حاوية التماسيح: الملف الأول/ يوسف رخا

يوم ٣٠ ديسمبر ٢٠١١، اكتملت مخطوطة رواية التماسيح ليوسف رخا، وهذه مقاطع منها ■ خاص لـ “قديتا” بالتنسيق مع الكاتب

حاوية التماسيح: الملف الأول/ يوسف رخا



|يوسف رخا|

.

حاوية التماسيح: الملف الأول، ٢٠١٢

العشاق: ١٩٩٧-٢٠٠١

“كان لهذه الأفكار أو المشاعر أو الترهات فوائدها. كانت تحوّل وجع الآخرين إلى ذكريات خاصة. كانت تحوّل الوجع، وهو شيء طبيعي ودائم ينتصر عليك إلى الأبد، إلى ذاكرة شخصية: شيء بشري ومؤقت يتملص منك إلى الأبد.” (روبيرتو بولانيو، ”2666″، عن ترجمة  ناتاشا ويمر الإنجليزية، 2007)

“وعندهم أنّ الأعمال المكتملة تخفي النقص الضارب في أعماقها عن طريق وحدة مصطنعة. وحدة هدفها إنقاذ ذات كاتبها. أما الأعمال الناقصة فلا تتحرّج من ذلك النقص بل تمدّه إلى آخره، وكأنها تقول إنك لا تستطيع أن تكتب بمفردك أبداً.” (هيثم الورداني، “جماعة الأدب الناقص”، 2003)

“فمن خواصه أنّ صوته يقتل التماسيح، ومرارة الذكر منه تحلّ المعقود، ولحمه ينفع من الفالج. وإذا وُضعت قطعة من جلده في صندوق لم يقربه سوس ولا أرضة… وهو من الحيوان الذي يعيش ألف سنة على ما ذُكر وعلامة ذلك كثرة سقوط أسنانه.” (شهاب الدين الأبشيهي (1388-1446) في وصف الأسد)

●  بعد عشرة أعوام أو أكثر- بينما حزب النور السلفي وحزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين يربحان الانتخابات التي بدأت والأمن لا يزال يقتل وينهب في الشوارع، وفيالق الشرطة العسكرية من قواتنا المسلحة تسحل المتظاهرين وتجردهم من ملابسهم وتميتهم ضرباً ثم تجر الجثث إلى أكوام الزبالة فضلاً عن قنصهم وتعذيبهم داخل المنشآت العامة- أصبحتُ أعرف أن الشر يبدأ من حيث يتصور الإنسان أنه، بمعرفة أو عقيدة أو هوية، يمكنه أن يغيّر مجرى حياة سقطت على كتفه مثل حقيبة عليه أن يرسم لها شبكة في الوادي قبل أن يجلس داخلها ليصل.

●  بعد عشرة أعوام -وأنا أتابع من بعيد تطورات ثورة انتظرناها ونحن لا نعرف أننا ننتظرها، وحين جاءت مارقة كقطار أخير ترتكتنا مشدوهين على رصيف المحطة- أفكر في كوننا كلنا أصبحنا حالة أو مأساة: إن بقيت لنا ذكرى، ستظل فحوى ذكرانا في فضائح الحب والموت والإنجاب. وهل كان هذا كله من أجل أن نكون مادة مناسبة لنميمة عدد أكبر قليلاً من الناس؟ أشعر بجسدي غارقاً في الحساء وأنا أتساءل: كلّ هذا؟

سننصح الآخرين بالانتظار، حين تلوح الحيوانات الصغيرة واحداً بعد واحد، تشخلل أثداءها وتمدّ أفواهها إلى المياه. ودونما يبدو منا سوى بريق البركة المنحسرة، نقضم الأقرب كَرَمشة عين. البركة أصبحت شلالاً، وجلدنا الأخضر في كامل بهائه. لكننا لن ندع فكاً يقترب، لن ندع فكاً واحداً يقترب منا يا صغيرتي، حتى نأتي على القلب والرئتين. حينها فقط سنزحف إلى حيث الشمس، ونرقد جنباً إلى جنب هناك- من قصائد نايف- فيديو القصيدة:

http://www.youtube.com/watch?v=FyUSA46If_s&feature=g-upl&context=G25301abAUAAAAAAALAA

●  يبدو لي الآن، من مكاني الافتراضي في مستقبل كان يتدلى أمامنا حتى 2024 ونحن لا نراه، أن الأسد هو السر الأكبر: الأسد الذي ظهر لنايف. بوضوح لم يكن ليتسنى وقتها، يبدو لي أن ظهوره ليس الحدث الوحيد الخرافي وسط الملابسات. ورغم أنه الشيء الوحيد الخارق للطبيعة بالفعل، عن نفسي، لم أشكّك لحظة في حقيقة الأسد. فقط، عن بُعد، أيقنت أنه لم يكن وحده الغريب. كانت أشباح تجثم على مصائرنا طوال الوقت؛ وفي لحظات كانت تتجسد على شكل فكرة أو حدث، تماماً مثل قصيدة تأتي من حيث لا يعلم مؤلفها: أبخرة عدد هائل من سوائل الحياة المختلطة بلا منطق وقد تكثّفت في قطرة واحدة ثمينة.

