مَيّتًا يدخل اللّغة، حيًّا يخرج منها: عن كُشتبان زكريا محمّد

مَيّتًا يدخل اللّغة، حيًّا يخرج منها: عن كُشتبان زكريا محمّد

هذا هو الشّعر، المضيء بالفكر: مُخّ الأسئلة، وعباداتها، وعذاباتها الأكيدة. وإذا كان الشّعر يُفضي إلى الفِكْر، فإنَّ الشّعريّة، في نماذج لافتة في الكُشتبان، لا تبدو إلا تأكيدًا على فكريّتها، فالنّصّ لا يذهب للتّجريد الآثم، والصّورة الّتي لا تولّد معنىً، أو حالةً تفضي في نهايةِ مطافها إلى فكرةٍ واحدة، أو تأمّلاتٍ أخّاذة.

koshtaban

| علي أبو عجميّة |

الجزء الأوّل 

menassat - ali abu ajamieh

لَفَعَ الشَّيْبُ رأسه كلّه، وغنّته مزامير الرّحلة، وعمّده البحث، بدمِ التّجربةِ الشّجرة، إنّه المُتلفّعُ الأَشْيَب، العتيقُ بن الحديث، والحديث بن العتيق؛ الرّجل البلوطيّ، والتّرابيُّ المائيُّ المتوسّط: زكريّا محمّد. في مجموعته السّادسة: (كُشتبان)، الّتي صدرت مؤخّرًا عن دار النّاشر برام الله، يأخذنا الشّاعر الكبير إلى مناطقه السّاكتةِ، والسّاكنة؛ المشتبهةِ، والمشتبكة. وبمنطقِ الطّير، واللّيل، والحطام المقدّس، يحاورُ اللّغة، ويبعثها من جديد.

كيف يبدو تفكيك الكُشتبان؟

يبدو تفكيك الكُشتبانِ أفقيًّا، أكثر من كونه عموديًّا؛ لهذا تبدو الجملة الشّعريّة في هذا التفكيكِ الأفقيّ أفقيّةً أيضًا. ظلال شجرة البلّوط، هي ظلال النّصّ، الّتي تمتدّ بجناحين في تحليقها الوسيع. وإنّها، نادرًا، ما تمتدّ رأسيًّا كما نلاحظ في القصائد التي أدرجها الشّاعر في القسم الأخير من مجموعته، والّتي يشير- في معرض حديثه عن المجموعة – بأنّها كتبت قبل العام 2012، أي قبل دخوله عالم “الفيسبوك”، الّذي يرى فيه الشّاعر، انعكاسًا جديدًا، ولافتًا في تحوّله، وأثرهِ على التّجربة الكِتابيّة عمومًا، وعلى شِعره ، على نحوٍ خاصّ.

إنَّ شُغلاً كتابيًّا كهذا من شأنهِ أن يُهدّمَ حِجارة البناء اليقينيّة، ومن شأنه أنْ يطرح سؤالاً كبيرًا حول قصيدة النّثر الّتي تتّخذ من الطّولِ مسرحًا، ومن المفردة البهيجة، اللّامعة، سِياجًا مُطمئنًّا.

الرّأس/ الكُشتبان: حَمْلٌ أخضر، والبلّوط ليس لعبة الشّاعر.

“شجرة البلّوط تحمل كُشتبانات خضراء، كأنّها تريد أن تخيط لنا ثوبًا، أو كأنّها تعرض علينا لعبة ما؛ لكن أنا لا ألعب مع البلّوط، ألعب مع شجرة الخرّوب، أعلّق قرونها السّوداء مثل حَلَق في أذني، وأصفّ بذورها على ورقة بيضاء كي تتدفّأ تحت الشّمس. قد ينبت لها الدّفء أجنحة فتطير في الفضاء. بذور الخرّوب حشرات لمّاعة بها شوقٌ للسّماء الزرقاء…” (ص 44).

