“إكرامًا لكاتالونيا”: الحرب هي الحرب، لا مجاز فيها/ ريم غنايم

هذا الكتاب ما هو إلاّ شهادة وفيّة وتوثيق عميق للمرحلة الثوريّة التي عاشتها الحرب الأهلية الإسبانية وتدوينٌ كئيب وجارح ونزيه للمؤامرات والدسائس وغياب المساواة والدعاية الكاذبة والتحريض الشيوعيّ وعمليات التجسس والاعتقالات وحالة الفوضى العارمة في تلك المرحلة من تاريخ إسبانيا

“إكرامًا لكاتالونيا”: الحرب هي الحرب، لا مجاز فيها/ ريم غنايم

غلاف الكتاب الصادر بالعبرية

.

|ريم غنايم|

ريم غنايم

صَدرَ مؤخّرًا عن دار عام عوفيد العبريّة، أوّل ترجمة عبريّة لكتاب “إكرامًا لكاتالونيا-Homage to Catalonia” (1938) للكاتب الانجليزيّ جورج أورويل (1903-1950)، وهو عبارة عن سرد وثائقيّ يحكي أحداث الحرب الأهليّة الإسبانيّة التي وقعت بين الأعوام 1936-1939.

يكتب أورويل الذي عُرف بكونه صحافيًا وروائيًا يساريًا ملتزمًا، وقد تَرَك بصمته وتأثيره على الثقافة السياسيّة عمومًا بعد صدور روايتيه الشّهيرتين “1984″ و”مزرعة الحيوان”، ببطء شديد وبعناية فائقة وبعيدًا عن الكتابة البطوليّة والسّرد النثريّ الانفعاليّ لأحداث الحرب، وبأسلوب أورويليّ يتنقّل بين فصول تصف الحرب وفصول تصف الصّراعات السياسيّة العنيفة، ويسجّل انطباعاته ومغامراته والتجارب التي عاشها مع انضمامه إلى حزب العمال الماركسيّ الموحّد، PAUM.

يتميّز الكتاب بكَونه وثيقة سرديّة مفصّلة سجّلها أورويل مع وصول الأخبار الأولى حول محاولة فرانشيسكو فرانكو في تموز عام 1936 بانقلاب عسكري ضدّ حكم الجبهة الشعبية في إسبانيا التي تألفت من حكم الديمقراطيين والاشتراكيين. رفضت الجمهورية الإسبانية الثانية هذا الانقلاب ومن هنا اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية، الحرب الضّارية التي استمرّت ثلاث سنوات (1936-1939) وتعدّى ضحاياها المليون. انقسمت إسبانيا إلى “قومية” بقيادة الانقلابيين الفاشيين وإسبانيا الجمهورية بقيادة الجبهة الشعبية التي ضمّت الفوضويين والاشتراكيين والجمهوريين والشيوعيين. وفي الوقت الذي قرّر فيه فرانكو التخلص من القيادة الشرعية في إسبانيا الجمهورية، كان أورويل في طريقه إلى إسبانيا ليحارب الفاشيّة على حدّ قوله.

يفتتح أورويل الكتاب مع فترة وصوله إلى إسبانيا نهاية ديسمبر عام 1936: “حصل ذلك في نهاية كانون الأول عام 1936 (…) جئت إلى اسبانيا بدافع ضبابي لكتابة مقالات للصحف، لكني انضممت فورًا إلى المليشيا، حيث بدا ذلك في تلك الأيام وذلك الجوّ، الشيء الوحيد المنطقيّ. الفوضويون كانوا لا يزالون يحكمون ظاهريا برشلونة والثورة كانت لا تزال في أوجها. كلّ من تواجد هناك منذ البداية كان يعلم أن المرحلة الثورية على وشك الانتهاء، لكنّ القادم للتوّ من إنجلترا بدا له المشهد في برشلونة رائعًا وساحرًا”.

يصف الكاتب الأجواء في برشلونة كما بدت له في ذلك الوقت. “الفوضويين” بدوا بكامل السيطرة، وتمّ نبذ أشكال التعبير المتذلّلة، مثل “سنيور” أو “دون”، “النادلون والبائعون في المحلاّت تأملوك وتعاملوا معك ندًا لندّ” يذكر أورويل، لكنّه مع انضمامه إلى القوات المقاتلة، انكشفت أمامه الفوضى العارمة والتخلّف والإهمال وغياب النظام التي امتاز بها الثوار الإسبان.

يشدّد أورويل في كتابه على عدّة حقائق سياسيّة يراها الأهمّ والأكثر جوهريّة في تجربته مع الحرب. فهو يرى أنّ الحالة في كتالونيا كانت حالة حرب قادها الفوضويون الذين امتلكوا قوة وسيطرة هائلة وقتها. لكنّ هذه الحالة الثورية جُوبهت بمحاولات التغييب التي فرضها الشيوعيّون محاولين تعريف الحرب على أنها “فاشية معادية للديمقراطية”. يقول أورويل إنّ الشيوعيين هم بالذات من حاولوا نشر هذه المغالطة حول الطابع الثوريّ والقتاليّ للأحداث في كتالونيا. فقد حاولوا ألاّ يبعدوا الدول الغربية العظمى عن روسيا قدر الإمكان، فحاولوا تسويق الحرب على أنها حرب تناصر ما يسمّى بالديمقراطيّة البورجوازيّة.