●  يبدو لي مثلاً أن مون – حبيبة نايف التي اعتدنا أن نناديها بهذا الاسم لأن أهلها سموها “قمر”، ولم تستمر علاقتهما على عنفوانها سوى بضعة شهور – كانت مجرد تبلور من هذا النوع؛ وبالفعل منذ نهاية حكايتهما لم يسمع أحد شيئاً عن مون أو يعرف مصيرها. كأنها وُجدت فقط لكي يقع نايف في حبها؛ ما إن يغيب حتى تتبخر، وكما قال باولو عن حبيبته أيضاً وإن بقيت الأخيرة، رغم هجرتها، حضوراً مؤرقاً في حياتنا: “التجسد البراق لشيء خرافي يختفي بغياب الرائي”. من هذه الزاوية كانت مون شِعراً خالصاً، وكان اختفاؤها كشبح هو الوفاة النهائية للتماسيح.

●  كنا ثلاثتنا غرفة مغلقة مصنوعة من التطلع إلى الشعر أو حياة تشبه قصيدة، هذا المهم. بالنظر إلى الوراء موضوعياً، يبدو لي اليوم أننا فعلاً كنا أكبر تماسيح البركة حجماً وأكثرها نشاطاً في اصطياد الثدييات الصغيرة الآتية للشرب ثم التناوب على قضمها بشهية لا تعرف الرحمة.

●  اليوم أيقنت أننا كنا غرفة لم يتمكن من دخولها غير ثلاث حبيبات، وبينهنّ تبدو مون في الذاكرة أو الخيال، رغم أنها آخرهن وصولاً إلينا، هي الطيف الذي واربنا باباً من أجله؛ وكأنّ الأخريين دخلتا عن طريق الخطأ. هل لأننا لم نعرف أبداً من أين أتت وإلى أين ذهبت بعدما انتهت الحكاية؟ هل من أجل صفات “التومبوي” الصبيانية التي كانت لتغوينا في امرأة من دائرتنا أكثر من سواها؟ مون هي الأقرب إلينا سناً وهي الوحيدة الشاعرة. ربما من فرط ضآلتها وحفاظها، رغم النحافة وصغر الحجم، على جاذبيةٍ هصور؛ ربما لأنها الأكثر تقلباً وتطرفاً والتي استحال توقع سلوكها من يوم إلى يوم… واربنا باباً من أجل مون.

●  وثبنا نصرخ من السيارة “المازدا” الحمراء قبل أن تتوقف بينما نايف يقودها في دائرة ضيقة سيفرمل كالمجنون ما إن تكتمل. أصبحتْ السيارة تسدّ نصف الطريق تقريباً، أبوابها مفتوحة والموسيقى تصخب من سماعاتها. وكنا نتمايل بأقدامنا على حزّ الرصيف نتحدّى الجاذبية حين بدأ قط يعبر نصف الطريق الباقي في مرور سيارة “همر” هي الأخرى ولا بدّ عائدة من الحفلة؛ لم نكن قد رأينا “همر” في حياتنا -لعلّ هذه السيارة كانت ضمن أول طلبية همر تصل إلى مصر- وكان حجمها ووزنها من البشاعة بحيث تأكّد تعاطفنا مع الضحية: قط أشقر بشعر هائش حول وجهه جعله يبدو هو الآخر مثل أسد منمنم، الأمر الذي أبقاه ذكراً في ذاكرتي. صادف أنّ الموسيقى سكتت لحظة مرور الهمر، وكان الشارع هادئاً إلى درجة أن سمعنا عظامه تطقطق. الهمر كانت قد اضطرت إلى الإبطاء لتتفادى سيارتنا لكنها ما إن تخطتها حتى عادت تسرع. ولم تتوقف بعدما داست القط ولا انتبه سائقها على الأرجح إلى أكثر من مطبّ، أو ندبة.

