إن يروْا بي حجراً/ يهودا شنهاف

المسألة المركزية التي تشغل جردي هي: لماذا تُبعد المنظومة التاريخية المؤرخ والأرشيف إلى خارج التاريخ؟ لماذا تخفي المقعد المتعرّق في سيارة الأجرة، لماذا تخفي مقهى الأرشيف، والشطيرة الرطبة بسبب الطماطم الفاسدة ووضع الأوراق المتحللة؟ لماذا تقبع محذوفات الأرشيف خارج حدود التاريخ؟

إن يروْا بي حجراً/ يهودا شنهاف

وثيقة أمر عملية الهجوم على قرية هونين وتدميرها على يد الجيش الإسرائيلي: "الهدف: اقتحام قرية هونين وقتل عدة رجال، وحجز أسرى وتفجير عدة بيوت من بيوت القرية وإحراق ما يمكن إحراقه". (من أرشيف الهغناه)

.

|يهودا شنهاف|

|عن العبرية: محمود أبو عريشة – خاص بـ “قديتا”|

حاولت ورقة الأرشيف أن تغطي على ذاكرة حجارة القرية الفلسطينية هونين، لكنها تركت وراءها آثاراً تكشف عن المعركة المستترة في الداخل. في كتابه الجريء “حجر، ورقة” يقوم تومر جردي بدمج التاريخ في حاضره، كمن يملك القدرة على أن يحرّك السياسي في غضون رفض طريقة كتابة التاريخ المعتمدة.

ثمة لعبةٌ للأطفال، يشترك بها ثلاثة لاعبين، حيث يقوم اللاعبون بدايةً بتخبئة أياديهم وراء ظهورهم، ومن ثم يمدّ جميعهم إحدى أياديهم بنفس الوقت مكونين كلّ منهم شكلَ حجرٍ أو ورقةٍ أو مقصّ. القوة موزعة بين هذه الأشكال وليست متناسقة: الحجر يفوز على المقص، المقص يفوز على الورقة، وأما الورقة فتنتصر على الحجر.

الحجر، نفسه الذي بنوا منه متحف أوسيشكين في “كيبوتس دان” (تجمع سكني يهودي). ونفسه الذي ضاربت به دولة إسرائيل و”كيرن كييمت” (الصندوق الدائم لإسرائيل) بعد هدم قرية هونين عام 48 (وليد الخالدي يشير في كتابه “كي لا ننسى” إلى ميّزة القرية المعروفة بحجارتها). الورقة التي تغلف وتهزم الحجر هي ورقة الأرشيف، لكن مع ذلك يمكن أن نجد على هذه الورقة آثاراً لما قد حدث. هذا ما يفعله تومر جردي بكتابه “حجر، ورقة”.

وثيقةٌ معروضةٌ في الكتاب لمرسوم عملية عسكرية قامت بها  “الهجانا” (عصابة صهيونية) تنصّ على أنّ “الهدف: اقتحام قرية هونين وقتل عدد من الرجال وأسر البعض. إقتحام بعض بيوت القرية وحرق ما يمكن حرقه”. عن نتائج العملية كتب بيني موريس: “خلال الصيف قتل واغتصب جنود جيش الدفاع الإسرائيلي أربع نساء، في شهر آب أجبر الجنود عددًا من السكان على الرحيل من القرية، بعد شهر هُجّرت بقية السكان بعد اقتحامٍ نفذه الجيش قُتل فيه عشرون فلسطينياً وهُدم عشرون منزلاً”.

يترك جردي التهجير ويستمرّ بالحديث عن الحجارة. في ضبط جلسة القيّم العام على ممتلكات الغائبين من تاريخ 31/3/1951، ورد أنّ السيد “زجورسكي” كشف عن فوضى في جمع مواد البناء. يقول: “إعتقدنا أننا بعنا كلّ مواد البناء التي قمنا بجمعها ولكن الآن نكتشف أنّ في الأرض كمية من المواد الثمينة جدًا والتي لم نعتنِ بها بعد. اليوم توجد أربعمئة قرية مهجّرة وقد قامت الوكالة بتوطين قادمين جدد فقط في عدد منها، والآن يجب أن نقرّر أيًّا من القرى سنهدم وننتج منها كمية أخرى من مواد البناء الثمينة في هذه الأيام”. في وثيقة أخرى من تشرين الأول عام 48 تشتكي “كيرن كييمت” من أنّ القيّم العام على ممتلكات الغائبين يلزمها بدفع ثمن الحجارة: “ليس من المنطق أن نُلزم بالدفع مقابل الحجارة التي يجب أن نُبعدها كي لا يستطيع العائدون في المستقبل استعمالها للسكن في نفس المكان”. القيّم العام يردّ بأنّ المبلغ الذي يطلبونه على كلّ متر مربع للحجارة المنحوتة هو 200 مليم فقط، وهذا المبلغ أقلّ بكثير من السّعر الذي تطلبه المؤسسات الاقتصادية والعامة والذي يبلغ ليرة وربعًا للمتر. الاقتصاد السياسي للتهجير.

