مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948-1967/ سليمان جبران

الشعر الفلسطيني في إسرائيل كان امتدادًا للشعر الفلسطيني في عهد الانتداب، مواصلا بعض تقاليده أيضًا، كما أنه تأثر، رغم الحصار الذي ضُرب على الفلسطينيين داخل إسرائيل، بالشعر العربي المعاصر والتيارات الشعرية المهيمنة في العالم العربي آنذاك

مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948-1967/ سليمان جبران

.

محمد الحواجري، "حدود الصّبار"

.

|سليمان جبران|

في مقدّمة كتابنا نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب،كتبنا ما يلي: “كانت النية، أوّل الأمر، القيام بدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل في السنوات 1948 – 1967. اخترنا هذه الفترة بالذات لأنّ الشعراء الفلسطينيين كانوا آنذاك في عزلة شبه تامّة عن العالم العربي، لا يشاركون من بعيد أو قريب في الحياة الثقافيّة هناك، وكان جمهورهم المقصود في كلّ ما كتبوا من شعر ونثر، تبعا لذلك، يقتصر على أبناء الأقليّة الفلسطينيّة من حولهم [...].  أرجو، ختاما، أن يسعفني الوقت والجهد في إتمام دراستي للشعر الفلسطيني في إسرائيل، وهي دراسة بدأناها فعلا، إلا أنها، كما تحقّقنا، تحتاج إلى وقت غير قصير”.

فيما يلي، ننشر  تلك المادّة “القديمة” من المقدّمات، راجين أن يسعفنا الوقت والصحّة، وهذه بالذات هي الأهمّ، في إتمام هذه المهمّة ذات الشأن.

1. أقليّة فلسطينيّة تحت حكم إسرائيل

أسفرت حرب 1948 عن نتائج مدمّرة نزلت بالشعب الفلسطيني، أرضًا ومجتمعًا ومؤسّسات. كان الشعب الفلسطيني “موحَّدًا” في ظلّ الانتداب البريطاني، فمزّقته حرب 48 شرّ ممزَّق: أصبح جزء منه تحت الحكم المصري في قطاع غزّة، وضُمّت الضفّة الغربيّة إلى الأردنّ، ولجأ منه كثيرون إلى لبنان وسورية والأردنّ ليقيموا هناك في المخيّمات، ولم يبقَ تحت الحكم الإسرائيلي سوى 156 ألفًا، بمن فيهم سكّان المثلّث الصغير الذي أُلحق بإسرائيل وفقًا لاتفاقية رودس لوقف النار  (أوري شتاندل:الأقليات، القدس 1970، ص.12[بالعبرية]). يجدر بالذكر هنا أن عدد العرب في فلسطين قبل 1948 كان ,300,0001 نسمة، منهم 700 ألف نسمة كانوا في المنطقة التي خضعت لحكم إسرائيل (إليعيزر صفرير: مقتطفات، العرب في إسرائيل، كلية الأمن القومي ، فبراير 1966 ص 1[بالعبرية])، وهذا معناه أنّ 544 ألف فلسطيني طُردوا أو هربوا من المنطقة التي وقعت تحت حكم إسرائيل بعد 48، ليصبحوا لاجئين في الدول العربية المحيطة بإسرائيل خاصة، وفي دول أخرى كثيرة أيضًا. يذكر إرنست ستوك أيضا   أن “مئة قرية فقط، من حوالى 800 قربية عربية في فلسطين، بقيت مأهولة بالسكّان العرب بعد 1948. فمعظم

هذه القرى التي هُجرت أثناء “الخروج”، دُمّرت تمامًا، وفي إسرائيل بقي حوالي 25000 من اللاجئين العرب الذين هُدمت قراهم فلم ٍيستطيعوا العودة إليها” (إرنسث ستوك: من  النزاع إلى التفاهم؛ العلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل، منذ 1948، نيو يورك، 1966، ص.16[بالإنجليزية]). هكذا تحوّل الفلسطينيون الذين بقوا في وطنهم تحت حكم إسرائيل، بين عشيّة وضحاها، من أكثرية مهيمنة في عهد الانتداب البريطاني إلى أقلية قومية مخذولة، تعاني الانكسارية والعجز في ظل الحكومة اليهودية. لم يكن سهلاً استيعاب هذه الصدمة العنيفة المفاجئة: التحوّل إلى أقلية قومية مهدّدة، دونما قيادة أو تنظيم أو مؤسسات، ويحكمها عدو الأمس الذي حاربته في ساحات القتال أيضًا: “أدّى قيام دولة إسرائيل، وترسّخ السلطة اليهودية في البلاد، إلى هزّات عنيفة في المجتمع العربي. فقد هربت من البلاد أغلبية القيادة التقليدية والاجتماعية، ومعظم  أرباب المال وذوي المهن الحرة والمثقفين. والجماهير العربية التي  بقيت في البلاد، وتحوّلت في يوم وليلة من أكثرية مسيطرة إلى أقلية تعيش تحت حكم شعب آخر، وجدت نفسها فجأة دونما قيادة أو تجربة أو إرشاد” (صبري جريس: العرب في إسرائيل، حيفا، 1966، ص110[ بالعبرية]؛ وانظر أيضًا غسان كنفاني: أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، بيروت، [1966]، ص 9).

