أربع قصائد/ عماد فؤاد

ماذا يفعلُ الواحدُ
حين يكونُ عليه حملُ جثّةِ عزيزٍ؟
يسترُ عضوًا
فيتعرَّى آخرُ
والنَّاسُ يحيطونَه في نصفِ دائرةٍ
وهم يضربونَ كفًّا بكفّ
يقدِّم رجلاً ويؤخِّرُ أخرى

أربع قصائد/ عماد فؤاد

|عماد فؤاد|

عماد فؤاد



شظيةُ خشب

ابنُ عامين…

وأسقطُ من فتحةِ السَّطحِ فوقَ قُنِّ إوزَّاتِ جَدَّتي

وأقومُ سليمًا دون خدشٍ


غبيٌّ وغشيمٌ…

وأضعُ كفِّي كاملةً في مقلاةِ الزَّيتِ التي تتراقصُ فوقَها دوائرُ الفلافلِ

تتورَّم يدي وتنتفخُ بمياهِ الزُّرقةِ

ولا أكرهُ الفلافلَ أبدًا…

أسقطُ من فوقِ تكعيبةِ العِنبِ أمامَ دارِ جَدِّي على حجرِ الرَّحى

ولا أبكي وجعي

لكنَّني أبكي عنقودَ العِنبِ الذي هرستْهُ يدي

وهْي تتَّقي سقوطي


صغيرٌ…

ألعبُ بالحصى والتُّرابِ وديدانِ الأرضِ، أسرقُ زهورَ البرسيمِ كي أجفِّفَها في كتبي المدرسيَّةِ وأذروها في الرِّيح، أخلعُ أسنانيَ اللَّبنيَّةَ خِفْيةً عن يدِ أبي الثَّقيلةِ، وأرمي بها إلى الشَّمسِ طامعًا في أسنانٍ جديدةٍ أقوى وأجملَ، أسرقُ بذورَ غيطِ خالي وأغرسُها في ماءِ النَّبعِ، كي تنموَ أشجارًا شفافةً هكذا من أثرِ المياه، وأحلمُ بظلٍّ أرى منه ما يختبئُ في الشَّمس، نمتُ من التَّعبِ تحتَ أسرَّةِ أبناءِ جيرانِنا وأنا أختبئُ من أخوتي كي لا أنام، حبستني الحياةُ في غرفٍ مفاتيحُها معلَّقةٌ في رقبةِ أمِّي كي تخرجَ إلى السُّوقِ وتجلبَ مؤنَ الأسبوعِ..


كانت الحياةُ كريمةً مع روحي

روحي التي أتأمَّلُها الآن

وأنا جالسٌ على حجرٍ في الظِّلِّ

أنظرُ إلى قلبي مشطورًا

يعدو على التُّرابِ في صورتينِ


إيه!..

طفولتي

شظيةُ الخشبِ التي اخترقت لحمي

تحتَ الظِّفرِ تمامًا

كلَّما حاولتُ نبْشها بإبرةِ الذَّاكرة

أهلكني الألمُ.


استفهام

تموتُ الأشجارُ

فنقطعُها ونصنعُ منها آرائِكَ ومناضدَ ومقاعدَ وعصيّا

تموتُ الكلابُ

فنلقي بها في الأنهارِ كي نلوِّثَ مياهَ الفقراءِ

تموتُ القصائدُ

فنرصُّها في كتبٍ ونبيعُها للنَّاسْ

تموتُ العصافيرُ

فتتغذَّى الدِّيدانُ على جثثِها قبل أن يحلِّلها التُّرابُ

تموتُ الفراشاتُ

فتهرسُها الأقدامُ العابرةُ


تموتُ الزُّهورُ

فنجفِّفُها ونحتفظُ بها كذكرى

تموتُ الذِّكرى

فننساها

نموتُ

فيوارونَنا التُّرابَ ويقولونَ دفنَّاكم

تموتُ المحبَّةُ فينا

فنحارُ

أين ندفنُها؟!


طاولة غُسل

طيِّبْ يا ناس؛

ماذا يفعلُ الواحدُ

حين يخبرونَه أنّ ابنةَ دمِه ماتتْ؟

وجدوها عاريةً على قارعةِ الطَّريقِ

محلولةَ الإزارِ ومهتوكةً

نهشتْ لحمَها كلابُ السِّككِ

وصفعتْها الأيادي فوق خدَّيها اللذين لم تمسَّهُما كفُّ أبيها

إلا بالرِّضا.


ماذا يفعلُ الواحدُ

حين يكونُ عليه حملُ جثّةِ عزيزٍ؟


يسترُ عضوًا

فيتعرَّى آخرُ

والنَّاسُ يحيطونَه في نصفِ دائرةٍ

وهم يضربونَ كفًّا بكفّ

يقدِّم رجلاً ويؤخِّرُ أخرى

وطيفُ الصَّبيَّةِ

التي صارت جثَّةً محمولةً بين ذراعيهِ

يرفُّ أمامَ عينيه؛

تعدو ضاحكةً من أمامِه

كأنَّه سيهمُّ بإمساكِها

من ذيلِ فستانِها الطَّويلِ.