الخريفُ المُبجّل

تحتفي نصوص المجموعة، بفصول السّنةِ، وشهورها، وطقوسها، وأمزجتها، حتى إنَّ إسقاطاتها على الشّاعر والكائن معًا، تتّخذ من الطّبيعة لبوسًا لها، كما تتّخذ منها إطارًا نفسيًّا للكتابة.

لقد طرح زكريّا محمّد (مزمار الخريف) عنوانًا للمجموعة ضِمن اقتراحاتٍ عديدة، تلائمها، وتحكي عن مضامينها، وأصباغها؛ فالخريف، في كثير من نصوص المجموعة، مُبجّلٌ جدًّا، حتّى يكاد يكون غائبًا مُنتظرًا، أو مُخلّصًا من حمولاتِ الأمس الثّقيلة، والحارّة.

الخريف المبجّل، هذا، يشكّل أحد فتوحات الكُشتبان الشّعريّة، والّتي نستطيع أن نصفها بفتوحات الرّغبة؛ إذ تبدأ بانتظار عناصر نفسيّة خارجيّة؛ لتظفر بجديد الغدّ: الخريف بحزنه، وتجريده. إنَّ هذه الفتوحات تكشف أغطية الضّجر، وتنتشل البقاء من الرّتابة، والسّكون، والجماليّات المُكرّسة في” تلال الرّبيع”؛ تلك التّلال الّتي يهجرها الشّاعر، منحازًا لتلالهِ الخريفيّة.

“أنتظر نهاية آب، ومقتل أيلول. أيّها الخريف الّذي يتلكّأ، أنا هنا بانتظارك. طبخت لك عصيدة، وأشعلت نارا.

تعال، واكنس بريحك الشّمس الصّفيقة. ارفع يدها عن كتفي. الصّيف يجثم ثقيلًا فوق صدري. لكن يدي البيضاء تحلف بالخريف، وتُعدّ له السّرج.

آهٍ يا حصان الخريف الأبلق. يا من يدرس فكرتي وينفّذها: سلاسل حجريّةٌ تصعد سفح التّلّة،

وغيومٌ مشتّتةٌ تصعد سقف السّماء.

ولا شيء غير هذا، لا شيء. يمكن زيادة هدّة رعدٍ كي تتخلخل عظامي وعظام الدّنيا. أمّا أنتم فقد ظننتم خطأً أنّ الخيل تسكن في تلال الرّبيع. لا، تلال الخريف هي مسكن الخيل.

تشتمّ مهتاجةً رائحة المطر، فتّتسع مناخرها، وتقفز فوق السّلاسل الحجريّة صاعدةً نحو القمّة، كي تقضم أطراف الغيمة.” (ص 41).

“والخريف لا يخجل من خرفه. يقعد على الصّخرة، بضع فمه على فم الزّجاجة، ويكرع” (ص 15).

“أنا والخريف شيخان بطّالان، لا عمل لهما، ولا يحسبان لشيءٍ حسابا” (ص 15).   

” … الخريف بطيّونه الدّبق، بعينه الصّفراء، بيده المرتجفة سيطردك أيّها الصّيف المغرور المتعالي” (ص 29).  

“الخريف شيخٌ اكتفى من كلّ شيءٍ، وقعد وحده يعالج أشياءه الصّغيرة. من قطن الغيمة صنع قميصه، من ورق التّين الأخضر صندله، من طحلب الصّخور حنّاء يده، ومن الرّيح الخفيفة روحه” (ص 65).  

“طيور الخريف الأوّابة تحمل لي وعدين اثنين لا وعدًا واحدًا على أجنحتها. وعدٌ يفتح لي قبري ويقول: انهض، فقد نهض المسيح. أما الآخر فيجلدني بالرّعد والمطر” (ص 93).    

