كابوس الأرض اليباب -2 ؛ الفارعة وفتاة الزنابق/ رياض مصاروة

كابوس الأرض اليباب -2 ؛ الفارعة وفتاة الزنابق/ رياض مصاروة

مع تصاعد صوت الجرذان التي ظهرت للتو في وادي نهر الفرات، باحثة عن بقايا عظام، كسرت فتاة الزنابق الصمت مع الفارعة بقولها: “لم تعد الجرذان تخيفني”. مم تخافين إذن سألت الفارعة وهي تشيح وجهها باتجاه الوادي الجرذي. من اللاشيء الذي يحصل معي هنا، أجابت فتاة الزنابق.

Thorn_Tree_Sossusvlei_Namib_Desert_Namibia_Luca_Galuzzi_2004a

| رياض مصاروة |

يسبق كابوسي الليلي عادة في هذه الأيام مشاهدتي لمسائية الميادين الإخبارية وقبلها نشرة الساعة الثامنة. أدقق بالتقارير الآتية من اليمن، من ريف حلب، ريف حماة، ريف حمص وريف دمشق، ومن جميع أرياف ومدن العراق، وأعود لتعريف السريالية التقليدي على أنها “الفواقعية” أي فوق الواقع، وهي مذهب في الفن والأدب يهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، فهي آلية تلقائية نفسية خالصة” ( ويكيبيديا). ما أشاهده مشهد سريالي لدمار وحطام لم يعبر عنه رسام سريالي فرنسي نتيجة تعبيره عن عقله الباطني، إنه مشهد واقعي، وليس فواقعيًا، وليس ما ورائيًا، وعلي أن أرسم مشهد الأرض اليباب من مستقبل آت يتحول إلى ماض أتذكره في لحظة حاضري الممتد والمنتشر في روحي، في آني الأبدي… ارتعب وأرجف من فكرة السكون الأبدي، من فكرة فقدان الإحساس بالزمن أو انعدامه كليًا. لست على عجالة من المستقبل، له حاضره كما يقول القديس أوغسطين، وحاضره هذا سيمر عبر حاضر الحاضر، عبر الآن الأبدي… كابوسي يستبق حاضر الماضي من مستقبل لم يحضر بعد، إنه الماضي المتخيل مسرحيًا. أذهب إلى النوم مع فكرة استباق الماضي. هذا هو إذن..كابوسي هو استباق الماضي من مستقبل لم يأت بعد، ولكنه آت، بصحبة شخصيات تلاحقني في منامي المتقطع.

فتاة الزنابق على ضفة نهر الفرات تمشي الهوينا، تتذكر نشيدها وابتهالها له: “أيها الفرات الحبيب، اجر الهوينا، حتى أتم أغنيتي”. ولكن أي أغنية ستنشدها الآن بعد أن جفت مياهه ولا ترى غير الجرذان الزاحفة على بطونها تتجول بين عظام الموتى. تنظر من حولها وتصرخ: “لا ريح ولا رائحة غير رائحة الموت”. لماذا تمشي الهوينا على ضفة الفرات الحزين؟ قالوا لها حبيبك سقط على ضفة النهر، وأتت لتبحث عن زنبقة حمراء، ربما نبتت أو ستنبت على بقعة دمه، مثلما نبتت شقائق النعمان على دم أدونيس.

مشهد الأرض اليباب يلوح لي ضبابيا حتى الآن، أحاول أن أخترق الجهة الشرقية من النهر فجرا، أنتظر شروق الشمس، بدأت أنخر في باطني السريالي علي أرسم مشهدًا كونه الواقع الآتي لأحوله ماضيًا أتعامل معه في لحظتي الآنية الكابوسية، انتظرت أكثر من ساعتين خياليتين. خيوط الضوء الأولى واهية، إنه خجل الشروق، خجل الشمس التي لا تغيب ولا يمكننا أن نحجب شيئا عنها، انها الأزل والأبدية، وهي تطل على أبديتنا ونحن نموت “بقليل من الصبر”، والموت يحتاج الآن ذلك الصبر ولو كان قليلًا، وفي أرض اليباب نملك كل الوقت في أبديتنا هذه…أيتها الشمس الشاهدة على حماقتنا، ما الذي يخجلك؟ هل هي غيمة التي تحجبك عن أرض الموت؟ غيمة تائهة ضلت طريقها في سماء هذه الأرض؟ لا بأس، ابقي مكانك، أعرف أنك تشرقين عادة على أرض رطبة بالماء، وليست رطبة بالدماء. ابقي مكانك، سيعود إليك خيالي المتعب المشوش في هذه اللحظة، ربما لأنني أسمع صوتًا أنثويًا آخر، أسمع حتى هذه اللحظة صوت الصدى: الجمع… الجمع… وصدى كلمة: الموت… الموت…

