فيلا توما، الحياة بين ميّتتيْن/ هشام روحانا

فيلا توما، الحياة بين ميّتتيْن/ هشام روحانا

سردية لموت لم يُعلن عنه بعد، للطبقة البرجوازية الفلسطينية بأكملها أمسيحية كانت أم مسلمة، موت لطبقة لم تستطع الحفاظ على وطنها ولا هي بقادرة على التطوّر والتعامل مع الواقع الجديد

من الفيلم الفلسطيني "فيلا توما"، إخراج سهى عرّاف

من الفيلم الفلسطيني “فيلا توما”، إخراج سهى عرّاف

>

(ملاحظة: في هذه المقالة معلومات وتفاصيل عن الحبكة ونهاية الفيلم، قد تفسد بعض المفاجآت.)

 |هشام روحانا|

هشام روحانا

هشام روحانا

في الزمن الدائريّ المغلق يتحول البناء الحجري الفخم والمدعو “فيلا توما”، من منزل عائلي إلى قلعة تحيا فيها شخصيات الفيلم حياتها وكأنها حياة بين ميّتتيْن: ليست قلعة بالضبط بل قُل هي خندقٌ يحيط بمستنقع. هو زمن دائريّ مغلق تعاود فيه المأساة العائلية إنتاج ذاتها من جديد، مأساة عائلة مسيحية ارستقراطية في مدينة رام الله الفلسطينية.

والقصة هي قصة عائلة توما المسيحية والتي كانت يوما ذات منزلة مرموقة في مدينة هي اليوم مدينة محتلة، لم يتبقَّ من أفرادها سوى عمّات ثلاث مصابات بمرض الوحدة الخانق: جولييت، فيوليت وأنطوانيت، تكرّ أسماؤهنّ اسمًا وراء اسمٍ، من دُون كثير عناء، ذلك أنّ هدف من سماهن كان الإشارة بوضوح، ولكن برهافة، ومن خلال الاسم إلى مَنزِلةٍ وهويةٍ ومحتد، وهي عادة كانت شائعة لدى بعض العائلات المسيحية الارستقراطية التي أرادت من خلال منح بناتها (وبدرجة أقلّ أبنائها) أسماء أجنبية ضَربَ نوعٍ من الطوق عليهن. تتولى فيها العمة الكبرى (جولييت، نسرين فاعور) دور آمر سجن واقف على النظام والتراتبية المتوارثة، والعمة الوسطى (فيوليت، عُلا طبري) دور المرأة التي خبرت لفترة وجيزة الزواج ولكن برجل عجوز سرعان ما هوى فأُقعد فمات، وهي العُصابية تتمشى مرفوعة الأنف وكأنّ بصلة فركت تحته، والعمة الثالثة (أنطوانيت، شيرين دعيبس) تلعب، ولربما بسبب سنها، دور الوسيط المتفهم والمتعاطف والأكثر قربا إلى قلب المشاهد، إلا أنّ القدر يخبئ لها دوراً آخر سيظهر في نهاية الفيلم. وداخل أسوار هذا السجن تتابع الحياة سيرها رتيبةً حانقةً وخانقة وكأنها بدون حضور أو قدر أو دوافع، حياة بلا روح ولا حرقة ولا شوق، الا أنها وراء زيف المظهر الخارجي المتزمّت تخفي نار عواطفَ متأججةٍ كُبتت فانسلّت بفزعٍ مقطوعةٍ عن مواضيعها إلى ما دون الكلام. وما يقطع السير الرتيب لهذه الحياة القائمة على توازن الرعب ما بين العوانس الثلاث، والتي وكأنها لشخوص خشبية، هو قدوم غير مُرحّبٍ به لابنة الأخ اليتيمة بديعة (ماريا زريق)، اسمٌ عربيٌ يقطع أيضا سلسلة هذه الاسماء الاجنبية الغريبة.

ورُغم غياب الرجال عن السردية الاساسية للفيلم الا أنَّه يتم الحفاظ على البنية البطريركية الأبوية والذكورية وخطابها متوسطا -وكما يحدث عادة- من قبل النسوة. على أنَّ قدوم بديعة إلى الحلبة يُحضر معه مأساة هذه العائلة الارستقراطية ويكررها، هذه المأساة  التي تم كبتها، وتتمثل وفق عُرف العائلة، بزواج أنيس، الأخ الوحيد والوريث الأوحد للسلالة بامرأة مسلمة، وهو الأمر المعتبر خروجا على العرف والتقاليد وخيانة للطائفة المسيحية وللمحتدّ الطبقي، ذلك أنَّ المسلمَ هو آخرٌ أدنى وفق عُرفها. وفي البداية تنظر العوانس الثلاث، وبدرجات متفاوتة فيما بينهنّ، إلى بديعة كثمرة لزواج دنس. الا أنَّ مهمة مستعجلة تبرز إلى الوجود أمام العمات وهي تهيئة بديعة للزواج السريع، لربما في محاولة منهن إلى البقاء بالتخلص السريع منها، داخل عزلتهن الأثيرة والتي تعودن عليها، أو لربما في محاولة لا واعية للخروج من هذه العزلة. على أنَّ سوق الأزواج لمن تعتبرهم العمات مرشحين مقبولين يكاد يكون فارغاً بفعل الهجرة المسيحية إلى الخارج وبسبب الزيف الذي تحيط العمات أنفسهن به؛ فلا زيارة الكنائس أيام الأحاد تنفع، ولا تنفع زيارة الموتى. وكذلك لا تنفع المشاركة بحفلات الزواج، بل أنها تحمل في طياتها بذرة تكرار الابنة خطيئة والدها. وهكذا تقع بديعة في حب مغنّي أعراس مسلم، لاجئ ومقاوم مؤجّل الشهادة، لتكون ثمرة هذا الحب طفل يأتي إلى الحياة. يغيّر هذا التطور الدراماتيكي للأحداث ترتيب أدوار العمّات، والظاهر في ترتيب مقاعد الجلوس على مائدة الطعام فتحتل انطوانيت صدر المائدة ويصدح من ورائها صوت الطفل الذي قامت هي بإنقاذه.

