنت لأكتفي بالمفعول المُطلق لو أنّك عاملتني بآداب القواعِدِ وقواعِدِ الآداب، ولكنك ثرْتَ، وصخبْتَ، وعربدْتَ، وأطلقت العنانَ لبلاغتك متّهمًا إيّاي بحرمانِك من أحرف جرّك- أهذا كلُّ ما تطمح إليه اليوم يا صديقي؟ أحرف الجرِّ؟!

أنا لست ببليغةٍ، ولكني أتذوق البلاغة، بلاغة الحُبِّ بمعانيها، وبيانِها وبديعِها، بتشبيهِها ومجازِها واستعارتِها، بجناسِها وطباقِها، بكنايتِها وتوريتِها، وتأتي لتحاسبَني على أحرفِ الجرِّ يا نَحويّ! إنك إلى الصرفِ تميلُ، فلا تتّجه نَحْوِي!

أريدُ أن أعيشك قصيدةً في علاقتنا، بأبياتها التامة، لا أريد مجزوءَها، ولا  مشطورَها، لا منهوكَها، ولا مخلّعَها! أريد أن أتمتّع ببحورِها، أسبح في طويلِها، وبسيطِها ووافرِها وكامِلِها. أوتعلم، حتى في هزَجِها أو مُسْتَحدثِها! ففيها إيقاعٌ، وفيها حركة، وفيها رَقْصٌ، وتبقى قصيدة، كاملة، تجمع كلَّ ألوانِ الكلام، فتأتي إليّ لتحاربَني بأحرف الجرِّ يا رَجُلي؟ أريدك قصيدة في حياتي، أعيشُ تفعيلاتِها، فَعِلن، مُسْتفعِلن، فَعُولُ يا رجلُ، فأيناكَ من الفعولُ وأين تفعيلاتك؟ أريدك معلّقة أدقُّها على جدرانِ قلبي يا شاعري، ويا ليتك بشاعري، أريد أن أذيقَكَ أبياتها كاملة، بصدرِها وعجزِها، بعروضِها، بوقع نَظم كلماتها، بِتحْرِيكِها وتسْكينِها وبقافيتها. أريدُ أن أوّشحَك، فتطرب وتلهو وتنتشي، وتأتي قُفلتك مُحْكَمَة، فلا ترتخي، ولكنّك يا سيّدي ترتخي، وتكسرُ القوافي والتفاعيل، فتجرّ المرفوع، وتكسر المنصوب، فلا عجبَ أنك تسعى وراء أحرفِ الجرِّ!

استرقتَ النظرَ إلى فتحةِ ثوبي، فَغَزَتْني عيناكَ وأربكَتانِي. في خميسِ أسراري سهرتُ معك في جِسمانيّتي، فاختليتُ لأبحثَ عن ألمِ حياتي، بينما أخذتَ تبحثُ أنت في جِسمانيّتي! فأينَ رُوحانيّة ألمي من جِسمانيّة أملِك!

لستُ بحكمتك يا أستاذي، فما أنا سوى امرأةٍ تفكر بقلبِها، وتفتح قلبَها لتُسْكنَكَ فيه، فترفض وتبحث عن خارجه. ارضَ بالقلبِ يا عزيزي، فهو أكثر سُترةً، ويخفي ضعفَ قلبك، وقد تعيدُ نبضاتُ قلبي الموقوتة الاستقرارَ لقلبك، فيتّزن من جديد، وتُضْبَط إيقاعاته، ويزدادُ قوّة، وعندها، قد تتمكن من جديد من أن تعلوَ وتهبطَ وتدخلَ وتخرجَ وتنامَ وتصحوَ دون أن تصيبَك غصّة فتخنق وتختنق! مهلا، فأنا أريد الحفاظَ عليك يا عزيزي، لتصبح فارسي من جديد، فلا تتمدّدَ ملتقِطًا أنفاسَك بعد كل جولة، ولا تكبوَ في كل قفزة فوق حواجزَ بالكاد ترتفعُ عن مُستوى جسدي، أريدك سيّدًا، مايسترو، كما ذكرت، عازفا ماهرا، مُسَيْطِرًا مُسَيِّرًا. أفهمتَ يا صديقي لماذا أريدك في قلبِ قلبي؟