هذا الكتاب الجريء والمثير يتحدث أيضا عن المقص، مقصّ الرقيب العامّ والخاصّ. الورقة والمقصّ هما الأداتان الرئيستان في الأرشيف. المقصّ يقوم بتقطيع الورقة، لكنه يترك آثاراً أيضاً. جردي يكتب ما يلي: ” أفكر بالطريقة التي يقومون فيها بأرشفة المعلومات هنا وأفهم أنّ الأمر الذي يصدر بأرشفة وثيقة، أو أجزاء من وثيقة -وبذلك كشفها أمام الجمهور- يصدر بشكلٍ شفويّ”. ويصف الكتاب الوعي المفاجئ لدى الحركة الكيبوتسية لكتابة التاريخ أثناء حدوثه. فعلى سبيل المثال، وُزّعت  في حزيران عام 48، وثيقة تسعى للبدء بجمع المواد الأرشيفية التي من شأنها تخليد “صمود الكيبوتس وروح التضحية والبطولة عند جنودنا في الحرب”.

من الذي يحمل المقصّ؟ يكتب جردي: ” في الأرشيف يمكننا إظهار كلّ ما نريده أن يكون قائماً، وبالأساس كل ما نبتغيه أن يكون الماضي”.  بعد ذلك يوجد وصف للاغتصاب. نعم، هذا الذي قاموا به جنود جيش الدفاع الإسرائيلي: أطلقوا النار، اغتصبوا وبكوْا. موضوع الوثيقة ليس الاغتصاب، وإنما: منع عودة اللاجئين الفلسطينيين. وفي هذا السياق ذكر على الهامش: “قبل فترة ما ألقي القبض على أربع نساء عربيات وقام أفراد الجيش باغتصابهنّ ثم قتلهنّ”. نعم، الاغتصاب ذكره بيني موريس، ولكن لماذا لم يكتب أنّ الإرهاب الجنسي كان وسيلة أخرى في عملية التطهير العرقي لفلسطين؟ الضبوط تكشف عن أنّ الطبيب الشرعي قام بفحص جماجم ثلاث من النساء التي عثر على جثثهنّ؛ الأولى تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً والثانية عشرين عامًا. أما الثالثة فهي تتجاوز الأربعين عامًا. وجدت طلقة نارية في جبهة ابنة الخمسة عشر، أما ابنة العشرين فوجد مكان الطلقة في الخلف، وكانت جمجمة السيدة البالغة محطمة.

وثيقة تحوي شهادة على اغتصاب وقتل أربع نساء فلسطينيات من هونين على يد جنود الجيش الإسرائيلي. في الجزء العلوي من الوثيقة النص الكامل وفي الجزء السفلي النص بعد حذفه من الرقابة.

من الذي كتب الضبط؟ ربما كانت جندية؟ هذه خطوة رائعة يحدد فيها جردي الشخصية الحاضرة الغائبة في الضبط، ويكتشف ذلك من وجود نساءٍ مغتصبات. بماذا فكرت تلك المرأة التي كتبت الضبط؟ هل فكرت في اغتصاب النساء؟ هل في التغطية على الرجال من منطلق التضامن الوطني؟ هل انتقمت منهم من منطلق التضامن النسوي؟ لكن الأهم من ذلك: جردي يبيّن كيف أنّ الاغتصاب السياسي والاغتصاب الجنساني مرتبطان ببعضهما البعض.

المسألة المركزية التي تشغل جردي هي: لماذا تُبعد المنظومة التاريخية المؤرخ والأرشيف إلى خارج التاريخ؟ لماذا تخفي المقعد المتعرّق في سيارة الأجرة، لماذا تخفي مقهى الأرشيف، والشطيرة الرطبة بسبب الطماطم الفاسدة ووضع الأوراق المتحللة؟ لماذا تقبع محذوفات الأرشيف خارج حدود التاريخ؟ الأرشيف يعمل في حالة طوارئ! عاملة الأرشيف تحدّث “عن طالب عربي كان عندها قبل أسبوعين على الأكثر وأخفت عنه هذه المواد.” وتوضح: “على الكيبوتس أن يحمي نفسه”.

