من هي أم كلثوم؟/ غسان حوش

من هي أم كلثوم؟/ غسان حوش

كُنتُ قد دُعِيتُ إلى الامتحان بمُغلّفٍ سلّمني إيّاه مُدير المدرسة شخصيًّا. شعرتُ بالفخر حينَ عاينتُ المُغلّف فوجدته مُعَنْوَنًا بعبارة “إلى حضرة” يتلوها اسمي. أمّا نصّ الرسالة فبشّرني باجتيازي اختبار المرحلة الأولى من “نادي الموهوبين”، داعيًا إيّاي لاستكمال المرحلة الثانية

um

>

|غسان حوش|

هشام حوش

غسّان حوش

“بِنْفَع سؤال؟”، بإصبع مُرتبِكة أشرتُ إلى المُراقِبة من مقعدي الخلفيّ.

كانوا قد جمعونا، طلّابًا عدّة من مدارس القرية المختلفة، في مدرسة “الرازي” الابتدائيّة المُقامة حديثًا. أمّا الدعوى فكانتْ امتحانًا لا-منهجيًّا لم نتبيّن هدفَه، ناهيكَ عن صيغته المشبوهة.

كانت المدرسة المستضيفة بديعة المعمار بمقاييسي آنذاك: حجارة فسيفساء صغيرة زرقاء وبيضاء زيّنت جدرانها؛ ساحتها واسعة مرصوفة بالطوب كالأرصفة، ناهيك بالجدران والطاولات الخالية من الإرهاب الخربشو-شخبطيّ. الرازي؟ لا شيء فيها عساه يشي باسمها. لكن هيهات! أنا الذي أدّيتُ فيها طقوس الحجّ من طواف، سعي بين ذهاب وإياب ورجم بالحصى- لم أحتج إليها دليلًا. حسبي روحا جدّي وعمّتي اللذين يرقدان في المقبرة المقابلة.

لم أفهم لماذا أصرّ الجدار الخارجيّ على تسمية نفسه بـ “مدرسة البايس”، بخطّ أزرق كبير باللغتيْن العربية والعبرية. تجاهلتُه وشققتُ طريقي عبر البوّابة بينما تساءلتُ عن دلالة “البايس” واشتقاقها. من البُؤس أم البَوْس؟

“امتحان أمريكيّ”، أكّد لنا المدير الذي رحّب بنا في غرفة الامتحان. كان ذلك عام 1998. تراءت أمامي صُوَر القصف الأمريكيّ (أيضًا!) للعراق من العام ذاته، بينما واصل المدير شرحه: “لكلّ سؤال 4 احتمالات…”.

 أبي يشاهدُ الأخبار ويلعنُ الساعة الّتي أتَتْ بِهِم. انتظرتُ حتّى هَدَأ روعُه مبادرًا بالسؤال:

“يابا مين إللي بضرُب؟ أمريكا الشماليّة ولّا الجنوبيّة؟”

 كرّاسة غزيرة الأوراق وُزِّعَتْ على كلّ طالب.

“الكلّ أخذ؟”.

بدأ الامتحان.

كانت المراقبة مُعلّمة شابّة، لا أذكر منها اليوم سوى غطاء رأسها كسائر الأخريات. كانت تطلب منّا بوتيرة ثابتة، ربّما كل 20 دقيقة، الانتقال إلى الفصل التالي. جلسَتْ مُطوّلًا على كرسيّ المعلّم في واجهة الصفّ قبل أن أبادر بقَضّ راحتَها.

“كُلّ الخيارات غلط!”، ما لبثتُ أن شَكَوْتُ لها بعدما تكبّدَتْ الوصول إلى مقعدي الخشبيّ الحديث، ذلك الذي لا يذكّرني بنظيره في مدرستي الأمّ.

“السؤال صحّ! فَكِّرْ مليح!”، أجابَتْني بِحَزْم بعد ثوانٍ من تفحّص السؤال.

كُنتُ قد دُعِيتُ إلى الامتحان بمُغلّفٍ سلّمني إيّاه مُدير المدرسة شخصيًّا. شعرتُ بالفخر حينَ عاينتُ المُغلّف فوجدته مُعَنْوَنًا بعبارة “إلى حضرة” يتلوها اسمي. أمّا نصّ الرسالة فبشّرني باجتيازي اختبار المرحلة الأولى من “نادي الموهوبين”، داعيًا إيّاي لاستكمال المرحلة الثانية.

“السؤال بقول مين هي إِمّ كلثوم. وأنا متأكّد إنّها ولا وحدة من الخيارات الأربعة إللي هون”، استأنفتُ أمام المراقبة بثقّة تتعدّى ما لِطالبٍ في الصفّ الرابع الابتدائيّ.

“متأكّد إنّك بتعرف مين هي إِمّ كلثوم؟”، تفحّصتني المراقبة بنظرات غريبة.

“آه، بعرف. وهي مش راقصة ولا مغنّية ولا ملحّنة ولا عازفة”، أجبتُ بانفعال. “كلّهن غلط”.

“معناتُه إنتِ بتعرفش مين هي إِ-مّ-ك-ل-ث-و-م!”، ألقت القاضية بحُكمها.

“مبلا مبلا”، أصررتُ. “إِمّ كلثوم هي…”، ثمّ قاطعني الشكّ.

عادت المراقبة لتجلس خلف طاولة المُعلّم. أراهن أنّها معلّمة “مُعوِّضة” تستلذّ بلحظاتها الأولى من مهنتها النبيلة. آه، تلك النبيلة! رأيتُها تبتسم قبل أن تهجرني في ورطتي.

شكّكتني في معلوماتي تلك المراقبة. استرجعتُ في ذهني ما اعتدتُ ترديده في الصفّ الثاني بإيقاع مضبوط النغمات وراء معلّمة الدين:

“بنات الرسول أربع: فا-طِمَة، زَيْ-نب، رُقَ-يّة، أم كَلْ-ثووووم”.

لا يمكنني الاستغراق أكثر في هذا السؤال. اضطررتُ لتحكيم تقنيّة شطب الإجابات، تلك التي سأتعرّف إلى اسمها بعد قرابة عقد من الزمن.

“بنت النبي أكيد أكيد مش رقّاصة” فكّرتُ.

“مغنّية؟ مستحيل”.

“عازفة؟ لأ لأ، بتخيّلهاش حاملة كمنجة”.

“اقلبوا الصفحة”، زاد من إرباكي صوت المراقبة الشرّيرة.

“ج”، قرّرتُ أن أملأ في ورقة الإجابات.

“مُلحّنة – أخفّ إشي”، تمتمتُ في سرّي وقلبتُ الصفحة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. نص جميل. أنا أيضاً كنت في نفس الامتحان ويبدو أنك موهوب أكثر مني لأنك تتذكر الكثير من التفاصيل أما أنا فلا أذكر تقريبا الا هذا السؤال وأجهل السبب

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>