كابوس الأرض اليباب/ رياض مصاروة

كابوس الأرض اليباب/ رياض مصاروة

ليس ثمة ماء… رعد جاف عقيم بلا مطر.. زقاق الجرذان حيث أضاع الموتى عظامهم… توقفت عن كتابة القصص القصيرة التافهة التي ابتليت بها في فترات الجفاف الإبداعي، وتوقفت عن كتابة النصوص ” الفكرية” المبتذلة المتأثرة بقراءاتي الأخيرة للفكر العربي والغربي، وتوقفت عن الكتابة للمسرح الخالي من أي دراما كونية، وقررت أن أنكفيء..

normal_drought

| رياض مصاروة |

ما سأرويه كان حلمًا، بل أكثر، كان كابوسًا رافقني في نومي المتقطع في الآونة الأخيرة. قال لي طبيبي: “النوم المتقطع هو علامة تقدم الإنسان في العمر. ذلك العمر الذي تعرفه الفلسفة بالزمانية، زمانية الإنسان، زمانية وجوده، تلك الفترة الزمنية المتاحة بين الولادة والموت”. لم أكن بحاجة إلى الاعتراف بتقدم عمري، فهو يتقدّم مسرعًا دون أن يسألني، وأنا أعرف أن توقف الزمن هي فكرة لا نستطيع الإمساك بها. لم أحاول أن أقنع صديقي الطبيب أن كابوسي لا علاقة له بتقدم العمر، لأنني كنت مجهدًا فكريًا، ومجهدًا من التقاط الصور التي أشاهدها يوميًا على شاشات الفضائيات العربية؛ الدمار، الخراب، الدم، نشيج الأمهات، نشيج الأطفال، دموع الفاقدات لأحبائهن، المقابر، الجنازات، أصوات تطلب الإغاثة، شيوخ مذلون، وما نقصني في هذه المشاهد صور جرذان تزحف على بطونها تقضم عظام الموتى.

وكنت مجهدًا أكثر بعد أن قرأت قصيدة ت.س.اليوت “الأرض اليباب”، التي كتبها بعد الحرب العالمية الثانية. قرأتها أكثر من ثلاثين مرة، وبعد كل قراءة كنت أرتعد وأرتجف، وأعود لأقرأ ثانية القصيدة بشكل متقطع، أتصفحها وأتوقف عند فقرة هنا وهناك، ولم أفاجأ بتأثر كبار الشعراء بالقصيدة ومنهم محمود درويش. استوقفتني فقرة، على ما يبدو أنها كانت سبب كابوسي الذي رافقني في ليالي النوم المتقطع. يقول اليوت: ” حتى الصمت لا يوجد في الجبال/ بل رعد جاف عقيم بلا مطر/ حتى الوحدة لا توجد في الجبال/ بل وجوه حمراء عابسة تشخر وتنخر/ من أبواب بيوت طين متصدع/ لو كان ثمة ماء/ ولا صخر/ لوكان ثمة صخر/ وماء كذلك/ وماء/ نبع/ بركة بين الصخور/ لو كان ثمة صوت الماء وحده/ لا الزيز/ ويابس العشب يغني/ بل صوت ماء فوق صخرة/ حيث الحسون يغرد في أشجار الصنوبر/ سقسق سقسق سق سق سق/ لكن ليس ثمة ماء”.

ليس ثمة ماء… رعد جاف عقيم بلا مطر.. زقاق الجرذان حيث أضاع الموتى عظامهم… توقفت عن كتابة القصص القصيرة التافهة التي ابتليت بها في فترات الجفاف الإبداعي، وتوقفت عن كتابة النصوص ” الفكرية” المبتذلة المتأثرة بقراءاتي الأخيرة للفكر العربي والغربي، وتوقفت عن الكتابة للمسرح الخالي من أي دراما كونية، وقررت أن أنكفيء، وقررت الدخول بعزلة اختيارية تبعدني عن كل نقاش فكري مع الآخر عن هزيمتي وتقوقعت أفكر بالأرض اليباب العربية، متأثرا بقصيدة الشاعر ت.س.اليوت، وسخرت من تغريداتي الانهزامية المترامية على صفحة الفيسبوك، تغريدات مقتبسة وتغريدات شخصية تعبر عن إحباط نابع من وعي مهزوم موروث، وآخر هذه التغريدات: “نقول الآن: ” لقد انقضى أفضل ما في زماننا، وراحت المؤامرات، والنفاق، والغدر، وضروب الشغب الهدام، تتعقبنا بضجيجها حتى القبر”، هذا ما قاله غلوستر في مسرحية الملك لير بعد أن استغنى عن عينيه اللتان فقئتا وقال:” لا سبيل لي، فلا حاجة بي إلى عينين، كنت إذ أرى أتعثر”. هل العربي لا سبيل له ولهذا السبب لا حاجة له إلى أعين لأنه تعثر عندما كان يرى؟. هل سنتوصل إلى هذا الموقف العبثي ونؤدلجه، ونكون بذلك قد أسقطنا كل الحيل الإنسانية لكي نبقى؟

إننا في عصر فيه” لذوي الخسة تبدو الحكمة والفضيلة خسة” (الملك لير)، وهل” سينشر الزمن ما طوته الخديعة؟”. أسئلة جدلية كثيرة ستتراكم بحاجة إلى أجوبة جدلية، وإلا فاللاعقلانية ستترسخ جذورها أكثر فأكثر، ولن يبقي سنتيمترًا واحدًا لعقلانية تحاول أن تطرح من جديد سؤال :ما معنى الوجود؟ وهل للوجود معنى آخر يغاير ما نشهده من دمار، ومن ذبح، ومن تشويه يكرس فكرة: “أن الحرية تحيا في البلاد الأخرى وما المنفى إلا في مشرقنا؟”

