على الباغي تدور الدّوائر

اِحفرْ.. اِحفرْ بفأسِكَ الطريقَ إلى الفِرْدَوسْ
فأنت على قاب قوسْ
وفيه ازرعْ.. اِزرعْ كلَّ أولادِكَ الذينَ لم يولدوا بعدْ
ولك مني عهدٌ ووعدْ
ألا يُمحى لك في كنعانَ ذكرٌ أو نسْلْ.

على الباغي تدور الدّوائر

|طروب رفائيل بولس|

طروب رفائيل بولس

في الذّكرى الثّالثة والسّتين للنّكبة ومن وحي المارد العربيّ الذي خرج أخيرًا من القمقم

لعنتُك عشتارْ

أيّتها الأنوثةُ المطعونةُ في الصّميمْ

تطاردُنا في كلِّ عصرٍ وجيلْ

عندما بوجهِهِ عنكِ “جلجامِشُ” أشاحْ

وبفخذِ الثّورِ السّماويِّ الذي صرعاهُ

“إنكيدو” رماكْ

و”لتذهبي إلى الجحيمِ… إلى الجحيمْ” بك صاحْ

جُنَّ جنونُكِ

أيّتها الجميلةُ التي لا تُقاوَمْ

ولم يشفعْ لهما عندَكِ عشاقُكِ القدامى

رغمَ ما قدّموه لكِ منْ مرٍّ ولُبانٍ وخُزامى

وأقسمْتِ بأبيكِ “آنو” ربِّ السّماءْ

أنْ يَعُمَّ خرابٌ وحريقْ

منَ المحيطِ إلى الخليجْ

وألاّ يتوقّفَ سيلُ الدّمّْ

في بلادِ الرّسالاتِ والأنبياءْ

ومنذ ذلك الحين.. عشتار

صارَ على أبناءِ هذِهِ الأرضْ

أنْ يدفعوا ثمنًا باهظًا

جيلاً وراءَ جيلٍ وراءَ جيلْ

وفي كلِّ عصرٍ صِرْتِ تأتينَنا بطاغوتٍ جديدْ

يُعيثُ في الأرضِ فسادًا وفُجورًا وعذابا

يزرعُ في حقولِنا المرايا

ينعكسُ فيها من عقَّ من أبنائنا غلمانًا وخصيانًا وعبيدْ

بأمرِهِ يأتمرونَ.. ويُدينونَ له بالوَلاءْ

أوصالَنا يقطّعون.. ويَسفِكون باسمِهِ الدّماءْ

أعراضَنا يُبيحونَ

ليُقرّبوا “لهُواوا”

إلهِ كلِّ الشّرورْ

سنابلَنا والنّعوشْ

وكلَّ ما لذّ وطابَ منْ هدايا

وعذراواتٍ سبايا

“لا يسلمُ الشّرفُ الرّفيعُ”.. لا يسلمُ الشّرفُ الرّفيعْ

في زمنِ العُهرِ والخطايا

وككلِّ زمانْ

رأفَ “آنو” إلهُ السّماءْ

بأهلِ هذِهِ الأرضْ

وعزمَ أنْ يُوقفَ سيلَ الدّمّْ

ليُزيلَ عنْ كاهلِهِ وابنتهِ ذنبْ

وليكونَ على الأرضِ سلامْ

دعاني “آنو” إلهُ السّماءْ

أنا ” أُورورو” السّيّدةُ العظيمةُ.. اَلأمّْ

وقال: “ليقمْ إنكيدو منَ الأمواتْ

ليولدَ من جديدْ.. حتّى يسودَ الوئامْ”

غسلْتُ يديّ بماءِ النّيلِ والفُراتْ

ومن طينِ البحرِ الميّتِ غَرَفْتْ

قطعةً من طميٍ

في غاباتِ الأرزِ في لبنانَ رَمَيْتْ

والرُّوحَ في الجسدِ التّرابِ نَفَخْتْ

فكان “إنكيدو” على صورةِ “آنو”

الذي في قلبي رأيْتْ”

و”كان “إنكيدو”.. مُقاتِلاً أشعَرَ كإلهِ الحُروبْ

ذا ظفائرَ طويلةٍ كإلهةِ الحُبوبْ”