“ملزمون بحماية المجتمع”، هو عنوان كتاب ميشال فوكو عن حالة الطوارئ. الأرشيف، مثل القانون، يُخفي الحرب. تلك الحرب الداخلية وليس الحرب الخارجية؛ لا تزال هنالك حرب، توجد حالة طوارئ، ولا يوجد قانون ليبرالي في هذه الحالة. يوجد “صديق” ويوجد “عدو”، لذلك فهذا الكتاب هو عن “الولاء” و”الخيانة”؛ خيانة الأسرة التي هي قطعة من الأمة كما قال فرانز فانون. هذه حالة يجب فيها على الجميع أن يتفرقوا حسب فئات الحرب.

هذا الكتاب ليس كتاباً تاريخياً إنما يحوي مقطوعات من الأرشيف ومناقشة لها من خلال نثر خياليّ ذي جودة عالية، وهو جزء لا يتجزّأ من علم الوجود. أول ما يذكر به هذا الكتاب هو Molttoli (باللاتينية: “عانيت الكثير”) في ماكس هاولر، وهو المسؤول الهولندي الذي قام بنشر معلومات عن جرائم الإمبريالية الهولندية في إندونيسيا، ودسّ هذه الشهادات في داخل كتاب ساذج عن القهوة. ولكن من الواضح أنّ جردي لا يريد أن يكون كتابه مجرّد كتاب تاريخ، فهو يرفض أصلاً طريقة كتابة التاريخ الحالية. كل ما يرغب به هو أن يفهم “كيف ينبع الكلام”، أو الصمت.

إذا كان الأمر كذلك فما هو موقف الخيال في الكتاب؟ ألا يؤدي إلى إضعاف الطرح بكونه يخرج عن الجانر؟ لا أعتقد هذا. “باب الشمس” لإلياس خوري هو مثال ممتاز على ذلك. فعلى خطى خوري يقوم جردي بتطعيم التاريخ بالحاضر، ليس كظاهرة مجمدة، إنما باعتباره محرّكًا للسياسيّ. جردي كما خوري، يبيّن لنا أنّ النكبة لم تنتهِ بعد وأنّ عملية استحضار أحداث العام 48 في الوقت الحاضر هي الخطوة السياسية الأكثر أهمية.

ينتج عن هذا التهجين ما بين التاريخ والأدب بعض الثغرات في كلا المجالين. هذه الثغرات في بعض الأحيان هي بمثابة الخدعة التي تضلل القارئ. فعلى سبيل المثال، يعطل الفصل “واسعة خضراء أوراق الشجر” الجدول الزمني والهيكل الطبيعي للنصّ عمداً، بحيث يكسر التمثيل الخطي للزمن، ويعيق القراءة بسبب عدم انتظام الجمل المكرّرة. وعلى سبيل المثال: “شخص مسن وشاب/ شخص مسن وشاب واقفان/ شخص مسن وشاب يقفان متكئيْن على باب مرأبٍ مغلق/ شخصٌ مسن وشخص شاب يقفان متكئيْن عل باب مرأبٍ مغلق”- هذه هي خدع أدبية قوية تكسر التمثيل الزمني المستمر للوقت في النصّ. الوقت مكسر تماماً كما هو هدف كتابة النص.

لقد قام جردي بجهود كبيرة لكي يُشرك أشخاصاً من أنسال قرية هونين بأفكار الكتاب وتأليفه، لكنهم رفضوا ولم يكن هذا مفاجئاً؛ فتومر جردي هو المحتلّ، هو المستوطن. ولذلك فهو في نهاية المطاف يتعاطى مع هويته هو، الهوية الإسرائيلية: بالإنكار، بالأكاذيب، بترميم التاريخ، بالصواب الأخلاقي، وبقناع الوجه. هذا الكتاب يقوم بواسطة المقصّ بصنع ثقوب كثيرة في هذا القناع.

(عن “هعوكتس”)

“حجر، ورقة”، تومر جردي، صدر عن “هكيبوتس هميئوحاد”، سلسلة الغنمة السوداء، 2012

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>