ماذا يفعلُ الواحدُ

حين يُدخلونَه غرفةَ الغُسْلِ

ليجدَ نفسَه أعزلَ أمامَ جثَّةٍ مسجَّاةٍ على طاولةٍ جرداءَ

ويكونُ لزامًا عليه أن يُغسِّلَ هذا الشَّعْرَ الأسودَ الطَّويل

هذا الوجهَ الصَّبوحَ النَّديّ


هذا الجبينَ العريضَ الذي طالما قبَّلَه بمهابةٍ

كأنَّه يُصلِّي


ماذا يفعلُ الواحدُ

غيرَ أن يتهاوى

واضعًا رأسَه بين كفّيهِ في مذلَّةِ الخُسْرانِ

وهْو يجاهدُ في إغماضِ عينيه كي يراها في البعيدِ

قطعةً من لحمٍ أحمرَ حين حملَها أوَّلَ مرَّةٍ بين كفّيه المرتجفتينِ

حين سهرَ الليلَ بطولِه ممسكًا كفَّها الصَّغيرةَ المبلَّلةَ بملحِ دموعِه

حين نهرَها كي تعرفَ الخطأَ من الصَّوابِ

حين قبَّلَها

وحين شاجَرَها

وحين مرَّضَها

وحين حمَّمها

وحين ضفَّرَ شعْرَها

وحين فكَّ ضفيرتَها

وحين خبَّأها عن أعينِ النَّاسِ

وحين نامت مثلَ زهرةٍ غافيةٍ فوقَ حضنِه

عن رحيقِها المكنونْ.


ماذا يفعلُ الواحدُ يا ناس

حين يغلقونَ البابَ عليه مع جثَّةِ امرأةٍ

حملَها عمرًا بأكملِه

كي لا يلوِّثَ قدميها

وحلُ الطَّريق؟!


وأظلَّتهم سحابة

قيل: وجدوها في الصَّباح جثَّةً طافيةً على ضفَّة النَّهر

قيل: جرَّدوها من ملابسِها في الليلِ

قيل إنَّ لحمَها نُهشَ في أماكنَ لم تطلْها العينُ من قبل

قيل إن شعرَها كان مربوطًا بإحكامٍ فوقَ رأسها بدبّوسِ شَعْرٍ دقيقٍ حتَّى لكأنَّ العينَ لا تراهُ

قيل: عشرةُ أظافرَ تركتْ آثارَها واضحةً كفضيحةٍ فوق نهديها الملفوفين

قيل: عضَّةٌ ازرقَّت هنا، وعضَّةٌ ازرقَّت هناك

قيل: حملوها ومضوا يسألونَ النَّاسَ عمَّن يعرفُها

قيل: أنكرَها النَّاسُ وهم مشفقين وحزانى

قيل: ثمَّةَ سحابةٌ أظلَّتهم في رواحهم وغدوِّهم من دارٍ إلى دار

قيل: لم يشمُّوا لها رائحةً فعفَّتْ عن سربهمِ المهرولِ الكلابُ الضَّالةُ وذبابُ الصَّيفِ

قيل: رفضَ أن يُصلِّي شيخُهم على جثمانِها ولم تُفتحْ لها مقابرُ النَّاسِ

قيل: أعادوها إلى النَّهرِ رابطينَ جسمَها بأحجارٍ ثقيلةٍ ملفوفةٍ في خيشٍ

قيل: رفضها النَّهر بعد أيّامٍ، غاصت الأحجارُ في مياهِه

لكنَّه لم يقبل جثمانَها

ثمَّةَ رائحةٌ غامضةٌ كانت تفوحُ من بينِ نهديها أزعجتِ النَّهرَ

فأعادَها طافيةً على سطحِه في الصَّباح.


(جميع القصائد من مجموعة الشاعر الخامسة: “عشر طُرق للتنكيل بجثَّة”، دار الآداب – بيروت 2010.)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عماد فؤاد

شاعر مصري من مواليد 22 أكتوبر 1974. يقيم في بلجيكا منذ العام 2004.

تُرجمت قصائده إلى العديد من اللغات، منها: الإنجليزيّة والفرنسيّة والهولنديّة والأسبانيّة والألمانيّة والفارسيّة والبولنديّة واللاتفيّة.

صدر له:

“عشر طرق للتَّنكيل بجثَّة”، مجموعة شعريّة، دار الآداب، بيروت، 2010.

“حــرير”، مجموعة شعريّة، دار “النَّهضة”، بيروت، 2007.

“بكدمةٍ زرقاء من عضَّة النَّدم”، مجموعة شعريّة، دار “شرقيات”، القاهرة، 2005.

“تقاعد زير نساء عجوز”، مجموعة شعريّة، دار “شرقيات”، القاهرة، 2002.

“أشباح جرَّحتها الإضاءة”، مجموعة شعريّة، “ديوان الكتابة الأخرى”، القاهرة، 1998.

قام بإعداد وتقديم أوّل مختارات لقصيدة النَّثر المصرية تحت عنوان: “رُعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً”، “جمعية البيت للثقافة والفنون”، الجزائر 2007.

www.emadfouad.com

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. جثة أحلامنا
    التى طافت لدهر
    انكرها الأحياء
    ونبذها النهر
    وأنكرتها شرائع الدفن
    فما استباحوا لها الحياة
    وما تركوها لتنعم بقبر

    أستاذ عماد فؤاد

    دائما يحفز حرفك حروفنا على السعى قدما للأعمق والأجمل
    دام لحرفك تألقه وابداعه

    تقديري واحترامي

    عبير يوسف

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>