أنتظر وضوح الصوت وظهور تلك الشخصية التي لا أعرف ملامحها حتى هذه اللحظة الكابوسية.

أقرفص، أغمض عيني، أعصر ذهني، تتشنج عضلاتي، أحاول أن أنادي وضوح ذلك الصوت… الصدى يتبدد مثل تبدد روحي، أسمع الكلمات بوضوح، ها هي آتية، تتجمع في جملة تتجاوز الحزن البشري..: “ما كنت أحسب أن الموت طوى كل هذا الجمع”. يحاول خيالي رسم قامتها، تنسل من ذلك الشبح الذي أغشى عيني، تظهر فارعة، شعرها مسدل على كتفيها وظهرها المنتصب، ويا لهول خيالي… تحول رماد شعرها إلى سواد ليلي لا يشوبه ضوء قمر، بريق عينيها أضاء الفضاء بدلًا من خيوط أشعة الشمس الخجولة حتى هذه اللحظة المتخيلة، تنزل من الضفة الشرقية لنهر الفرات متجهة إلى الضفة الأخرى حيث تقف فتاة الزنابق مشدوهة، وقد تحول النهر إلى واد، لا ماء يجري فيه الهوينا، وما زالت تردد: “ما كنت أحسب أن الموت قد طوى كل هذا الجمع”. ها هي تقترب، أسمع قرقعة على الأرض، الصورة تتضح، امرأة فارعة، قامتها تدل على ما يبدو على قامة حكايتها، سأسميها “الفارعة”، تجر وراءها بحبلين لفا كتفيها قطعة من القماش المقوى، شادرًا طرزت عليه عظام وجماجم، هياكل عظمية تخلعت مفاصلها، مثلما تخلعت مفاصل هذا الزمن الذي ينتظر من يعيد له نصابه. من كانت هذه الهياكل المخلعة مفاصلها؟ جماجم من هذه، “المطرزة” على الشادر؟ كيف ولماذا؟ وصلت الفارعة حيث تقف فتاة الزنابق، الباحثة عن زنبقة حمراء في هذه الأرض اليباب. متر واحد يفصلهما، وسكون الموت يحيطهما، لا نسمة ريح تلاطف وجهيهما، ولا صوت حسون يسقسق على شجرة عارية تشقق جذعها على ضفة نهر أضاع شكله ومضمونه. ما طبيعة الحوار الذي سيتطور بينهما بعد هذا الصمت الذي دام أكثر من دقيقة؟ في الصمت تصاغ الأسئلة ليس بمعزل عن قراءة ما يشعه الوجه، الداخل، الباطن، إيقاع التنفس، الجسد بكليته في هذا الوضع الذي استكان عليه في هذه الثواني التي لا تشكل معبرًا لأي توقع مستقبلي ينسحب إلى ماض نتذكره.

مع تصاعد صوت الجرذان التي ظهرت للتو في وادي نهر الفرات، باحثة عن بقايا عظام، كسرت فتاة الزنابق الصمت مع الفارعة بقولها: “لم تعد الجرذان تخيفني”. مم تخافين إذن سألت الفارعة وهي تشيح وجهها باتجاه الوادي الجرذي. من اللاشيء الذي يحصل معي هنا، أجابت فتاة الزنابق.

