إنّهم لا يعرفون نوال السّعداوي / رأفت آمنة جمال

إنّهم لا يعرفون نوال السّعداوي / رأفت آمنة جمال

في الوطن العربيّ لا يختلفُ الأمرُ كثيرًا، هُنا أيضًا لا يموت المبدعُ، بل يُقتَل، نغتالُ اسمَه حّيًّا، وننكّلُ بسيرَتِهِ غائبًا، إمّا نفاقًا، يسمّيه المرهفون منّا:”حُبًّا قاسيًا”، أو تغييبًا مقصودًا، يُشبِهُ جنونَ القاتلِ حين يعجزُ عن قطع رأسِ الضحيّة، فيظلّ يطلقُ الرّصاص أينما كان!

|رأفت آمنة جمال| 

raafat-q

رأفت آمنة جمال

ليس الموتُ مسألةً عظيمة، أو ربّما لم يعُد كذلك بعد أن كانَ الأمر العظيم الّذي كنّا نفزعُ لمجرّد ذكره أطفالًا. كانَ للموتِ طَعْمٌ، وهيبةٌ، وسؤالٌ دائم، وصَمْتٌ مُطبق. صارَ الموتُ، الآن، نبأً عاديًّا، حالةً من التّفاصيل اليوميّة، فأينَما ولَّيْتَ وجهَكَ في هذا الوطن العربيّ، ثَمّ موتٌ يُحدّقُ بكَ، فاغرًا فاه. حتّى باتَ يشكّل لدى البعضِ حالةً ضروريّة لاكتمالِ معنى الحياة! في وطنٍ عربيٍّ، لم يعُدِ الشّهداءُ فيه يُحدِثون أكثرَ من مجرّد مرور عابرٍ في شريط نشرط الأخبار، ومنشورًا فيسبوكيًّا، مبتذلًا في الغالب. أمّا الموتى العاديّون، لا يكسرون شيئًا فينا، يختصرون الحُزنَ بفنجان قهوة وتحيّاتٍ.. ونَميمَةٍ تَرُشُّ فوقَ الموتِ موتًا آخرَ، في عالمٍ ينهارُ فينا، تحت وطأة القسوة الّتي تتغلغلُ إلى مفاصلِ وجودنا الهَشّ، حين لم يعد ثمّة ما يُدهِش!

لم يعُد الموتُ إذن مُؤسِفًا، صار طقسًا يوميًّا ضروريًّا. المؤسف، ربّما، هي تلك التّفاصيل الّتي تُحيطُ بالموتِ، موت ضّميريّ لا يموت صاحِبُهُ، بل يسقُطُ، ثمّ يمّحي، وقد يتعفّن.

يومًا ما.. سيموتُ كلّ شيءٍ..

يومًا ما، سنَموتُ جميعُنا، وقد لا يحزن أحد. وستموتُ نوال السّعداوي، كما الآخرين، وسأحزن كثيرًا، لأنّ عِطرًا جميلًا سيغادرُ فضاءَنا العربيَّ والإنسانيَّ، وبياضًا ناصِعًا سيصير سوادًا قاتمًا بفِعلِ ذقونِ الخُلفاء القاتلين، وسيبدأ مهوسو الموضة الأدبيّة بقراءة الصفحات العشر الأولى من كُتبها، فيما تُواصِلُ غربان الفتنةِ نعيقَها فوق قبور الصّالحين!

لم تمُت نوال السّعداوي، كانت شائعةً سخيفةً، مزحة حاقِدٍ سُرعانَ ما أصبحتْ خبرًا عاجلًا، فنُكتةً لا تُضحِكُ حتى قاذِفَها، ثمّ فضيحةً عربيّة يتناقلها مُفلسو الشّارِعِ العربيّ وهم يدخّنون أعراضَ النّاسِ، فيكثُرُ الشّامتون، يستغفرون الله، ويصلّون على الرّسولِ، ثمّ يبصقونَ علينا.. في جنازةِ العقلِ العربيّ الّذي لم نَدفِنْهُ بَعد.

أتساءلُ، وأنا أتابعُ ما يُكتَبُ من شتائمَ وسِباب طالت نوال السّعداوي الّتي ظنّها النّاسُ قد ماتت: تُرى ألم تشفع لها سنواتها الخمس والثّمانون فتَسْلَم من ألسنةِ هؤلاء الـ “أولاد”؟! يُلحُّ السّؤالُ عليَّ، ذلك لقناعتي أنَّ في حالة كهذه، حتى وإن كان الموتُ عبثيًّا إلى ذلك الحدّ، فإنّ المكانة الفكريّة والإبداعيّة للسّعداوي لن تكون الأهمّ، لا قيمتَها ولا قامَتَها ستُثير انتباهَ مَن لم ينتبهوا لها وهي “حيّة” تُرزَقُ قرفَنا العربيَّ! لهذه الحالة اعتباراتٌ أخلاقيّة عاطفيّة، تدفعُ العدوّ قبل الصّديق، والكاره قبل المحبّ ليقول: “الله يرحمها”، ولو من باب الرّحمةِ لمن صار بين يديّ الرّحيم! وأيّ رحمة تنزلُ على أرضٍ.. سماءها مثقوبة، ولا أفق؟!