●  كنا صامتين تماماً حين عاد أحدنا مطأطئ الرأس بعدما تهادى إلى حيث الجسد الصغير وقد تسطّح تقريباً بحذاء الرصيف المقابل واختلفت معالمه، كأنّ القط تحوّل إلى مخلوق سوريالي سيسمّيه باولو سمكة الإسفلت في قصيدة لاحقة. وسمكة الإسفلت هذه لم يجرؤ أحد منا على لمسها… لم نعلّق على ما حدث لا وقتها ولا فيما بعد. فقط وقفنا نشاهد كما اعتدنا أن نفعل منذ بدأنا نعي أنفسنا كشعراء، إلا أننا هذه المرة كنا مبهوتين. ولا أعرف إن كان لمقتل القط دخل في الأمر أم أنه أثر الأقراص التي لم نكن قد كففنا عن ابتلاعها منذ غروب الشمس، لكن نايف عندما عاد إلى مقعد القيادة ليصفّ السيارة بعد الحادث مباشرة كان ينهنه بحرقة ملفتة.

●  شاهدنا القط واكتشفنا بشاعة الموت البطيء كما سنكتشف أنّ الحيطان التي تجعلنا غرفة سواء أسكنتها الحبيبات أم لا مثل الكيوف: لو صفيّتَها من أوهام أول جرعتين لا تنفع في شيء -بلا أوهام، تصبح الصداقة نبرة كلام مشتركة والحب “بورنو” تفاعلي- وأننا بالتالي لا يجب أن نقلّل من شأن الأوهام في حياتنا. كنا خُضراً لا نزال مع أننا نكبر، مع أنّ أشياء تحدث تزيل خضارنا عنا. وأظننا ابتُسِرنا حقاً بلا حاجة إلى أحداث سياسية ولا أفكار كالوطن والشعب في الفترة ما بين إعلان التماسيح وحفلة “جان-ميشيل جار” تلك، حيث خليط سخيف من الصوت والضوء وزحمة رهيبة رغم غلو التذاكر وكون الأماكن الجيدة محجوزة للمسئولين. أظننا ابتسرنا ثلاثتنا قبل أن تظهر مون. ولعلنا كان لا بدّ أن نبتسر.

●  يُقال إن جيم موريسون رأى موته في صحراء موهافي حيث شجرة يشوع المقترنة غصونها الصبارية بالهيبيين )حرية الحب الجسدي تحت سقف قوامه السماء ونباتات تقدسها القبائل المكسيكية، ثم دعاوى السلام العالمي تحت غطاء “الفلاور باور” أو سلطة الزهرة، في مقابل قوة السلاح)؛ وفي ديث فالي بالتحديد، يقال إن جيم موريسون رأى موته: في ذلك القسم من صحراء موهافي المسمى وادي الموت.

●  كان ذلك سنة 1965 بعد تأسيس “ذا دورز” مباشرة، وكان الشاعر في قلب تريب قوية في الخلاء. يقال إنه استهلك يومها جرعات آسيد متتالية سرح على إثرها إلى حيث لم يعد على مرأى من رفاقه. كان شيء يجذبه إلى خيمة بارجة ليس واضحاً إن كانت موجودة “موضوعياً”. وكان يعرف أنه لا يجب أن يتبع الشيء ولا يعبر عتبة الخيمة بالذات: أن الخيمة لعائلة الهنود الحمر التي شهد أفرادها يُقتَلون في حادث سيارة وهو في الرابعة من عمره )ما زال متأثراً بالحادث منذ 1947)، وأن حقيقة رهيبة تنتظره في جوفها.

●  يعرف جيم موريسون أن حقيقة رهيبة تنتظره وراء عتبة الخيمة ومع ذلك يخفض رأسه ليمرّ إلى الفيء البلوري من فجوة القماش – قرص الشمس في ظهره – فإذا به في شقة باريسية سيسكنها فعلاً، لكنه لن يسكنها حتى 1971.

●  سنة 1965، بمجرد أن عبر إلى داخل خيمة بارجة في ديث فالي، يقال إن جيم موريسون أصبح في شارع بوترايي على الضفة اليمنى لنهر السين. وهناك، في حمام شقة باريسية سيسكنها بعد ست سنوات كاملة من زمن وجوده في ديث فالي، ستجده حبيبة عمره “باميلا كورسون” ميتاً في البانيو ومجفف الشعر بين فخذيه في الماء المكهرب.