خفت أن تغيب الفتاة عن خيالي المتعب عندما انتصف الليل، لن أجبرها على حوار مبتذل. تركتها تبتعد عن الفارعة لتجلس على شبه صخرة فتتتها قنبلة من الجو، لاحقت المشردين آنذاك الذين حاولوا الاحتماء من وحوش بشرية لاحقتهم باسم الله ورسوله. نظرت إلى الزنبقة الذابلة، أدخلتها إلى فمها تمضغها مفكرة، علها تنبت قدسية في بطنها تبشر بمولد مخلص. وقررت أن أركز بالفارعة. ربما كنت بحاجة إلى وهج يغري الشمس الخجلة بالشروق الكامل… أيتها الشمس، أيها النور، استمري بخجلك على هذه الأبدية التي آمل أن تكون مؤقتة، إلى حين تنتزع شخصياتي الزمن من باطنك، قليلًا من الصبر أيتها الشمس، قليلًا من الصبر، كي تحتفظ شخصياتي بالسوائل المتبقية في أجسادها، وأنت تعرفين أن لا ماء في النهر والجرذان تسيطر على المشهد.

لم تكن الفارعة على عجالة من فضولها تجاه فتاة الزنابق، إذ لا شيء يحدث في هذا السكون، في هذا اللازمن، وفضولها الأكبر كان مركزًا في وجه الفتاة الذي غطاه غبار رمادي بدأ يتحول إلى سواد، وفكرت: ما الذي يغطيه هذا الغبار؟ هي لا تبحث عن حكاية تواسي حكايتها، إذ أن الحكايات تشابهت في شكلها وفي مضمونها، ولا ينفع التعامل معها كماض يؤرق الداخل المتعب. فتاة الزنابق ما زالت تمضغ زنبقتها المقدسة. هل تحرك شيء ما في أحشائها ؟ تكاد ابتسامة ترتسم على محياها. انقطع امتداد الابتسامة وهي تشير بإصبعها نحو العظام المطرزة على الشادر، وصرخت: ج، ج، ج، جر، جرذ…احذ..احذري…لم تهتز الفارعة لهذا التحذير المضطرب، أدارت وجهها متفحصة بعينيها ذلك الجرذ المقترب من عظام، وأقولها الآن، من عظام أحبائها الذين قتلوا غدرًا على أرض سموها آنذاك بالأرض المقدسة، أرض الأنبياء. اقتربت من الجرذ وداسته بقدمها وانحنت لتتناول جمجمة على ما يبدو أنها جمجمة طفل. صرخت الفتاة ماذا تفعلين؟ ما هذه العظام والجماجم التي تجرينها؟ قبل أن تجيب قبلت الفارعة فم الجمجمة، أعادتها إلى مكانها على الشادر، واقتربت من فتاة الزنابق، وجحظت في عينيها وقالت، أريد أن أعرف ماذا يخبيء هذا الغبار السام على وجهك، أريد أن أقرأ ماذا يخبئه لك هذا الوجه. مدت يدها إلى وجهها محاولة منها أن تمسح ما غطى وجه الفتاة، ولكنها، الفتاة أمسكت بيد الفارعة مسعورة صارخة،: إياك! أنتظر أن تنبت الزنابق على ضفة النهر لأغسل بها وجهي. ضحكت الفارعة وقالت: “لست بعرافة، ولكني أخمن ما يخبئه لك جمال وجهك، وإذا ما اكتشف هذا الجمال حال تجمع من حولك المشردون الباحثون عن خلاص سيقدمونك قربانًا”. ابتعدت الفتاة مذهولة صارخة: “ماذا تقصدين أيتها الساحرة؟”، لست بساحرة ولست بعرافة يا فتاة الزنابق…أعرف قصتك التي نشرت على الشاشات.

رويدا رويدا أيها الخيال! لا تفضح الكثير في هذه اللحظة. قل للشمس أن تتمهل. لا ماء، لا نبع، لا صخرة حمراء في هذا الفضاء اليبابي، أترك فتاة الزنابق تمهد لنشيد آت، قاس. :” لو كان لي لسان أورفيوس كي أسحر الصخور بالأغاني/ لا تذبحوني قبل موعدي”.

                                                                                    يتبع

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>