بعيدًا كلَّ البعدِ عنِ الحضارَة

“يلبسُ كإله الماشيةِ الجلودْ”

يأكلُ العشبَ معَ الغُزلانِ في الصّحارى

و”يَرِدُ الماءَ معَ الوحوشْ”

وحتّى يتوحّدَ معْ رفيقِ روحِهِ اللاجىءْ

الهائمِ على وجهِهِ في الشّتاتِ والمَهاجِرْ

كانَ عليْهِ أنْ يُصبحَ ذا عقلٍ راجِحْ

ومهارة

فأرسلْتُ إلى النّبعِ كاهنةَ المعبدِ الخَلوبْ

وما أنْ رأتْهُ قادمًا عاريًا طَروبْ

حتّى تجرّدتْ من ملابسِها

ثمَّ فتحَتْ ساقيْها فاعتلاها

“ستّةَ أيّامٍ وسبعَ ليالٍ” اجتاحها كعاصفة

فتصدّعَتْ صوامعُ “هُواوا”

علّمتْهُ فيها كلَّ ما يحتاجُ منْ معرفة

فأيقظَتْ في قلبِهِ شوقًا عارما

إلى رفيقْ

اِنسلخَ عنه في عصورٍ غابرة

وحينها فقط عُدْتُ أنا “أورورو” إلى المحرابِ في الأعالي

فمهمّتي قدِ اكتملتْ

وعَيْني قدْ قُرَّتْ بما رَأَتْ

قبل أكثرَ من ستّينْ

جاءني الإلهُ “شامِش”

أنا الإلهة العالمة بكلّ شيءٍ.. “نينسام”

وقالْ: الوقتُ قدْ حانْ

لتحملي وتلدي “جلجامِش”

حبيبَ شامِش المُختارْ

ملكَ الملوكِ سيكونْ

ذا شأنٍ عظيمٍ ونُفوذْ

لكنّه قبل أن يُتوَّجْ

عليه أن يسيرَ في دربٍ طويلْ

من آلامٍ وأهوالٍ

كما يُرَوَّجْ

لاجئاً منبوذًا من القريبِ والبعيدْ

سيجوبْ

سهولاً وجبالاً وبحارْ

رفيقاه قهرٌ وجوعْ

تنهشُ لحمَه طيورُ السّماءْ

ونارٌ في قلبِهِ سوف تُؤَجَجْ

سيُصلبُ مرّةً تلوَ مرّة

حتّى يبصرَ ما في الكونِ منْ أسرارْ

وحين يراودُهُ “إنكيدو” في المنامْ

سيأتيكِ نينسامْ

ليطلبَ برفيقه التّوحُّدْ

في تلك اللحظة

ستسقط عنهما اللّعنة

وستحلّ “بهُواوا”