يضاف هنا أن الذين بقوا تحت الحكم الإسرائيلي كانوا، أيضًا، في أكثريتهم الساحقة، من

الفلاحين سكان القرى. أما المدن الفلسطينية؛ يافا، حيفا، عكا، اللد، الرملة، بيسان، صفد، فقد تحوّلت بعد 48 إلى مدن يهودية تسكنها أقلية عربية صغيرة، أو تخلو من العرب تمامًا، (انظر ستوك 1966، ص 16)، بحيث يمكن القول إن المجتمع المدني الفلسطيني صُفّي تمامًا في إسرائيل سنة 1948. صحيح أن بضعة آلاف من العرب بقوا في هذه المدينة أو تلك، إلا أن المؤسسات السياسية والاقتصادية والصحية والثقافية أصبحت جميعها أثرًا بعد عين: ” فحين سقطت فلسطين في يد العدو لم يكن قد بقي تقريبًا في فلسطين المحتلة أيّ محور ثقافي عربي يمكن أن يشكّل نواة لنوع جديد من البعث الأدبي، وكان جيل كامل من المثقفين، أو بالأحرى أجيال من المثقفين، قد غادرت فلسطين إلى المنفى، ولم يبق ثمة إلا مجتمع عربي قروي في غالبيته الساحقة، يخضع لحصار سياس واجتماعي وثقافي يندر وجود ما يماثله في العالم”  (كنفاني 1966، ص 11).

في كتابنا نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب، ذكرنا ما حققه المجتمع

الفلسطيني من إنجازات هامّة، سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، في ظل “الانتداب البغيض” بالذات، بحيث يمكن القول إن الشعب الفلسطيني في أواخر الأربعينات لم يكن بعيدًا عن النضج الحضاري السياسي الضروري لتحرّره وإقامة دولته المستقلة (سليمان جبران:نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني  في عهد الانتداب، منشورات الكرمل، حيفا، 2006، ص  21 – 24). ولعلّ مدينة يافا بالذات، بماضيها الزاهر في الأربعينات وواقعها المزري بعد 48، تمثّل خير تمثيل الكوارث التي حلّت بالشعب الفلسطيني عامّة، وبالبقية الباقية منه تحت حكم إسرائيل بوجه خاصّ. كان في يافا، قبل 48، حوالى مئة ألف عربي، وكانت المدينة تحفل بالمؤسسات الاقتصادية والصحية والثقافية، من مدارس ونوادٍ ومطابع وصحف، فلم يبق من ذلك كله سوى بضعة آلاف من العرب، بعضهم وفد إليها من القرى المجاورة، لا يملكون من المؤسسات المذكورة شيئًا، بل إن بعضهم لا يملك حتى البيت الذي يسكن فيه. في سنة 1991 صدر كتاب توثيقي هامّ سجّل فيه اللاجئون اليافويون في الشتات ذكرياتهم عن “فردوسهم المفقود”: عن الميناء العامر، عن البيارات الخضراء، عن المستشفيات، ودور السينما، والجمعيات، والنوادي، والصحف، إلى غيرها من المظاهر الحضارية التي كانت في المدينة. ومن يقرأ هذا الكتاب لا يملك إلا أن يدهش، ويسأل نفسه مرّة بعد أخرى: كيف زالت معالم الحضارة هذه كلها فلم يبق منها شيء؟ يقول الأستاذ هشام شرابي، أبن يافا، في وصف الحياة الثقافية التي كانت في يافا: “لا شكّ أن الحياة الاجتماعية والثقافية في يافا كانت أكثر تقدمًا منها في معظم المدن الفلسطينية الأخرى. كان هناك عدد من النوادي الرياضية [...] كانت النوادي تقيم المحاضرات والندوات، وبعضها يقدّم الروايات التمثيلية، وبخاصة النادي الأرثوذكسي، كما كان هناك عدد من المدارس الخاصة الممتازة مثل: مدرسة الفرير، ومدرسة الروم، والمدرسة الاسكتلندية للبنات (مس بين)، بالإضافة إلى المدارس الحكومية، وأهمها مدرسة العامرية.كانت يافا مركز الصحافة في فلسطين، وفيها كانت تصدر الصحيفتان الرئيسيتان “فلسطين” و”الدفاع”. وكان فيها عدد من المستشفيات الحكومية والعيادات الطبية التي كانت في تزايد مستمر ( هشام شرابي(تحرير): يافا عطر مدينة، دار الفتى العربي، بيروت، 1991، ص 16؛ وانظر أيضًا: ذكريات رجا العيسى، د. أكرم الدجاني، لطفي غاوي، المصدر نفسه، ص 103، 152، 213 بالترتيب).

