وكأنّها البارحة/ محمود عمر

القيامة ستقوم, سينفح إسرافيل في البوق وتأتينا الأمواج من كلّ مكان. سنحشر في ساحة في القدس ويحاسب كلّ منا على ما فعل. هذا ما فكّرت فيه وأنا أرى جدي -جدي أنا!- يبكي

وكأنّها البارحة/ محمود عمر

"Old man jenkins terrible old man Sad Song"

.

|محمود عمر|

ربّما لأنّ الحنجرة أضيق من مقاس كلمة صادقة لم يكن جدّي يتحدّث عن مشاعره كثيرًا. أقول هذا الآن فقط. راقبته طوال حياتي, يمشي, يأكل, يدخّن ويجلس طويلاً على عتبة البيت على كرسيّه الأصفر مراقبًا الهواء لساعات طويلة. كانت مهنته قريبة جدًا من حقل المشاعر -كان يدفن الموتى- ومع ذلك لم يعبّر عمّا يدور بخاطره أبدًا. كان قليل الكلام بوجه مُحايد. وددتُ كثيرًا لو ألقيت نظرة على قلبه لأعرف كيف يعمل, على ماذا يتغذّى. سألت جدّتي عدّة مرات إن كان يصارحها بأشياء في خلوتهما وظلّت تجيبني دائمًا نفس الاجابة: جدّك رجّال، والرجّال لا يعبّر عن مشاعره.

ربما لم تستطع جدتي إعطائي إجابة وافية في حياتها, ربما تفعل ذلك بعد موتها. لن يقدر جدّي على أن يكون مغلقًا وهو يكفّن شريكة حياته, لا بدّ أن وجهها الشّاحب سيسرق ولو دمعة من عينه، هكذا ظننتُ، لكنّ تغسيلها تمّ, وبعد ذلك دفنها، وجدّي لا زال كما عرفته دومًا, بوجه لا يوحي بأيّ شيء.

عندما انتهى بيت العزاء, وعاد الصمت يشغل آذاننا في بيتنا الواسع, كنت على وشك أن أفقد الأمل بأيّ تغيُّر حقيقي. سرت وكأسا الشّاي في يدي إلى الغرفة لأجلس مع جدّي المتمدّد، للمرة الأولى، على الأرض من دون زوجه. جلست وأعطيته كأسه، ارتشف منها قليلاً, وضعها على الأرض ثمّ انفجر بالبكاء.

القيامة ستقوم, سينفح إسرافيل في البوق وتأتينا الأمواج من كلّ مكان. سنحشر في ساحة في القدس ويحاسب كلّ منا على ما فعل. هذا ما فكّرت فيه وأنا أرى جدي -جدي أنا!- يبكي.

مددتُ يدي ووضعتها على كتفه, لم يحاول مسح دموعه وتركتها أنا تختار طريقها في أخاديد وجهه الصغيرة. أخرج سيجارةً من صندوقه الفضّي وأشعلها ثمّ قال:

- تجوّزت ستك قبل أسبوعين من جية اليهود ع البلد, والله لسا حاسس وكإنّه امبارح.

لم أعرف، وربّما لن أعرف إن كان جدي يقصد بذلك زواجه من جدتي أم يوم النكبة.

(مُدوّن من القاهرة)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

5 تعقيبات

  1. الله يرحمها
    بس مفهمتش اي جية يهود؟
    تبعت ال 48؟
    ال 67؟
    بدايات القرن العشرين؟

  2. رائع يا محمود كما عهدناك دوما أنت مفخرة لنا جميعا باتمنى أرى ابني مبدع مثلك الله يوفقك

  3. رائع …رائع واكثر يا محمود…اتمنى لك دوام التقدم و الابداع

    دمت بود و عافية

  4. فخورة به كنت وسأظل ليس فقط لأنني والدته بل لأنه شاب طموح مخلص لغزة واهلها………………………تحية خالصة لكل الأفواه التي تتغني بقضيتنا

  5. محمود عمر ليس من القاهرة
    محمود عمر شاب غزّي مقيم في القاهرة ، هو مقيم هناك لا اكثر يتعلم ويأكل وينام وشرب ويمارس حياته العادية خارج السجن الكبير ، لكنه لا يزال من غزة

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>