أبي كلّ الشّرورْ

مصائبُ وكروبْ

هيّا أيّتها البتولْ

هذا ليس أوانَ التّعبُّدْ

قومي إلى الفلاحِ بعلْ

ها هو قد أنهى عملَهُ في الحقولْ

واستلقى في ظلالِ اللّوزْ

ينتظرُ ظهورَك المؤجَّلْ

قلت: لتكنْ مشيئتُك

أيّها الربُّ المُبَجَّلْ

وفي خُشوعٍ سرْتْ

إلى الأسمرِ الفحْلْ

ولرجولتِهِ استسلمْتْ

كنْتُ أجلسُ في ظلالِ اللّوز

وقد أنهيت للتّو عملي في الحقولْ

مسرورًا بما أبدعت يداي

امتلأتْ بنسيم عليل رئتاي

فجّر في أعماقيَ شوقًا دفينْ

وعشقًا مجنونًا ملأ المدى

أخصبَ في الحقلِ البذورْ

فارتعشت أشجارٌ هُنا

وباحَتْ، هناك، بسرّها الأزهارْ

اِنتشتْ في البراري طيورْ

وشالتْ بأذنابها دوابْ

كزهرة لوتس حملتها البحيرة

إليّ ذلك الأصيلْ

كأرضِ كنعانَ البِكرْ

مضمّخةً بالوسميّ

المجبول بالحناء والثّرى

استلقت أمامي بعطرها الأنثويّ

وقد سترت جنّتَها بإزارٍ من بُقولْ

وغطّتْ عناقيدَ عنبِها الفجّْ

بأطواقِ الورد

والياسمينْ

وقالت دون أن تقولْ

اِحفرْ.. اِحفرْ بفأسِكَ الطريقَ إلى الفِرْدَوسْ

فأنت على قاب قوسْ

وفيه ازرعْ.. اِزرعْ كلَّ أولادِكَ الذينَ لم يولدوا بعدْ

ولك مني عهدٌ ووعدْ

ألا يُمحى لك في كنعانَ ذكرٌ أو نسْلْ

فقمْتُ إليها لأطفئ غُلمةَ الحنينْ

الحنينِ إلى الرّحمِ الأوّلْ

الذي فيه تكوّرْتْ

والرّحم الذي سيخلّد ذكري إلى أبد الآبدينْ

وكانتْ سبعٌ مِنْ رخاءْ

ومنْ خيرٍ وخصوبة

وكان جلجامش على وشك الخروجْ

إلى الحياة

وكان عليّ أن استسلم لقدرٍ مرسومْ

دون أن أمتّع ناظريّ بمُحيّاه

لتكتملَ النّبوءة

وبدأت سبعٌ عجافْ

وجئْت بعلٍ بزيِّ النّعاجْ

دخلتُ البيتَ الذي آواه

وأكلتُ ممّا زرعَتْ يداه

وفي ليلةٍ ليلاءْ

انقضضْتُ عليه في الفراش

وأنيابي في قلبه والأمعاء

غرسْتْ

ثمّ الجسد المضرّج بالدّم

قطّعْتُ، قضمْتُ والتهمْتْ

وفي أعقاب نينسامْ

أرسلتُ كلابًا مسعورة وسفّاحينْ

وأمرتْ

أنْ تُبقرَ بطونُ الحوامِلْ

أنْ يُقتلَ كلُّ الذّكورْ

من صّبيان ولدان

وأنْ تساقَ إليّ الأراملْ

وحلّ في كنعان ضيقْ

وسلبٌ ونهبٌ وحريقْ

وعلى أنقاضِ ما كانْ

بنيْتُ مملكتي رمليّةَ الأوتادْ

شوّهْتُ معالمَ المكانْ

وزيّفْتُ التّاريخَ والأسماءْ

حتّى يضلَّ الطّريقْ

جلجامشُ إنْ عادْ

وفي جسَدِ الأمّة المُستباحْ

غرزْتُ مراياي

وخصيانًا من أبنائها

عليها ولّيتْ

سرقوا لقمة الخبز من أفواه العبادْ

وسلّطوا عليهم قهرًا وجهلاً وضيمْ

صادروا أحلام الصّغارْ

وداسوا على ما تبقى عند النّاس من كرامة

وقدّموا ليَ السّمع والطّاعة

وأعزّ ما تملك هذه الأمّة من عتادْ

وأشاعوا عني الأساطيرْ

ليبقوا على عروش الذلّ سلاطينْ

فأنا “هواوا” الذي لا يُقهَرُ أو يُهزمْ

لا يروي غليلي إلاّ الدمّ

لا أرحمُ عدوًا أو صديقْ

وقرّبوا ليَ القرابينْ

تنازلوا عن كلّ غالٍ ورخيصْ

دفعوا ديّة من قتلتْ

موّلوا كلّ حروبي والمجازرْ

وصفّقوا وهلّلوا وكبّروا

وأقاموا ليَ المآدبَ والولائمْ

وقالوا: ليتَك ما أبقيتْ

شريفًا واحدًا أو مناضلْ

ولا يعلمُ هؤلاءْ

بأنّ كلَّهم عندي سواءْ

هيَّأهُمْ ليَ شيطانيَ الرّجيمْ

خدمًا وعبيدًا ومنافِضْ

ولا يعلمُ هؤلاءْ

بأني مثلَهم لا أنامْ

أحيط نفسي بالأسوارِ والجدرانْ

وأدسّ العيون في كلّ مكانْ

من أقمار وكاميرات وعملاء