●  قيل إن ما قتل جيم موريسون لم يكن الكهرباء وإنما جرعة هيروين استنشقها خطأ على أنها كوكايين قبل أن يسلّم جسده لماء البانيو. والآن، قبل ستّ سنوات كاملة من يوم استنشق الجرعة، يخفض جيم موريسون رأسه ليخطو فوق عتبة خيمة بارجة يعرف أنها لقتلى الهنود الذين تطارده أشباحهم منذ الطفولة، فإذا به على الجانب الآخر من مستقبل يتدلى قصيراً ومبتوراً شأن مصائر المشاهير. ومن الصالة الرطبة إلى غرفة المعيشة – باب المخدع الرئيسي يؤطر سريراً مهيباً أو هكذا أتخيل – يتبع خط سير حبيبته يوم وجدته ميتاً عبر الطرقة المؤدية إلى الحمام.

●  باب الحمام مفتوح كما سيكون في ذلك اليوم من1971  تماماً، ولكن على جيم موريسون – مثلما سيكون على باميلا كورسون يوم وجدت جثته – أن يمرّ من ورائه ويدير رأسه قبل أن يرى. عليه أن يمرّ من وراء الباب ويدير رأسه، وحين يوجه عينيه إلى عمق الحمام – فقط – يرى. يرى جسده هامداً في الماء المكهرب. يرى جسده هو هامداً تماماً، بفم فاغر وعينين ميتتين.

●  وسط أجواء التسعينيات التي بالغت الصحافة في تصوير انحلالها، لابد أننا تعارفنا بشكل تلقائي. وكما يحدث في الدائرة على اختلاف مشاربها حيث لا يكون أحد قد قرأ لأحد بالضرورة ولكن يتعامل الجميع على أنه يعرف الجميع ما لم تكن هناك حجة سهلة للتهكم أو استياء من جانب شخص معروف تجاه شخص مجهول – استياء هو الآخر مجاني مثل الأكل عند عباس التونسي – افترضنا ولا بدّ أننا أصدقاء. لكن مجالاً مغنطيسياً كان يحصرنا ثلاثتنا أو كنا نشكّله حولنا حصرياً بلا نية مسبقة؛ الأمر الذي جعل افتراض الصداقة مبرَّراً على مستوى أعمق وأقرب بشكل ما إلى حقيقتنا، مع أنّ هذه الحقيقة كانت لا تزال تتكوّن ولا شك أنها تغيرت.

●  بلا كلام أو حتى تفكير فهمنا أن ما نصدّره إلى المحيطين قناع وأننا متميزون بالقدرة على ارتداء أقنعة من قبل أن نبلغ العشرين. وكان إنجازنا الحقيقي وإن لم ندركه وقتها أننا لم نخلط أبداً بين الأقنعة التي نرتديها ووجوهنا. هناك مسافة بيننا وبين الطموح الذي يحرّك أندادنا – الطموح إلى فكرة ما عن الحياة المثالية أو المُجدية إن لم يكن إلى الشهرة والثراء – وكنا نكتشف شيئاً فشيئاً أن طموحنا وإن كان حاضراً وقوياً لا علاقة له بما نراه، أننا على عكس أكثر الموجودين حولنا لسنا في هذا المكان من أجل أن نصبح شيئاً مثيراً يعجبهم أو يرعبهم ولا من أجل أن نصنع هذا الشيء.

●  ذات ليلة خرجنا من بيت إحدى المخبولات كما يفتتح ياسر عبد اللطيف ديوانه القصير المنشور سنة 2002، “جولة ليلية”. لا بدّ أن ذلك كان في بداية1994 . كنا مسطولين تماماً لكن نايف في مزاج مُعَفرَت وعنده طاقة زائدة؛ نايف هو الوحيد من كل من عرفتُهم الذي يجعله البانجو أكثر نشاطاً. وكان بصحبتنا بنت في التاسعة أو العاشرة لا بد أنها ابنة واحد ممّن كانوا معنا في ذلك البيت. لم يكن لأي منا سيارة فمشينا إلى الشارع العمومي ننتظر مواصلة: أنا في الأمام ومن خلفي البنت محاطة بنايف وباولو من جهة وصديقين آخرين من الجهة الأخرى في تشكيل خماسي مطبوع في رأسي إلى الآن: نايف بجسده الإغريقي وملامحه الجذابة مثل “عمر الشريف” في فيلم “صراع في الوادي” مائل على باولو الأقصر منه كأنه سيحتضنه لكي يمدّ يده إلى شعر البنت يشاكسها، وباولو الأشقر عريض الكتفين بحدبته الصغيرة وأنفه الضخم يتلفّت بينهما ويقهقه؛ ثم البنت وقد ربّعت يديها فوق صدرها تسبقهما بنصف خطوة، ظهرها مفرود وحركتها واثقة، بينما الصديقان الآخران – بلا ملامح – يترنحان على الجانب الآخر منها إلى الأمام.