كلّ مظاهر الحضارة في يافا وحيفا وعكا وغيرها من المدن الفلسطينية التي بقيت تحت حكم إسرائيل، ضاعت أو مُحقت في حرب 1948، لتبقى الأقلية الفلسطينية التي ظلت تحت حكم  إسرائيل مجتمعًا قرويًا فقير الموارد والثقافة، دونما قيادة أو مؤسسات مدنية. ما قرأت مرّة كلّ ما نزل بالفلسطينيين في هذه البلاد سنة 48، من نكبات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وإنسانيّة، إلا ورأيت بعين خيالي شجرة طيبّة تُجتثّ من جذعها فلا يبقى منها إلا جذور ثابتة في الأرض، تصارع الصخر والعطش والعواصف العاتية، لترتفع فوق الأرض من جديد فتورق وتزهر وتعطي أُكلها! [انظر أيضا: إميل حبيبي: الإنسان هدف الأدب وموضوعه، الجديد، آذار، 1954، ص 37؛ ستوك 1966،ص 13؛كنفاني 1966، ص 9).

بالإضافة إلى الصدمة الكبرى والخيبة القاتلة والتغيير المفاجئ، عانى الفلسطينيون الباقون تحت حكم إسرائيل من قطيعة شبه تامّة عن العالم العربي أيضًا. فالحدود مغلقة تحول دون التواصل المباشر مع الدول العربية، ووسائل الاتصال الأخرى، كالتلفون والمراسلة والمطبوعات من كتب وصحف، لا وجود لها. حتى أجهزة الراديو التي يمكن بواسطتها سماع الأخبار من العالم العربي كانت قليلة نادرة  أيضًا، في الخمسينات الأولى بعد الاحتلال. ثم إنّ العالم العربي نفسه، بمؤسساته الرسميّة والثقافيّة والشعبيّة، تجاهل الأقليّة العربيّة الباقية تحت حكم إسرائيل تجاهلاً تامًا، لئلا تذكره هذه الأقلية، ربما، بما كان في حرب 48 من هزيمة وعار، أو “عقابًا” لها على بقائها في وطنها وعلى أرضها “تحت حكم الصهاينة”. على هذا النحو وجدت الأقليّة الفلسطينيّة نفسها في هذه البلاد، بعد حرب 48، بين حكم معادٍ ظالم من جهة، و”ذوي قربى” ظالمين يتجاهلون حتى وجودها من جهة أخرى: “فالأقلية العربية في الوطن المحتلّ، في وقت تقاوم فيه اجتثاث أصولها التاريخيّة، وجدت نفسها مخوّنة، بأفجع صورة، من قلعة انتمائها القومي بالذات [...] لقد وجدت هذه الأقليّة ذاتها مخذولة من مئة مليون عربي مشغولين عنها صحافة وإذاعة.” (يوسف الخطيبب: ديوان الوطن المحتل، دمشق، 1968،ص.14-15؛ وانظر أيضًا خالد علي مصطفى: الشعر الفلسطيني الحديث، بغداد، 1978، ص. 191-192؛ حنا  أبو حنا: رحلة البحث عن التراث، حيفا،  1994، ص. 104).