وترتعد فرائصي عند سماع كلّ صرير

أو هبّة ريحٍ ودبيب

فأنا رعديد جبان

أواجه أبناء القردة والثّعابينْ

الذين يملأون كلَّ الشّوارعِ والأزقّةِ والجحورْ

بآلاتٍ من صفيحٍ وحديدٍ ونارْ

وأضيءُ ليلَهُمْ بالقنابلِ والفوسفورْ

وأتركهم يتعفّنونَ بالزّنازينْ

وأُحيلُ حياتَهم جحيمًا وأرضَهم يبابْ

لعلّهم ينقرضونَ، يرحلون، وعن وجهيَ يغربونْ

لكنّهم يزدادون صمودًا وإصرارًا وعنادْ

ويتكاثرون كالجراد

يضيّقونَ عليّ الخناق

ويذكّرونني صباح مساء

بأنها ثلاثٌ وستّونَ عجاف

وأنّ اللّقاءَ المحتومَ قادمْ

بعد سبعٍ أو سبعينْ

“فقد ولّى زمن الهزائمْ”

وأنني مهما أوغلْتُ في غيّي والجرائمْ

فإنّ ملكيَ لزائلٌ زائلْ

و”على الباغي تدور الدّوائرْ”

(كفرياسيف)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

4 تعقيبات

  1. سلام،
    أولا الشعر تذوق فأنا مثلا مختصة بالأدب العربي ولا استمتع بقراءة بيت من الشعر لأدونيس وهو يعتبر أفضل شاعر في العالم العربي ولكن لا اشعر ان ما يكتبه شعرا مع أنني اعشق شعر محمود درويش ومظفر النواب وأمل دنقل واستمتع بكل قصائدهم الجيد منها وغير الجيّد. ولكن من المعيب أن نخلط بين ذوقنا الشعري الخاص وبين مقومات الشعر. فالى المعلقين السلبيين من حقكما ألا تتذوقا هذه القصيدة ولكن عندما تعبران عن ذلك كنت أرجو كانسانة تتدعي أنها مثقفة وأكاديمية أن أقرأ في تعليقيكما نقدا ادبيا يظهر لي كقارئة مثقّفة ما يجعل القصيدة اعلاه ليست شعرا. بدل التعليق العام والممل والسطحي الذي لا يروي غليل أي مثقف حقيقي. ثانيا كان من المفضل أن تنشرا تعليقيكما بأسميكما الحقيقيين بدل التستر وراء الأسماء المستعارة. أمّا للشاعرة المبدعة طروب فأقول لا فضّ فوك ولا عاش من يشنوك. في كل سنة تتحفيننا بقصيدة أروع في ذكرى النكبة وتملئين قلوبنا أملا بعود قريب وتغنين معرفتنا بأسلوبك المميز والمثقّف. لقد أعجبني كثيرا تعدد الأصوات في القصيدة والتدوير في البناء والفكرة الرّئيسية المثيرة للتمعّن وهي هذه اللّعنة الملتصقة بنا منذ فجر التاريخ. وكيف استطعت بتمكنك من اللغة أولا واطلاعك الغني على الأساطير البابلية والحتّيّة والكنعانية والتراث المسيحي والإسلامي وحتّى الآسيويّ من التعبير عن هذه اللعنة وتجاوز معناها في النصوص الأصليّة من خلال بثّ هذا الكم الهائل من الأمل والتأكيد على حتميّة النصر متى تحررت الأمة وأخذت قرارها بالتوحد وتحرير الأرض والإنسان.

  2. سلام
    لا أتوقع من قديتا أن تخلط بين النص الفني شعرا كان أو نثرا وبين النص التهويمي الذي لا قيمة فنية فيه ولا سحر

    أتمنى على الموقع والقائمين عليه ألا ينجرّوا إلى حيث أودت بنا الصحف والمواقع الأخرى
    يكفينا ما يلحقنا من أذى النصوص التي يراكمونها أمام أعيننا
    قليل من الصرامة في المعايير
    مع قليل من احترام ذائقتنا وأدبنا عموما
    سترفع من أسهم الموقع ومن أسهم الإبداع

    آمل أنكم من سعة الصدر بحيث تتسعون لهذا الكلام
    لتكن المعايير فنية ونقطة
    مع خالص التقدير

  3. رائعة اخرى من روائع شاعرتنا المبدعة طروب.

  4. انا احد المتابعين لزاوية الشعر والاحظ ان هناك تدني واضح، هل هذا المنشور هنا وخلال الفترة الأخيرة شعر؟ مين بيقول هيك؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>