فيروز في أمستردام: بعدها من سيملأ السلال/ راجي بطحيش

كيف يمكن لامرأة تجاوزت الـ 75 عامًا أن تقف أمام جمهور غفير وتغني واحدة من أجمل أغاني المراهقة الأولى “إمي نامت عبكير وسكر بيي البوابة/ وأنا هربت من الشباك وجيت لعيد العزابة”، بحزن وغروب شديديْن أبكيا أكثر من 1500 متفرج…

فيروز في أمستردام: بعدها من سيملأ السلال/ راجي بطحيش

فيروز. "تجلس أمام هذه السيدة في القاعة وهي تغني وكأنك تجلس أمام إحدى آلهتك"


|راجي بطحيش|

أولا، علي أن أقول وأشدد إنني لم أستوعب حتى لحظة دخول القاعة الملكية على ضفاف نهر آمستيل الشهير في أمستردام، هذا الحدث، لسبب بسيط جدا: أنك لا يمكن أن تلمس أية علاقة أو حتى شذرات من العلاقة بين فيروز وتراثها -ويمكنني أن أقول الحضارة الفيروزية- وبين هذه المدينة الهولندية الخاملة ثقافيًا، والتي تتفنن في ممارسة “خفة الكائن الذي لا يُطاق” على طريقة ميلان كونديرا. إنّ كم الهدوء والاخضرار اللذين يملآن كل شيء والقنوات التي تلتف كخيوط العنكبوت حول المدينة وكمية “السعادة” التي تزين هؤلاء الهولنديين الكسالى وعاصمتهم التي لا علاقة لفيروز بها لا من قريب ولا من بعيد، تكاد تُشعر القادم لمشاهدة الحفل بأنّ الحدث ليس أكثر من خدعة افتراضية اخترعها شبان عرب مقذوفون في هذه المدينة الغريبة التي كانت تسوق نفسها كواحة المثليين والجنس والحشيش، وحتى هذا فقدته في السنوات الأخيرة وباعتراف المحليين.

إذًا لم أصدق على مدار 56 ساعة أنّ فيروز هنا، إلا عند دخولها المسرح بمشيتها المعهودة وهي تلوّح بيدها اليسرى وبخجلها الذي أصبح أيقونة. أعود مساء الحفل من نزهة بالدراجات من أمستردام إلى بلدة قريبة تشتهر بطواحين الهواء؛ أعود محطم الأضلاع مُهرولا مع ذلك إلى قاعة الحفل، أشاهد هؤلاء: من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر وحتى المغرب، يبكي بعضهم في الخارج. جاء الكثيرون من دون تذاكر من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وها هو إدمون من لبنان والمقيم في بلجيكا يحدثني ويبكي عن حلمه الذي تحقق بالحصول على تذكرة في اللحظة الأخيرة أمام البوابات، وكيف أنه يحلم بلبنان من خلال صوت فيروز الذي سيعود إليه فقط بعد أن تنتهي ممالك الطوائف هناك.

إذًا نحن في عرض فيروز… ولتكن أمستردام..

تظهر فيروز أخيرًا…

هنالك شيء ساحر وخارق في عروض فيروز، وهذا العرض الثاني الذي أحضره بعد عرض عمان عام 1999. الأسطوري في هذه العروض أنك تجلس أمام هذه السيدة في القاعة وهي تغني -وليغضب مني البعض حين أقول حيث أنه لم يعد يهم- وكأنك تجلس أمام إحدى آلهتك. لا تصدق أنك تلتقيه أخيرًا لتلامس ملامح تكوينك حيث تتجمد اللحظات ويغير الزمن من شكله ويصبح الحفل وكأنه شريط لحياتك مكثفة بشدة حتى الورم. ثم تمرّ الدقائق وتجري لتتأكد من أنّ كلّ ما كان محفورًا من مشهديّة بريئة وجنة كلمات رافقتك طوال الوقت من الحضانة مرورًا بالأعياد والجامعة وحتى هذه اللحظة- كل هذا يقف أمامك الآن في دقائق نادرة من الرهبة والاستسلام الكامل لما سيحدث. أما ما ميز هذا اللقاء في هذه المرة فقد كان ذاك القرب الفيزيائي بيننا وبينها؛ فالقاعة ليست عظيمة الحجم والمسرح قريب أما المكاشفة الفيروزية ففي أوجها.

تلقي فيروز في هذا كافة الإسقاطات التي حمّلوها إياها بعرض الحائط فلا تغني “سنرجع يومًا” ولا “بحبك يا لبنان”، وتخلع فيروز ثوب الإرث الوطني المشرقي الصعب ويساعدها في ذلك عدم تمكنها من غناء الموروث الرحباني بسبب ما حدث مع ورثة منصور الرحباني… فتطرح مشروعها مع زياد بأبهى حلله وتغني للجمهور (الشاب بغالبته) رؤية جديدة للمعاني وقراءة مجدّدة للحبّ والشوق والاشتياق والوحدة والعزلة، بما يقود إلى الاستنتاج أنه رغمًا عن كل شيء “إيه في أمل”..

تعود فيروز لتبدّل ثيابها ثم تعود بالأبيض البرّاق. تختلف المشية عن سنين سبقتها فيها شيء من الإعياء مقارنة بعنفوان مشيتها السابقة. فيروز تتغير بسرعة ولكنها ومع ذلك تزرع الدهشة في البدن وتبقيك مع شعور جارف بالانتماء لشيء كبير جدًا.. شعرية ما أو لغة أو ربما وطن جديد هو مزيج من العذوبة والعشق المجنون والسخرية المريرة والفكاهية أحيانا، أيضًا… فتشدو “يا ريت إنت وأنا بالبيت” و”بعدنا من سيملأ السلال” و”إمي نامت عبكير”… ولك أن تتخيل كيف يمكن لامرأة تجاوزت الـ 75 عامًا أن تقف أمام جمهور غفير وتغني واحدة من أجمل أغاني المراهقة الأولى “إمي نامت عبكير وسكر بيي البوابة/ وأنا هربت من الشباك وجيت لعيد العزابة”، بحزن وغروب شديديْن أبكيا أكثر من 1500 متفرج.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. العزيز راجي ..
    رائع تعليقك في وصف تلك ” الظاهرة الفيروزية الرحبانية” النادرة .. أن تجلس منتشيا محلقا فيما أنت على مقعد وثير في ” لوج ” كاريه ومقابلم تماما ” طلة مريمية” ، هذه حالة من النادر أن تحدث علاوة على أن يقشعر بدنك كلما دغدغ ذلك الهاتف مشاعرك ودلكها .. وصفك لأمستردام رائع ، للحقيقة فهذه المدينة ” خاملة ” لكثرة النشاطات الثقافية والفنية وطبعا بسبب ” مقاهي” الكيف المتناثرة في كل مكان والتي تزود روادها بأنواع ” الكيف” كل حسب ذوقه ومزاجه وهذفه من ارتياد هذا ” المقهى” أو ذاك ..

  2. u should be ashamed talking about the dutch people like this who do u think u are , from which small third country village did they dig u up
    Amsterdam

  3. مشوق جداً . يا ريت كنت هناك.

    بالفعل فيروز Almighty

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>