تطور الكابوس جراء هذيان مسرحي: كيف لي أن أجسد الأرض اليباب العربية مسرحيًا؟ أجلس في مقهى بيات وأدوّن الملاحظات، أمكث في مكتبة “أبو سلمى” لساعات أبحث عن مصادر: “الكوميديا الإلهية” لدانتي، افيجينيا، نساء طروادة، اعترافات القديس أغسطين وابتهالاته للرب كي يفهم إشكالية الزمن، ميديا التي قتلت أطفالها انتقامًا من خيانة زوجها لها، رسالة الغفران للمعري، أعود إلى البيت محبطًا، عاجزًا عن إمساك طرف خيط للبدء بالكتابة، أذهب إلى النوم متعبًا جسديًا ونفسيًا، أتقلب يمينًا وشمالًا، أحاول اصطياد وخلق صور، أغمض عيني وأنام نصف ساعة، يوقظني صوت فتاة تقول:” أعطيتني زنابق أول الأمر منذ سنة/ وصرت أدعى فتاة الزنابق” ويجيبها صوت آت من بعيد: “ولكن عندما رجعنا، متأخرين، من حديقة الزنبق، ذراعاك ممتلئتان وشعرك مبلول/ ما استطعت الكلام، وخانتني عيناي، لم أكن حيًا ولا ميتًا/ ولا عرفت شيئًا/ وأنا أنظر في قلب الضياء، الصمت/ موحش وخال هو البحر”.

يتمسك خيالي بفتاة الزنابق، أتخيلها هائمة في شوارع مدينة حلب، باحثة عن حبيبها، بيدها الزنبقة البيضاء الذابلة، تنجو من قذيفة، غبار الانفجار القريب منها يخفي ملامح جمالها الذي فتن حبيبها، تقع أرضًا، تنهض، وتهيم مجددًا في شوارع حلب وتختفي من خيالي.

أقرفص على فراشي وأسأل الغائبة عن خيالي: ماذا أنا فاعل بك؟ ما هي حكايتك؟ وكيف ستظهرين مسرحيًا على الأرض اليباب؟ أين هو حبيبك؟

أتمدد ثانية على فراشي، أغمض عيني، وأتجول في شوارع حمص، أنتقل إلى الرمادي في الأنبار، ثم إلى طرابلس ليبيا، وفجأة أنتقل إلى زقاقات الجلزون، وشعفاط، وأرجع زمنيًا الى صور التشريد النكبوي، أصطاد شخصيات تفلت من خيالي وكأنها هاربة من تاريخ يؤرقها، أو كأنها تقول: “اعفونا من خيالكم المشوه، لا تستطيعون اصطياد أشباح. ما هي حاجتكم لتكريس المأساة؟ مازوخيتكم ستقتلكم، وهل باستطاعتكم إعادة إنتاج معاناتنا؟”

من يحاور من؟ هل الشخصية هي التي تحاورني أم أحاور نفسي؟ هل هذا هو هذيان ما قبل الكتابة؟ وكي أتخلص من كابوس هذه الليلة قررت أن أتناول حبة المنوم لأهرب من سخرية شخصيات افتراضية، ولأهييء نفسي لكابوس ليلي قادم لا محالة. أغمضت عيني وأنا أكرر كلمات اليوت في بداية قصيدته: “نيسان أقسى الشهور/ يخرج الليلك من الأرض اليباب/ يمزج الذكرى بالرغبة/ يحرك خامل الجذور بغيث الربيع”. رأيت فتاة الزنابق وقد بليت ملابسها، تمشي على ضفة نهر جفت مياهه وهي تردد: “لم نستطع حمل الموت خارج مدينتا كي يأتي الربيع لزيارتنا. نمت. نهضت صباحًا وحاولت أن أدعو فتاة الزنابق ثانية. رفضت دعوتي. ارتحت لرفضها الدعوة، اذ كيف لي أن أحاورها بخيال مبتور؟”

لم أفعل خلال النهار المتشح بغموضه الرمادي سوى خربشة بضع ملاحظات على صفحات دفتر صغير، أدسه في جيب بنطالي الخلفي، أدون الملاحظة لئلا تضيع في ذاكرة لن تعود، وأقول لنفسي: “ما أصعب خيانة الذاكرة التي من المفروض أن تهيمن على الماضي وتمسك به”، وتذكرت فجأة ما قاله الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: “ما الذي يعنيه التذكر؟ إنه يعني أن تملك صورة عن الماضي.. كيف يمكن ذلك؟ لأن الصورة هي الانطباع الذي تركته الأحداث، الانطباع الذي يظل عالقًا بالذهن”. كيف لي أن أرتب الصور التي خزنتها الذاكرة؟ قررت أن أرتاح في هذا النهار الغامض الرمادي وتذكرت ما قاله صياد الصور في كتاب آني كيل الألمانية: “اليوم سأستريح، سأتبع صوري بدلًا من ملاحقتها، أتحول إلى متسكع في تصوراتي الداخلية.. الصور تطور ديناميتها، أرسم حالات، أكتشف حكايا وأدخل فيها واحدة تلو الأخرى.. هل سأكتشف حقًا شيئًا جديدًا أم أن ما يدور هو تشابك ما في أرشيفي من تصورات؟ من يرتب هذه التشابكات؟ إرادتي أم لا وعيي الذي يتبع منطق الرغبة والأمنيات؟”. قررت أن أرتاح كي أتمتع بحالة التسكع التي احتلت وعيي، ولكي أكون جاهزًا للكابوس الليلي.

                                                                    للكابوس تتمة..

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>