“شجرة تين تغنّي وهي تدخل الخريف: آه يا ريح الخريف الشّقراء، آه يا بَرَده الأبيض، اجلداني، اجلداني بلا رحمة، كي يتساقط ورقي.” (ص 164).

لا عنوان في مركزيّة اللّغة 

لا عناوين، لقصائد الكشتبان. وكأنّها تقول: لا مدخل يفضي إلى بيت القصيدة، ولا باب أوّل، المدخل: هو البيت كلّه، والباب: هو هذا النص، أمامك، ادخله كاملاً، إنّني أريدك فيه. ما قيمة العنوان؟ ما قيمة اللّغة على رأس اللّغة؟ لغة الكُشتبان، في هذا السّياق، كافية، آسرة، سائلة، تتنامى في معمار النّصّ، وعلى سطوحه، بينما تتولّد مركزيّتها بمفرداتٍ بعينها؛ لهذا نجد هذه المفردات، منيعة، وكأنّها منحوتة خاصّة.

المفردات المنيعة في مكانها، وفي الوقت الذي تنتبه فيه لمواضعها الحداثويّة، نجدها تأسيسًا على الموروث، وتأثيثًا له، بطريقة العارف الّذي يؤمن بوضعيّة اللّغة، ورحابة سِلالها، وامتداد سُلالاتها.

لا يمكث في إصبعي خاتم، ولا سرّ في قلبي. ولا أحسب للكلمات حسابا. النّار حسابي. النّار صنمي، والشّرر غنمي. بالنّار أفتق وأرتق.” (ص 187).

النّار أرملةٌ تتوجّع: خاتمها يتلهّب في إصبعها والحمّى تأكل قرنيها وضفيرتها. النّار أرملةٌ تتذكّر والذّكرى موقدها” (ص 194).

شِعريّة الفِكْر أم فِكريّة الشِعْر؟

فِكْرُ الكُشتبان، قاسٍ، لكنّه دافئ؛ يتّخذ من السّؤالِ حربةً، ومن الكائنات، لِحافًا فنّيًّا. وبهذا تكون شِعريّتهُ، المتولّدة، والمتوالدة من الفِكْر ذاته محمولةً على الجماليّات.

“مَنِ الّذي يرعى العشب على الضّفّة: أهو الحصان، أم الماء الّذي يتدفّق في المجرى؟ ومَنِ الّذي يجري خببا، بعد أن رمى سرجه ولجامه؟ أهو الحصان أم النّهر؟ لا أحد يقدر أن يجيبك على سؤالك. عليك أن تذهب إلى الماضي كي تحصل على إجابة. فالإجابة بين صور طفولتك في الألبوم. آه، أيّكما سيمضي بي إلى الماضي: أنت أيّها الحصان، أم أنت أيّها النّهر؟ من منكما سيحملني خببا، ويرميني هناك عند أقدام تلّة الماضي؟ الحصان يخبّ، والنّهر يخبّ، والماضي يخفت ويخفت، ويضيع.” (ص 36).

ثمّة نوعٌ من التّدوير في هذا النصّ، تدويرٌ يتّخذ منحى التّأكيد والرّبط بين المفردات، الحِصان، النّهر، الماء: تَكرارٌ في مواضعه، هدفه أن يوقع الماضي في السّؤال، وأن يدخله في الضّياع، أي في الشّعريّة.

هذا هو الشّعر، المضيء بالفكر: مُخّ الأسئلة، وعباداتها، وعذاباتها الأكيدة. وإذا كان الشّعر يُفضي إلى الفِكْر، فإنَّ الشّعريّة، في نماذج لافتة في الكُشتبان، لا تبدو إلا تأكيدًا على فكريّتها، فالنّصّ لا يذهب للتّجريد الآثم، والصّورة الّتي لا تولّد معنىً، أو حالةً تفضي في نهايةِ مطافها إلى فكرةٍ واحدة، أو تأمّلاتٍ أخّاذة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>