في غياب المبدعِ، لا موت حقيقيّ، هكذا يحلو لبعضنا أن يفلسفَ الأشياءَ، فيلاطف شعورَه بالفقدِ، مقتنعًا أنّ بِمَوْتِ المبدعِ، ثمّة حياة جديدة أجمل تُمنَحُ له، حين يُعيدُ العالمُ إحياءَ إرثه الإبداعيّ، لتظلّ الثّقافة راسخة في وعي الأجيال الّتي لم تعرفه، فيبقى خالدًا.

في الوطن العربيّ لا يختلفُ الأمرُ كثيرًا، هُنا أيضًا لا يموت المبدعُ، بل يُقتَل، نغتالُ اسمَه حّيًّا، وننكّلُ بسيرَتِهِ غائبًا، إمّا نفاقًا، يسمّيه المرهفون منّا:”حُبًّا قاسيًا”، أو تغييبًا مقصودًا، يُشبِهُ جنونَ القاتلِ حين يعجزُ عن قطع رأسِ الضحيّة، فيظلّ يطلقُ الرّصاص أينما كان! هكذا نُحيي إرثَه، شَتمًا وشماتةً، بحُجّة الحرام، بتُهمة التّطاول على الذّات الإلهيّة أو الأميريّة، فالإمامُ واحد،ٌ حتى وإن أعلنت نوال السّعداوي سُقوطه قبل سنواتٍ فسُجِنَت، في “وطن لا يحكُمُه الله/ ولكن تحكمُهُ الدِّيكة”، كما يحلو لنزار قبّاني أن يَصِفَه، مدركًا، ربّما، أنّ ديوك عصرِهِ ستظلُّ تصيحُ حتى عصرنا هذا، وتنقُرُ دجاجَ الحَيِّ كلّ صباحٍ عربيّ.

إنَّ نوال السّعداوي حالة فريدة، أيقونة تُشعّ في وجدان أمّةٍ كاملةٍ تبصقُ في البئرِ الّتي شربت منها. في الشّماتة من “موتِها” ما هو أفظع من الموتِ نفسه، لا سيّما وأنتَ ترى “رسول الله” يحضرُ بين الشّتيمة والأخرى، يُباركُ اسمُهُ قذارةَ مَن لم يعرفوه ولم يعرفوها! وتكلّموا باسمِه واسمنا جميعًا، فهم، ببساطةٍ، يملكونَ أرواحَنا.. والحقيقة الكاملة. تسألهم عن الرّسول، فيصلّون عليه وآلِهِ وينسوك وسؤالَك، تسألهم عن الله، يُطأطئون رؤوسهم في خشوع الدّجّالين الّذين يظنّون أنّهم الله، وحين تمارسُ منطقَ الأشياء وتسألهم ماذا قرأوا لنوال السّعداوي الّتي يعتبرونها “كافرة”، يرفعون رؤوسهم الفارغة: لم ولن نقرأ! و “لن نقرأ” هنا ليست اقتداءً بالرّسول الّذي لم يقرأ باسم ربِّهِ حين كان أميًّا لا يجيد القراءة والكتابةَ، بل اقتداءً بالجهل المقدّس، الّذي يحرّم عليهم المعرفة الّتي ستُفضي بهم إلى النّار، فتُدهَش: لماذا يخشى النّارَ مَن لا يعرف إلا النّار؟!

ولا يشغلك سؤالٌ تعرفُ إجابتَه جيّدًا!

ليست القضيّة نوال السّعداوي، ولا نصر أبو زيد، الرّقيق كنَسمة، والّذي حَرَّمَ مشايخ الذّبح قراءة الفاتحة على روحِهِ، ولا فرج فودة.. الّذي سألَ القاضي قاتِلَه مرّةً: لماذا قتلتَ فرج فودة؟ فردّ بما يُشبه براءة طفلٍ يُبرّر ضَرْبَه لأخيه الأصغر منه: “لأنه كافر”. ليتّضح بعدها أنّه أميّ لم يقرأ لفودة حرفًا.

القضيّة إذن، أكبر من كتابٍ، أو رصاصة.. وأفظع حتى من الجريمة نفسها.

القضيّة، أنّ ثمّة بشريّة تُقتَلُ فيكَ فتصير آلة مُفَخَّخة بالموت..

القضيّة، ببساطة، أنّهم لا يعرفون…

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. النص رائع صديقي .. رغم الالم والنبرة اليائسة فيه .. روحك وروح نوال السعادوي يحيي التفاؤل والأمل .. الى الأمام .. 

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>