في هذه الأوضاع العصيبة؛ اضطهاد السلطة الإسرائيلية وتجاهل ذوي القربى، عاش العرب الفلسطينيون في إسرائيل حتى أواسط الستينات، أيتامًا تحت سلطة لئام، فاهتزّت ثقتهم بأنفسهم وبالزعامات والقيم التقليدية على حدّ سواء: “كان الزمن زمن الكفر بكلّ شيء.. بالقيادات والزعامات، بالخطب والكلمات، تمزّقت الأقنعة وسقطت.. وكلّ ما كان أرضًا نقف عليها انخسف هوّة في الأرض، وكلّ ما كان معتمدًا ومتّكأ تهشّم كقصبة جوفاء”. (أبو حنا 1994، ص 107).

تمثّل اضطهاد السلطة الإسرائيليّة للأقليّة الفلسطينيّة في مجالات شتّى وأساليب متنوّعة و”مبتكرة”. فإسرائيل تعرّف نفسها، في وثيقة استقلالها، بأنها دولة “يهوديّة ديمقراطيّة”، إلا أنّها عاملت الأقليّة الفلسطينيّة الباقية تحت حكمها معاملة الدولة المحتلّة لشعب خضع لها بقوّة السلاح، وذلك باللجوء إلى أنظمة الدفاع (حالة الطوارئ) 1945 التي ورثتها عن الانتداب البريطاني، وهي الأنظمة ذاتها التي قاومتها الحركة الصهيونية قبل 1948 وطالبت بإلغائها (جريس 1966، ص.14-16). بالاستناد إلى الأنظمة المذكورة، فرضت إسرائيل على المواطنين العرب حكما عسكريًا سوّغ لها القيام بكلّ ما تشاء من مصادرة للأراضي العربيّة، وخنق للحريّات الديمقراطيّة الأساسيّة كالتنظيم السياسي وحريّة التنقّل والتعبير والنشر، واعتقال ونفي وإجلاء المواطنين العرب متى شاءت، وكيفما شاءت، واجدة لكلّ عمل تعسّفي تقوم به مادّة من موادّ تلك الأنظمة تسبغ بها “القانونية” على اضطهاداتها وممارساتها. حتى شراء صحيفة شرعيّة مرخّصة مثل “الاتحاد” كان يعتبر مخالفة يعاقَب عليها “مرتكبها” بطريقة أو بأخرى، و”بالقانون”!

على هذا النحو كان النظام في إسرائيل، حتى سنة 1966 على الأقل، بوجهين مختلفين، بل متناقضين: وجه ديمقراطي يحكم المواطنين اليهود، ويُستخدم “للتصدير” أيضًا، ووجه قمعي تعسفي من نصيب المواطنين العرب دون سواهم، في ظلّ الحكم العسكري، وبحجّة “أمن الدولة” طبعًا.

يضيق بنا المجال هنا إذا حاولنا تقصّي كلّ  أنواع الاضطهاد والقمع التي مارستها الحكومات الإسرائيلية، أو “حزب عمّال أرض إسرائيل” (المباي) الحاكم بالذات، ضدّ المواطنين العرب في تلك الحقبة السوداء. وكتاب المحامي صبري جريس، الذي صدر بالعبرية سنة 1966، وترجم إلى العربية أيضًا، (بيروت، 1967)، يشكّل لائحة اتهام، موثّقة ومفصّلة، لجرائم حكومات إسرائيل بحقّ المواطنين العرب، ويعفينا من تعداد صنوف الاضطهاد المتعدّدة المتنوّعة في بحثنا هذا. مع ذلك، لعلّه يجدر بنا إيراد فقرة موجزة من تقرير مراقب الدولة عن جهاز الأمن سنة 1959، وهي شهادة رسميّة من جهة إسرائيليّة رسميّة، تلخّص بدقّة ممارسات الحكم العسكري المتعدّدة المتنوّعة ضد المواطنين العرب: ” الحكم العسكري يتدخّل في حياة المواطن العربي منذ ولادته حتى وفاته. فهو يملك القرار الأخير في قضايا العمّال، الفلاحين، الحرفيّين، التجّار، المثقّفين، وفي شؤون التربية والخدمات الاجتماعيّة. كما يتدخّل أيضًا في قضايا تسجيل السكاّن، الولادات، الوفيات، وحتى الزواج، وفي قضايا الأراضي، وتعيين وإقالة المعلّمين والموظّفين. ويكثر من تدخّله التعسّفي أيضًا في شؤون الأحزاب السياسيّة والنشاطات السياسيّة الاجتماعيّة، وفي المجالس المحليّة والبلديّة”  (عنجريس 1966، ص. 52).

