فعلة الجوز الأخضر/ هشام نفاع

  . |هشام نفاع| لم أفهم حتى اليوم لماذا تترك قشرة ثمار […]

فعلة الجوز الأخضر/ هشام نفاع

 

"جوز الجنة"- بريشة: فلاديمير كوش

.

|هشام نفاع|

لم أفهم حتى اليوم لماذا تترك قشرة ثمار الجوز البلدي الخضراء صبغةً بنية غامقة-شبه سوداء على أصابعنا. في أحد المواسم كنا حين نقشرها، وهي لا تزال متمسّكة بالقشرة الداخلية القاسية (أهي من خشب؟)، نظلّ نحاذر كيلا تصيب أيدينا الصغيرة بعصارتها الشحيحة الكم العظيمة الفعل المشيرة بحزم إلى الفعلة. لم يكن منطق في مثل هذا الحذر إلا لدى من يتأبطون معايير متشددة في الجمال والنظافة الطهرانية. فتلك الصبغة القاتمة التي ستزول بعد أيام بلا شك، لم تختلف عن الحنّاء، مثلا، وهو الذي كانت الأمهات لا تبخلن علينا به في أعراس أبناء وبنات الأقارب والقريبات، ولكن هذا لم يمنع بعضهنّ من فرض وممارسة عقوبات غير معقولة ولا نسبية على بناتهن وأولادهن قليلي الحذر في مقاربة قشرة الجوز البلدي الخضراء. أما ذلك الموسم الذي ارتفع فيه منسوب الحذر إلى درجات لا تخجل بها الدوائر المسؤولة عن وضع المعايير الأمنية الحديثة، فمردّ الخشية التي سادته كان معلـّمًا قرّر معاقبة كلّ من تحمل راحتاه آثار ارتكاب فعْل الجوز البلدي الأخضر.

لم يكن هذا الثمر يشدّنا إليه قبل موعد انقضاء اشتداد وانفصال قشرتيه، الخارجية الفاضحة والداخلية القاسية، عبثًا. فقد اجتمعت أسباب أربعة لتكوّن ما يشبه ثقبًا أسود من الجاذبية والإغراء يشدّ الأيادي ويحفّز تطاولها إلى الثمار المحرّمة. لا أدري لماذا كان أجدادنا يغرسون أشجار الجوز على أطراف الكروم والبساتين خصوصًا. لا أذكر أني رأيت شجرة جوز في وسط كرم، ولربما يعود هذا إلى أنه لم يتم التعامل معها كشجرة ذات مقام أساسي فيما يمكن أن يشكل “مونة السنة”. فالحياة يمكن أن تسير من دون جوز، لكنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة للزيتون وزيته والقمح ودقيقه وسائر أقربائه من حبوب. بل إن قيمة الجوز لن تعلو حتى لتصل العنب والتين، وليس لأسباب اقتصادية فقط، بل أيضًا لأنّ أي إنسان ذي معقولية في مثل هذا الظرف كان سيفضّل التين والعنب المجففين، القطّين والزبيب، على كيس من الجوز اليابس.

هذا الاقصاء النسبي للجوز، معنويًا وفعليًا، جعله يعيش على الهامش وهو ما سهّل علينا قطفه خلال تجوالنا الذي لا ينتهي بين الكروم، وسط تجاهل تامّ لحقيقة أن ما كنا نقوم به إنما هو فعل سرقة وفقًا لأيّ كتاب قوانين عصريّ معتمد. هكذا نكون قد جمعنا سببين في سبب واحد: لقد أقصى أهلنا الجوز إلى الأطراف فصار اقترابنا منه أكبر خلال ممارسة أولى بوادر التمرّد الفتيّ: تأميم المُلك الخاص وعدم التردد في التشارك فيه حتى وإن اعتبرتِ الأعراف ذلك جُنحة وجناية.

في جولات التأميم الاشتراكية لممتلكات الناس المغروسة في الكروم والحقول المحروثة والمعزوقة والممشّطة من الحصى، كانت الأقدام الصغيرة تغوص في تربتها المغربلة لشدة نعومتها أحيانًا- حين يكون أصحابها من المجتهدين المثابرين. وكانت الأيادي الصغيرة تبحث عن كلّ ما تكوّر من ثمر دونما اهتمام بما لو كان قد نضج. ربما أنّ الأطفال والفتيان هم من اخترع أكل الخوخ الأخضر والمشمش الأخضر واللوز الأخضر، وهي كلها شديدة الحموضة. هناك استعجال مراهق أهوج نافد الصبر لتذوّق الجديد حتى لو لم يكن حلوًا؛ فضول ملؤه الدافع الأوليّ الشهيّ دونما سؤال عن أنانية منافع النتيجة المتكاملة المطلقة. حامضٌ، نعم، فليكن ولا بأس علينا ولا على هذه الخضرة القاسية طالما هي جديد هذا الموسم، ولنرَ بعدها ما يمكن ويجب أن يكون. ربما لهذا قيل إن الآباء ياكلون الحصرم والأبناء يضرسون؛ فحين يأكل الأبناء الحصرم يضرسون بضرسهم ولا يورثون جريرتهم الشقية البريئة لأحد. وربما لهذا كان يجدّ آباء الكروم لصدّ غزواتنا نحن الاشقياء الصغار عن خضرة الكروم التي رأيناها ملكًا عامًا لا حقّ لأحد في ادعاء تملّكه.

الجوز لم يجمع فضول الرغبة الأولى لتذوّق الجديد بالخضرة الحامضة بشكله التقليدي. فخضرته عصيّة حتى على حموضة التذوّق. بل إنّ فيها مرارة لن يقدر عليها أعتى متمردي الفتوّة. لكنها كانت تكتنز بياضًا رقيقا مشتهى يغوص عميقًا خلف قشرتين. ربما يشبه الأمر ذلك المعنى غير الملموس في القصص الأسطورية-الملحمية التي يعشقها الصغار بدافع لا يمكن تفسيره، وكثيرًا ما يجري تكسيره بكومة من التنظيرات اليابسة التي تتكسر تحت وطأة التأمل كما تتكسر أوراق شجرة الجوز الجافة تحت الأقدام الناحلة المتراكضة من كرم إلى حقل فبستان فدرب وعرية صخرية يعلوها اصفرارُ غبارِ تراب الصيف. هو المعنى الخفيّ الذي يصير العقل ثقيل الدم لو حاول سبر غور سحره بالضبط كصعوبة فهمنا الفتيّ كلَّ هذه التفاهة الكامنة في فعل معاقبة فتيان تخضّبت راحاتهم باسوداد عصارة الجوز الاخضر كما لو أنهم اقترفوا واحدة من تلك الفواحش التي لم يكن أكثر منها مثارًا للشغف والرغبة والكشف والفعل والخوف من التأنيب والتوبيخ والتهديد والعقاب؛ تلك الملطخة بظلٍّ قاتم يترك أثرًا على الخيال الطفولي الفتيّ حين يجرؤ على فعْل التفكير، باليد أو القلب أو اللسان، في أيّ من الفاكهة المحرّمة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. يا لعوالم هذه الرّوحٍ الثرّة!
    رؤاها خصبة خصبة، والمحتوى كلّه يخطفك، فيزاحمُ النَّفَسُ النّبضَ من أول التماعٍ للكلمة حتّى دوران الرأس من ملاحقته لنجومها المتكاثفة ها هنا
    ممتنّة لهذه الملحمة الجماليّة!

  2. رائع

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>