●  لا أذكر إن كانت البنت قد تُركت سهواً أو سُرّبت عن قصد ولا لماذا انتهى بها الأمر معنا أساساً؛ أظن أحدنا كان عليه أن يوّصلها إلى أختها الكبرى في مكان ما في الصباح التالي. وما إن توقفنا على الرصيف حتى كثّف نايف جهود المشاكسة. كانت ترتدي فستاناً صيفياً في الزمهرير ولا يبدو عليها البرد بينما نحن نرتجف؛ وكان شعرها في ضفيرة واحدة سميكة سيجعلها المطر أشبه بقضيب عجين أسود أو دودة عملاقة تبرق على كتفها.

●  عندما سألها نايف عن اسمها زفرت “مايا”، واتسعت عيناها في عينيه بثبات مذهل وهي تضيف: “أي خدمة ثانية؟” لم تكن طفلة جميلة لكن عينيها كانتا كبيرتين بحيث لا ترى شيئاً آخر في وجهها، الأمر الذي جعل للنظر إليها تأثيراً كالتنويم المغنطيسي في الضوء الأصفر للعواميد. وعندما نزل المطر، رغم أنها لم تفقد تماسكها لحظة بينما نايف يتقافز حولها يدغدغها ويُخرج لها لسانه، ظهر في ملامح مايا شيء كالفزع أو الفجيعة: شيء حزين جداً لكنه في الوقت نفسه حاقد وبالغ القسوة.

●  نسيتُ الحيّ الذي كنا فيه واسم المخبولة التي خرجنا من بيتها وهوية الصديقين وحتى ملامح نايف، لكنني أتذكر وجه البنت في هذه اللحظة كأنني رأيته قبل ساعة واحدة. بعد قليل والمطر يشتدّ، بدأ نايف يعيّرها لاهثاً: “مايا أهملها أهلها، مايا أهملها أهلها!” ولم يتغير تعبير وجهها وهي تجيبه: “اسم الله عليك، وأين أهلك أنت؟” فضحكنا تلقائياً ولم ننتبه إلا لاحقاً إلى أن نايف انطلق يعدو على إثر ذلك بلا أيّ إشارة أو تحذير. عندما أفقنا من ضحكنا كان عبارة عن نقطة لا تكاد تُرى وهي تبتعد بامتداد الشارع الذي يلمع في المطر. وفي صباح هذه الليلة عرفتُ لأول مرة أنه كان قد فقد أبويه وأخته الوحيدة التي في سن مايا تقريباً لحادث سيارة قبل بضعة أسابيع.

●  فجأة هكذا، سقط منا حياؤنا ومرحنا وخوفنا أيضاً أو جانب من هذه اﻷشياء. لكن اﻷبشع أننا عرفنا أننا كبرنا، وكان دليل معرفتنا أننا انتبهنا إلى خصال في نظرائنا وربما في بعضنا أيضاً لم نكن قد انتبهنا إليها من قبل. يبدو لي اﻵن غريباً أن تكون العلامة اﻷوضح على أننا كبرنا هي انتباهنا إلى أنّ الناس توافق على أشياء تراها مرفوضة بدوافع شخصية مثلاً، أو أنها تقول آراء ليس ﻷنها آراؤها ولكن ﻷنها تبدو كأنها الآراء الصحيحة. فجأة بدوا مثل أكلة لحوم البشر؛ ومثل السلطة الفلسطينية، بدا أنهم يتاجرون بمشكلتهم أكثر مما يسعون إلى حلها. ونحن عرفنا أننا كبرنا حين انتبهنا إلى أنهم يختبئون داخل عائلة كبيرة هي دائرتنا، يستدفئون بأشباههم مع أنهم يتخابثون عليهم قدر ما يتخابثون على الآخرين. وعرفنا باﻷكثر حين بدأ الشك يراودنا في أنهم ينتحون جانباً من المتون ليس ﻷنهم يكرهونها ولكن ﻷنّ الهوامش هي وسيلتهم في دخولها فاتحين بعد أن يعبروا طريقاً صعباً، يمرّ بالمقاهي الشعبية في وسط البلد، من القرية إلى المدينة.

●  عندما كبرنا عرفنا أنه حتى مع الفقر والتمرّد، حتى في أقلّ القطاعات رسمية وأكثرها “هِلِهْلِيّة” كما يقال عن اﻷشياء حين تُترك على فطرتها، لم تكن هناك حياة خاصة. لم تكن هناك علاقات شخصية مهما بدت الصداقات حميمة ودائمة، لأنّ أحداً لم يقم علاقة حقيقية إلا مع الدائرة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>