في هذا الجو الخانق كان المثقّفون العرب، ومعظمهم من المعلّمين، أكثر من عانى المضايقات والملاحقات والاضطهاد. فالحكومات الإسرائيليّة وعت منذ البداية الدور الهامّ لجهاز التعليم في تثقيف وتنشئة الأجيال الجديدة، فقامت بفرض رقابة صارمة على التعليم، ولاحقت كلّ من لا يدين بالولاء من المعلّمين، فأشاعت بينهم جوًّا من الإرهاب والتهديد، حتى بات الكثيرون منهم يخشون شهر أيّار من كلّ سنة، آخر موعد يمكن فيه لوزارة المعارف، إبلاغ المعلّم بطرده من العمل في سلك التعليم، ولأسباب سياسيّة في الواقع، مهما اختلفت التسميات والتبريرات. في تموز 1953، كتب السيد شفيق خوريّة، وهو من الذين فُصلوا من التعليم سنة 1952، في ملحق الاتحاد الشهري (الاسم السابق لمجلة “الجديد”)، يصف حالة المعلّمين في تلك الفترة قائلاً: “كلّ معلّم عربي يقوم بعمله تحت سيف الإرهاب والفصل في أيّة لحظة تريدها إدارة المعارف، ولذلك تراه دائمًا في خوف وارتباك خارج المدرسة وداخلها، وتفكيره في تأمين خدمته ورعبه من غضب المفتش أو المدير يميل به إلى المهادنة والخنوع وبيع الكرامة، وهذا ما تريده إدارة المعارف لتحوّله عن الاهتمام بمستقبل أبناء الناس. فعندما يثور المعلّمون في سبيل طلباتهم من تثبيت وزيادة أجور وتحسين شروط العمل تعمد إدارة المعارف إلى فصل المعلّمين بالجملة. ففي سنة 1949 فصلت خيرة المعلّمين وفي 1952 أعادت الكرّة وفصلت ذوي الكفاءات، فكانت إدارة المعارف تستهدف من هذه العمليّة، علاوة على ضرب التنظيم النقابي، تخفيض مستوى المعلّمين. فلقد عيّنت بدل المفصولين مَن لم يتعلّم في مدرسة ثانويّة، ومن كتب رسالة إلى الله بواسطة مدير المعارف [؟]، ومن لا يعرف قراءة المراجع التي تعيّنها إدارة المعارف للتدريس” ( شفيق خورية: التعليم العربي في إسرائيل، الاتحاد، 1953، ص 17؛ وانظر أيضًا: جريس 1966، ص. 133).

عرضنا ببعض التفصيل لأوضاع المعلمين في تلك الفترة، لأنّ معظم الكتاّب والشعراء آنذاك عملوا في سلك التعليم، وكان أمام المعلم الكاتب أو الشاعر واحدة من اثنتين: إمّا كتابة ما لا يؤذي ولا يغضب بعيدًا عن القضايا السياسيّة والوطنيّة، وإمّا المجازفة بكتابة ما تجيش به نفسه، باسمه الصريح حينًا والمستعار غالبًا، معرّضًا نفسه للفصل من الوظيفة وحرمانه من لقمة العيش، وذلك في فترة قلّت فيها الأعمال وعزّت الوظيفة في غير مجال التعليم. يجدر بالذكر أخيرًا، أنّ سياسة الاضطهاد والقمع التي مارسها الحكم العسكري وأجهزة السلطة الأخرى ضدّ الأقليّة العربيّة، وجدت لها أعوانًا بين المواطنين العرب أنفسهم أيضًا. إنهم “الأذناب” بلغة تلك الأيام، أو “المتعاونون” بلغة أيامنا هذه، الذين حرصوا على إبلاغ السلطات بكل صغيرة وكبيرة تحدث بين معارفهم وجيرانهم، فأشاعوا بذلك الشكوك والاتّهامات والمخاوف بين الناس، ومكّنوا السلطات من إحكام قبضتها والتنكيل بكلّ من يعارضها علانية أو سرّا، بمن فيهم المثقّفون والأدباء طبعًا. أشار المحامي صبري جريس في كتابه القيّم إلى هذه الظاهرة أيضًا، دونما تغطية أو مداراة: “في هذه المعركة لا يعمل الحكم العسكري وحيدًا، إذ يسانده قسم المهمات الخاصّة في شرطة إسرائيل وجهاز الأمن الداخلي [الشين بيت] وعملاؤه بين جميع طبقات المجتمع العربي.ٍ