لا أريد إحراجَك، ولا أريد إيلامَك، فأنا في أسبوع آلامي، فدعني أحتمل ألمي وحدي، فأنا قد حملتك داخلي وأنجبْتك قبل أن أولدَ لأعودَ وألتقيَ بك وأعيشَك. دَعْني لألمي، فأنا في خميسِ أسراري، وأنتَ، في خميس أسراري فَضَحْتَ كلَّ أسْراري، فأخذتُ مِنديلاً، مثلما فعلَ المعلّمُ، وغسَلتُ أقدامَ عنجهيّتِك لتتّضِعَ، وأنت، من عَلٍ، استرقتَ النظرَ إلى فتحةِ ثوبي، فَغَزَتْني عيناكَ وأربكَتانِي. في خميسِ أسراري سهرتُ معك في جِسمانيّتي، فاختليتُ لأبحثَ عن ألمِ حياتي، بينما أخذتَ تبحثُ أنت في جِسمانيّتي! فأينَ رُوحانيّة ألمي من جِسمانيّة أملِك!

في جُمعتي العظيمة كلّلتُ رأسي بإكليلٍ من الشوك، كلّ شوكةٍ أدمَتني، ذكّرَتْني بعزيزٍ غالٍ رحل، تركني لوحدَتي ورَحَل، اختلط دمْعي بدمي، فتخثّرَّ وأغلقَ على ألمي، حبّاتٍ من لؤلؤٍ أحمرَ تحملُ في داخلِها عصيرَ ذكرياتٍ جَمُدَت، فأوجعت، ولم ترْتحِلْ.

في جُمعتي العظيمة جَلدْت نفسي، في عاشوراءَ كنت، مع المسيح والحسين عشتُ، ونفسي مرّتينِ قدّمتُ، صُلبت، عُلّقت على خشبة، أبكيْت مُستمِعيّ، بماجدةَ وفيروزَ، وبَكَيْتُ. في جمعتي العظيمة شعرتُ بوحدةٍ أليمةٍ من على الصليب، فودّعتُ أمي، ونظرتُ إلى المَرْيماتِ، وناشدتُ ربّي أن يُعْبِرَ عني تلك الكأسَ، كأسَ خمرِ حُبِّك، ارتشفتُها ممزوجةً بخلّ، فمَرْمَرَتْ حَياتي، ولكني ما تذمّرْتُ، فأنا اخترْتُ أن أفديَكَ في حُبّي، وأن أزرعَك في قلبي، وأنت، تقف تحت قدميّ، وتنظرُ، ثم تسترقُ نظرة من أسفلي، لتراني إن كنتُ، وأيّ لونٍ كنت. تبّا لك! تبّا لك يا من تبحث عن جسدٍ، ولا تبحث عن قلبٍ! فمن فوق جلجلتي أنظر إلى سُهولِ حبك، فلا يعجبني المنظرُ، وأنظرُ إلى يساري، وأنظر إلى يميني، فأجد لصوصَ الحبِّ تهزأ وتتربّص، فأعجزُ عن حملِ صِليبي، فيحملني صليبي، وأترهّلُ، وأصُرخُ، لقد تمَّ.

تُنزلني عن صليبي، وتتمتعُ بعُرْيِ جَسَدي الملّونِ بالعَرَقِ والدِّماءِ، وتقبّلني من جبيني، وتحضنُني، وتغلّفني ثم تضعُني بقبرٍ حُفِرَ حديثا، وتقفل علي بحجرِ قلبك. أتدْخِلُني قلبَكَ وقد مُتُّ؟ أما رَفَضْتَ دُخولَ قلبي وأنت حيٌّ؟ فأيّ حكمةٍ هذه التي تدّعيها يا فيلسوفَ عصرِك، وكيف ستعيدُني إلى الحياة بعد أن فقدْتَني؟

أسبوعُ آلامي ينتهي داخلَ لَحْدِي، لحدٍ سأحوّله إلى مَهْدٍ يا قليلَ الإيمانِ والحُبِّ، يا حبيبي! سوف أنهضُ كالعنقاء، وأقهرُ الموتَ لأعيشَ حُبَّك من جديد، حُبًّا يحتوي على جميعِ أجزاءِ الكلام، من أسماءَ وأفعالٍ وصفاتٍ. فهذا إيماني، وهذا حُبّي، وهذه حياتي، وهذا رَدّي، وأنا ضَعيفة، فما أنا سوى امرأةٍ تُحِبُّ من قلبِها، من قلبِ قلبِها، حيث يعيشُ بروفيسور مُتَخَّصِصٌ في أحرفِ الجرِّ!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. من افضل الأقلام التي كتبت في هذا الموقع.
    قرأت ايضا نصه السابق.
    روح شبابية عالية رغم الهرم البادي في الصورة.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>