يجدر بي التوقف هنا عند مشهدين اثنين أراهما كقمة للصراع الدرامي الدائر داخل سردية تبدو خطأً وكأنها أحادية الأبعاد. المشهد الأول هو مشهد خروج النساء الأربع (تُنظر الصورة) إلى شوارع مدينة رام الله. خروجهن من الفيلا- القلعة- السجن إلى العالم المحيط متأنقات كالطواويس، بألبسة تبدو وكأنّ الزمن تقادم عليها فلا هي من هنا ولا هي من هناك وكأنهن هبطن من قارة أخرى إلى ضوضاء مدينه عالم-ثالثيّه، تضج بالأصوات المتنافرة المزعجة للمارة والباعة والسيارات وتعليقات المتربّصين وتضجّ بشعارات “تلوث” جدرانها وصور شهداء تزينها. إنه مشهد فاضح لعمق الهوة والتناقض ما بين عَينَّة لطبقة ماتت، الا أنها تأبى الاختفاء، وعجقة مدينة مثلومة فقدت هالتها. أمّا المشهد الثاني فهو مشهد زيارة المقبرة، حيث تكتشف الكاميرا فجأة وتكتشف بديعة معها قبراً قصيًّا، يبدو من بعيد وكأنه أعِدّ على عجل، إنه قبر والدها. يا لها من لقطة تأخذ بديعة المنحنية والدامعة على قبر والدها المهمل من دون الشاهد وعليه صليب كسرت قاعدته فبات مائلا وكأنه يقول لها: ليس باستطاعتي حمايتك من مصيرك المحتوم.

ويجدر التوقف عند موسيقى الفيلم التي كانت متقطعة فلم ترافق الفيلم على طول الخط، بل أُعطي المجال لدخول الأصوات الواقعيّة والطبيعيّة كأصوات ساعة الحائط والأقدام وفتح الأبواب والنوافذ وحفيف الاشجار… في محاولة لنقل ثقل الواقع الرابض على شخصيات الفيلم السائرة نحو مصيرها المحتوم، ومن دون إفساح المجال لحوار داخليّ ممكن داخل كل شخصية وشخصية. على أنَّ دور الكاميرا هو دور لافتٌ للنظر ويستحقّ التوقف عنده. فحركة الكاميرا في بداية الفيلم هي حركة مغلقة ومتوقفة على الحيّز الداخلي فلا تشركنا مثلا بما تراه شخصيات كلّ لقطة ولقطة، كما يبرز خصوصا في المشهد الفاتح للفيلم حيث تترك بديعة دار الأيتام إلى السيارة فتبقى بؤرتها مغلقة من دون الولوج إلى مشهد بانورامي فسيح، وكذلك هو الأمر داخل السيارة، التي تنقلها من دار الايتام إلى فيلا توما فلا نستطيع التعرف بمسار الرحلة ولا بحيّزها العام. ويبرز بشكل عام، أيضًا، أنّ الكاميرا تحافظ على عدسات ثابتة ولقطات راسخة لشخصيات صلبة خائبة ومسطحة تحت أضواء فجة.

وإذا كان ما قُدم سابقا من تلخيص لسردية أحداث الفيلم يشكّل النص الصريح للفيلم، فإنّ نصًّا تحتيًّا موازيًا ومكتومًا يحاول البروز من بين ثنايا هذا النصّ البادي للعيان مباشرة. إنها سردية لموت لم يُعلن عنه بعد، للطبقة البرجوازية الفلسطينية بأكملها أمسيحية كانت أم مسلمة (ذلك لأنّ الاعراف والتقاليد وحياة النفاق والزيف واحتقار الآخر المختلف مشتركة لكليتهما)، موت لطبقة لم تستطع الحفاظ على وطنها ولا هي بقادرة على التطوّر والتعامل مع الواقع الجديد فتستمرّ بالعيش تحت الاحتلال الذي قطع عنها سير تاريخها الطبيعي، وكأنّ شيئا لم يكن.

(الكرمل، 03-03-2015) 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>