بشأن هؤلاء الأخيرين يمكن القول، بثقة تامّة، إنه لا توجد في الواقع حمولة عربيّة في البلاد ليس لها “ممثّلون” خصوصيّون في هذه الأجهزة. فقد اوجد الحكم العسكري، بجهود كبيرة من الضغط والإغراء والتهديدات واستغلال كلّ نقاط الضعف في المجتمع العربي، نسبة غير ضئيلة من المتعاونين، وخاصّة من أبناء الجيل القديم الذين اعتادوا منذ العهد التركي والحكم الاستعماري البريطاني، الخضوع للنظام أيًّا كان [...]. وبالإضافة إلى كلّ هذه المصادر، حظي الحكم العسكري بمصدر معلومات آخر: تقارير المخاتير العرب التي كانت ترفع إليه في كلّ أسبوع” [جريس 1966، ص 54-55]. في هذه الظروف القاسية، أخذت الأقليّة الفلسطينّية تفرز قياداتها وتلمّ صفوفها شيئًا فشيئًا، دفاعًا عن كيانها وأرضها وحقوقها، وكان للمثقفين، والشعراء منهم خاصّة، دور هامّ في معركة البقاء والحقوق تلك، سنحاول تناوله بالتفصيل في الفصول التالية من هذا البحث.

 

2. بداية أم استمرار؟

من الأسئلة التي تطرح، عادة، في دراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل: هل كان هذا الشعر، والأدب عامة، استمرارًا للأدب الفلسطيني قبل 48، أم هو بداية جديدة لا صلة لها بما سبقها؟ ينسب الأستاذ محمود غنايم، في كتابه عن القصّة الفلسطينية في إسرائيل، إلى الأستاذ إميل توما “أن وضع الثقافة العربية عند قيام دولة إسرائيل يمكن نعته بالبداية لا بالاستمرار”. وفي الهامش إحالة أيضًا إلى كتاب الأستاذ غسّان كنفاني “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، (محمود غنايم : المدار الصعب، حيفا، 1995، ص 37-38). الرأي ذاته، إلى حد بعيد، ذكره الأستاذ نبيه القاسم، قائلاً: “تتميز حركتنا الثقافية في هذه البلاد بأنها حديثة العهد.. وبدأت من لا شيء تقريبًا [...] وجدنا أنفسنا مبتورين عن الماضي .. ومفصولين عن الحاضر والمستقبل.. محاصرين بأبشع القيود والقوانين” (نبيه القاسم: 1979، ص 5).

مقال إميل توما المذكور نشره في مجلة “الجديد” سنة 1963، وها نحن نورد منه هنا، ببعض الإطالة، رأي الأستاذ توما بهذا الشأن: “واقعان لا يمكن تجاهلهما ميّزا وضع الجماهير العربية التي تمسكت بالبقاء في أرض الآباء والأجداد.. المثقفون العرب، سوى أقلية ضئيلة جدًا، قضت عليهم حرب فلسطين بالتشرّد مع الشعب الفلسطيني، فاستوعبت بعضهم الحركة الثقافية العربية العامّة.. هذا أولا.. وثانيا.. نهر الثقافة العربية العامة الذي كان يعرج على فلسطين، وكانت فلسطين أحد روافده الصغيرة، انقطع عن إرواء الشعب العربي في إسرائيل.. وهكذا كادت الثقافة العربية تنحصر في ما بقي في صدور ذلك النفر القليل الذي بقي من المثقفين الفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل [...] ولكن الحياة لا يمكن أن تخضع لقوانين تغاير نبعها.. خصوصًا وأن المثقفين التقدميين الذين بقوا في البلاد جعلوا من مجلة “الجديد” منارًا للثقافة العربية القديمة ونافذة تطلّ على الثقافة العربية المعاصرة. وهكذا بدأ الجيل الصاعد  ينمو دون أن يفقد جذوره القومية.. ودون أن يفقد إحساسه بثقافته العربية وتذوّقه لها [...] فالثقافةالعربية العامة تسرّبت في البداية عن طريق “الجديد” و”الاتحاد” وعن طريق الإذاعة، ثم فيما بعد عن طريق النشر في إسرائيل.. وإن كان هذا النشر لا يزال ضئيلا والاختيار فيه سيّئا بعض الشيء”. [إميل توما، "الجديد"،العدد 2-1،  1963، ص 6].