كان حزب العمال المستقلّ مرتبطًا بحزب العمال الماركسي المُوحّد POUM الذي انضمّ له أورويل فيما بعد. أكثر ما أذهل أورويل عند الشيوعيين هو استراتيجيات العمل ضدّ الفصائل المعارضة لهم على المستوى الإيديولوجيّ، وهي استراتيجيّات الأكاذيب والتضليل التي اتبعوها باتهام الآخرين بالفاشيّة وهو ما أدّى إلى اندلاع الحرب الأهليّة التي أدّت في النهاية إلى انتصار التوجّه الشيوعي وفرار أورويل من اسبانيا. حتّى أورويل نفسه لم ينجُ من الأكاذيب الدعائيّة التي روّج لها الشيوعيّون باتّهام حزب العمال الماركسيّ الموحّد الذي انضمّ إليه أورويل بتعاونه مع الفاشيين. لا يغفل أورويل عن هذه النقطة التي يحاول أن يشرحها للقارىء بعقلانية قائلا: “اعتمدت تهمة التجسس التي رموا الـPOUM  بها، على مقالات من الصّحافة الشّيوعيّة وعلى نشاطات البوليس السّري التي كان تحت سيطرة الشيوعيين. رؤساء POUM  ومئات أو آلاف من أعضاء الحركة كانوا ما يزالون في السّجن، وحتى إنهم في الأشهر السّتة الأخيرة طالبوا بإعدام “الخونة”.”

كان أورويل معارضًا للشيوعيّة الستالينيّة وللتوتاليتاريّة الشيوعيّة، لكنّه لم يكن يومًا يمينيًا، لأنّه ظلّ ينتمي إلى الفكر الاشتراكيّ الإنساني، وهذا ما يشدّد عليه على طول الكتاب. وفي الفصل السابع الذي كان بمثابة استراحة يشاطرنا أورويل أثر ذكريات الأيام الـ 115 التي قضاها على جبهة الحرب، على أفكاره السياسية، “… كانت  العقلية الاشتراكية سائدة… إلى حد ما اختفت التقسيمات الطبقيّة المعتادة إلى حد ما… كان التأثير أن أجعل رغبتي في رؤية الاشتراكية الفعلية أكثر بكثير مما كان عليه من قبل”.

مع مغادرته إسبانيا، كان أورويل قد تحوّل إلى اشتراكيّ ديمقراطيّ، وهو الّذي ظلّ معارضًا للتوتاليتاريّة الشيوعيّة. وهذا الكتاب ما هو إلاّ شهادة وفيّة وتوثيق عميق للمرحلة الثوريّة التي عاشتها الحرب الأهلية الإسبانية وتدوينٌ كئيب وجارح ونزيه للمؤامرات والدسائس وغياب المساواة والدعاية الكاذبة والتحريض الشيوعيّ وعمليات التجسس والاعتقالات وحالة الفوضى العارمة في تلك المرحلة من تاريخ إسبانيا. كتابةٌ بيضاء على قماشة سوداء جدًا. هذا هو التعريف الحقيقيّ لكتاب سَرَد بدقّة ما حَدَث في تلك الحقبة التاريخيّة السّوداء في تاريخ إسبانيا الحديث.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. هذا الكتاب ترجمه إلى العربية عبد الحميد الحسن ونشرته وزارة الثقافة (السورية) عام ٢٠٠٢ في سلسلة الروايات العالمية. عنوان الترجمة كان “الحنين إلى كاتالونيا” ونشر بنهاية الكتاب ملحق بعنوان “نظرة إلى الحرب الإسبانية” وهو ترجمة مقالة “looking back at the spanish war” التي كتبها أورويل بعد ست أعوام من تجربته بالحرب (على الأغلب عام ١٩٤٢) ونشرت عام ١٩٤٣ في المجلد الأول من كتب New road Anthologies.

    لا أعلم من هؤلاء “الفوضويون” الذين تذكرينهم في المقال والوصلة التي وضعتيها هي لتعرف مصطلح “اللاسلطوية” في ويكيبيديا. على فكرة قبل عدة أشهر رأيت في نشرة الأخبار تقريرا عن الإضرابات في إسبانيا وبان في الفيلم بعض المتظاهرين الذين يحملون علم نقابة لاسلطوية CGT التي انفصلت في سبعينات القرن الماضي عن CNT التي يتكلم عنها أورويل… يبدو أن النقابية اللاسلطوية لما تمت لكن يبدو أنها ضعفت كثيرا.

    لمن لا يحبذ قراءة الكتب أنصح بفيلم كن لوتش land and freedom الذي يشبه بأجوائه كتاب “الحنين لكاتالونيا” رغم أن لا علاقة رسمية بينهما (رغم أن حبكة الفيلم تذكر كثيرا برواية أورويل).

  2. كذلك كانت هناك “تجربة فلسطينية” في الحرب الأهلية الإسبانية:

    تواجد على الأقل متطوعين اثنين من العرب الفلسطينيين من الحزب الشيوعي الفلسطيني في الألوية الدولية التي قاتلت ضد فرانكو، احدهم استشهد في احدى المعارك (أظن من عائلة عبد الرزق) والاخر كان من قيادة الحزب وهو نجاتي صدقي. قامت مؤسسة الدراسات الفلسطينية بنشر مذكرات صدقي أثناء الحرب في إسبانيا وقدم لها حنا أبو حنا (“مذكرات نجاتي صدقي – اعداد وتقديم حنا أبو حنا”، 2001).

    كذلك هناك فيلم بالعبرية للمخرج الإسرائيلي عيران طوربينر מדריד לפני חניתה، عن اليهود الذين ذهبوا من فلسطين إلى إسبانيا للانضمام إلى الألوية الدولية. العديد منهم قرروا ترك فلسطين إلى إسبانيا عند اكتشافهم للطابع الاستعماري للمشروع الصهيوني.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>