في مقال آخر للأستاذ إميل توما نفسه يكرّر الكاتب الموقف ذاته، بشكل أو بآخر، فيرى أن العرب في إسرائيل استطاعوا المحافظة على الهوية الفلسطينية في مواجهة سياسة الاضطهاد القومي عن طريق “نتاج تلك القلّة التي عاشت سنوات وعيها الأولى في مناخ نضالية الشعب العربي الفلسطيني قبل النكبة”، وهو يقصد، بالطبع، أدباء اليسار الذين واصلوا نشاطهم الثقافي الأدبي بعد 48، وكذلك “بقيام القوى الديمقراطية بنشر نماذج التراث الفلسطيني الأفضل، النتاج الأدبي الثوري” (أنطون شلحت(إعداد):“سميح القاسم من الغضب الثوري إلى النبوة الشعرية”، منشورات الأسوار،عكا، 1983، ص 101.)

أشار غسان كنفاني أيضًا، في كتابه المذكور سابقا، إلى “الحصار الثقافي” الذي عانى منه الفلسطينيون في إسرائيل بعد 48، والى زوال المؤسسات الثقافية التي كانت في عهد الانتداب، بحيث لم يبق “أي محور ثقافي عربي يمكن أن يشكّل نواة لنوع جديد من البعث الأدبي” (كنفاني 1966، ص 11). إلا أنه لم يذكر، كما يتضح من المقتبس السابق، أن الأدب الفلسطيني بعد 48 كان بداية جديدة منبّته عما سبقها، بل كان همّه التأكيد على “الحصار الثقافي” وتدمير “المحاور الثقافية” العربية بعد 48. ثم إن كنفاني عرض لهذه المسألة بالذات ، في مجلة “الطريق” اللبنانية، مؤكدًا أن “شعر المقاومة في فلسطين هو تقليد من تقاليد شعبها، يرتدّ إلى زمن طويل، ولعلّ شعرنا في فلسطين كان سبّاقًا في استقراء المستقبل، ولذلك فقد كان دائمًا، بمعنى من المعاني، شعرًا سياسيًا. إنني أشير على وجه التخصيص إلى إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وخصوصًا إلى أبي سلمى (عبد الكريم الكرمي). على هذا الضوء يمكن أن نفهم شعر المقاومة في فلسطين المحتلة الآن كجزء من تيّار نضالي شعبي لم ينقطع. وهذه الحقيقة تجعل من السهل علينا أن نفهم لماذا ارتبط شعر المقاومة بدورين متلازمين هما الريادة على صعيد العمل التحرري والريادة على الصعيد الاجتماعي. لقد كان ببساطة تعبيرًا عن ذلك التيار الجماهيري، ولذلك فقد كان ملزمًا بأن يكون تقدميًا: سياسيًا واجتماعيًا” (مجتة الطريق نوفمبر وديسمبر 1968، ص 17).

فهل نفهم من كلام توما وكنفاني السابق، أن الأدب العربي في إسرائيل بعد 48 كان بداية لا استمرارًا لما قبله؟ ألا يظهر بوضوح أن كليهما يعتبران هذا الأدب استمرارًا للتقاليد الأدبية في فلسطين قبل 48؟ ألا نفهم من كلام توما، بوضوح، أن النواة الأولى كانت من الأدباء الذين عاشوا وانتخوا قبل 48، ثم واصلوا هذا الإنتاج بعد 48، بالإضافة إلى ما وصل عن طريق الصحف والإذاعة إلى الأجيال الصاعدة، وان كان ضئيلاً؟ علينا أن نوضّح هنا أن عددًا لا بأس به من المثقفين كان نشأ وتثقف وكتب في عهد الانتداب، وهم من يمكن تسميتهم بالمخضرمين، وإذا كان الأستاذ توما اعتبرهم “نفرًا قليلاً”، فلأنه، كما أسلفنا، قصد “أدباء اليسار” دون سواهم. هذا الشاعر حبيب قهوجي يذكر من المخضرمين عددًا لا بأس به، ولم يذكرهم جميعًا، ويؤكّد في شهادة شخصية أن الأدب في إسرائيل كان استمرارًا لما قبله، لا بداية من الصفر: “لم يكن ما كتب في أوائل الخمسينات هو نقطة الانطلاق من الصفر في أدبنا العربي. لقد ذكرت سابقًا الشعراء والأدباء المخضرمين [مؤيد إبراهيم، جميل لبيب خوري، يوسف نخلة، الأب عبد الله قهوجي، كامل نعمة، إميل توما، جبرا نقولا، نجوى قعوار فرح]، وإنني استطيع أن أضيف إليهم بعض الشعراء ممن تتلمذوا في زمن الانتداب، وبدأت بواكير إنتاجهم تظهر في أواخر عهد الانتداب وأوائل عهد الاحتلال، وكان من أولئك حنا أبو حنا وعصام العباسي وتوفيق زياد وحبيب قهوجي وعيسى لوباني وحنا إبراهيم (حبيب قهوجي: “العرب في ظل الاحتلال الإسرائيلي” ، بيروت، 1972، ص 882؛ وانظر أيضًا:صالح  أبو أصبع: “الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة منذ عام 1948 حتى 1975 ، بيروت، 1975، ص 20؛ رجاء النقاش: “محمود درويش شاعر الأرض المحتلة” بيروت، 1972، ص 8، 54؛  محمود درويش: “شيء عن الوطن” ، بيروت،1971، ص 29؛ أبو حنا 1994، ص 105).

ثم إن شعراء الجيل الثاني، الذين درسوا وتثقفوا في إسرائيل بعد 48، أكّدوا غير مرة صلتهم بالشعر الفلسطيني في عهد الانتداب. يقول محمود درويش مخاطبًا الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى): “أنت الجذع الذي نبتت عليه أغانينا، نحن امتدادك وامتداد أخويك اللذين ذهبا – إبراهيم وعبد الرحيم الذي قاتل بالكلمة وبالجسد. لا، لسنا لقطاء إلى هذا الحدّ، إننا أبناؤكم. لقد كنتَ شاعر المقاومة قبل اكتشاف النقاد لهذا التعبير، وقبل تحوّله إلى تعبير شائع. يحدثنا آباؤنا عن ثوّار فلسطين الذين كانوا يحملون سلاحين: البندقية والقصيدة. وكانت القصيدة لك. من ينسى غارتك الشجاعة على عروش الملوك، يوم كان الشعر نديمًا للملوك؟ ومن ينسى أغانيك ووقفاتك اليسارية عندما كانت اليسارية مغامرة توصل إلى المشانق، وتحرم الناس من رحمة الله؟” (عبد الكريم الكرمي”من فلسطين ريشتي”، بيروت1971 ص 9؛ وانظر أيضًا: سالم جبران في : شلحت 1982، ص 42؛ توفيق زياد: ملاحظات أساسية حول الشعر العربي الثوري في إسرائيل، مجلة “الجديد” 8-9، 1966، ص 6].

بالإضافة إلى ما كانت تنشره الصحف الشيوعية من قصائد فلسطينية وعربية، يسارية في الغالب، اطّلع الشعراء في إسرائيل على كثير من الشعر العربي المعاصر، الكلاسيكي الجديد والرومانسي منه خاصة. كانت المكتبات الخاصة لدى كثيرين من المثقفين “الانتدابيين” مصدرًا متاحًا لأبناء الجيل الجديد، يستعيرون منها كتب الأدب والشعر، ثمّ أخذ الطلاب العرب في الجامعة العبرية، منذ أواسط الخمسينات خاصة، “يسرّبون” الكتب الأدبية، من شعر وقصّة، فتتداولها الأيدي، وكثيرًا ما تنسخها على الدفاتر قبل إعادتها إلى مكتبة الجامعة العبرية! على هذا النحو عرف الجيل الثاني من الشعراء والمثقفين في إسرائيل شعر المهجر وأشعار محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه والشابّي، بالإضافة إلى المعاصرين كالجواهري والسيّاب والبياتي والملائكة وعبد الصبور ونزار قباني وغيرهم. بل إن الأشعار التي كتبها الشعراء في الخمسينات، خاصة في النصف الثاني منها، تظهر فيها بوضوح آثار هذه القراءات أيضًا. (انظر: محمود درويش: حياتي وفضيتي وشعري، مجلة الطريق ، 1968، ص 54؛ سميح القاسم: حياتي وقضيتي وشعري، مجلة الطريق،تشرين الثاني-كانون الأول، 1968، ص 70؛ نظمي محمودبركة: الاتجاه الرومانسي في الشعر الفلسكيني المعاصر، القاهرة، 1994، ص 220؛ النقاش 1968، ص 231).

نخلص إلى القول إن الشعر العربي في إسرائيل كان امتدادًا للشعر الفلسطيني في عهد الانتداب، مواصلا بعض تقاليده أيضًا، ما في ذلك شك. كما أنه تأثر، رغم الحصار الذي ضُرب على الفلسطينيين داخل إسرائيل، بالشعر العربي المعاصر والتيارات الشعرية المهيمنة في العالم العربي آنذاك.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>