طقوس/ مرزوق الحلبي

تنتهي أم كلثوم من غنائها عندما ينتهي أخي من آخر بذرة بطّيخ. وهي اللحظة التي تفرغ فيها قنينة “الأورنجادا” نهائيا كأنه يعصرها عصرا

طقوس/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي|

1

“خذ هذه النصف ليرة واشترِ لي بخمسة عشر قرشا بذور بطيخ محمصة من عند داود المعضاد. واشتر لي أيضا قنينة ‘أورنجادا’”ـ كان هذا الطلب الأمر يصدر كل يوم من أخي الأكبر في الساعة الثالثة وخمسين دقيقة بعد الظهر. ما أن يصل من عمله بسيارة الجيب التي تفح منها رائحة البنزين المحروق وعدّة العمل وعرق مَن يعملون في البناء، حتى أمتثل أمامه مستعدا لتلبية ذاك الطلب المستحبّ. ينقدني نصف الليرة أو ليرة كاملة. أركض نحو المحمص وأشتري له قنينته المفضلة وأعود راكضا يسبقني فرحي بما تبقى لي من أغورات أدخرها لساعة أو ساعتين!

في الرابعة تماما يتموضع في موقعه متكئا على حائط الشرفة والراديو في حضنه وقد انبعثت منه موسيقى خاصة تمهّد لصوت خاص.

أناوله ما بيدي. يفتح الكيس ويبدأ بقصقصة البذور. ثم جرعة من مشروب البرتقال المغزّز. عادة ما تكون الجرعة الأولى أكبر مما يليها. قشور البذور تبدأ بالتحول رويدا رويدا إلى كومة صغيرة مهندمة تماما محكمة البناء. قشرة فوق قشرة في الطريق إلى التحول لهرم مخروطي. كأنه مهندس من شعب المايا يتشدد في إضافة القشور على بعضها البعض مشيدا عمارته كأنها ستخلّد. وأم كلثوم في الخلفية موسيقى وغناءً وكلمات، هي هي وحيه في عمله هذا.

بين الفينة والأخرى تنم عنه أصوات انسجام مع الأغنية. كان انسجامه متفاوتا من أغنية إلى أخرى. وكذلك هرمه من قشر بذور البطيخ تطرأ عليه تحسينات وتغييرات بحسب أغنية ذلك النهار. رتم بطيء أو سريع، إيقاع أبرز أو عُرب الصوت أكثر نفاذا في الروح! والعصير الممزوج بالغاز حاضر كأنه المدام لا أقل ولا أكثر. جرعات محسوبة الكمية والتوقيت مثل حساب كمية البذور وقشورها.

مشهد يتكرر كل يوم. أتعاون معه مشاركا في صنعه. لعبة ممتعة من ناحيتي. أسرع إلى المحمص ومن ثم إلى الدكان وبعده إلى البيت حيث الحائط نفسه وأخي نفسه ومزاجه نفسه. كل شيء يتم بغير كلام تقريبا. كل شيء معروف وواضح. ما الحاجة للكلام ما دامت أم كلثوم هي التي ستغني؟ ما الحاجة للناس في البيت للأشياء كلها ما دامت أم كلثوم ستنزل من فوق الحائط وتملأ بيتنا!

الراديو كان صيغة مصغرة للراديوهات التي لا نجدها اليوم إلا في محلات الأنتيكا. أحضره أبي يوم عمل في الشرطة الإنجليزية في ميناء حيفا وبقي عندنا قرابة أربعين عاما. كان يلتقط بأمواج قصيرة وطويلة تصلنا بالعالم لا سيما إذاعة لندن و”ندوة المستمعين” التي أجبرنا أخي نفسه على متابعتها لأنه كان يراسل البرنامج، وكان علينا، الأخوة والأخوات، ألا نخلد للنوم قبل الاستماع للبرنامج أسبوعيا، فقد يذكر المقدّم اسمه كمن سأل سؤالا أو أرسل نهفة. ولم يرد اسمه سوى مرة واحدة. ذكر المقدم الاسم وأضاف “من قضاء حيفا” ولم يذكر اسم قريتنا، فخاب أملنا وأخذنا عليه منذ ذلك الوقت مأخذا عظيما!

تنتهي أم كلثوم من غنائها عندما ينتهي أخي من آخر بذرة بطّيخ. ينتهي أخي من آخر البذور في اللحظة التي تُعلن فيها المذيعة انتهاء الفقرة الغنائية مع أم كلثوم. وهي اللحظة التي تفرغ فيها قنينة “الأورنجادا” نهائيا كأنه يعصرها عصرا. وهي اللحظة التي تدب فيها الحياة في البيت من جديد! الأصوات تعلو، والحركة تنشط. أناس داخلون وأناس خارجون وضحكات وكلام في الهواء. صخب الحياة يتجدّد في البيت وفي الحارة. فقد انتهت أم كلثوم من فقرتها. وصار ممكنا استئناف الحياة كما هي. حارة ضُغطت على قوس وتحرّرت الآن. حياة أرجئت أو علّقت على الجدار ثم أنزلت من هناك وأخذت تجري تعويضا عمّا فاتها. لا بأس من تعليق الحياة ساعة كاملة كل يوم ما دامت ستجري بعدها بكل صخبها وشهوتها. لا بأس من ذلك ما دام أخي البكر هو الذي يفعل ذلك كل يوم في الرابعة تماما. أصلا، كنتُ بنيت له صورة ذاك الشاب الذي يقول للحارة موتي فتموت أو يمنحها حياتها فتحيا. كل ما يأتي منه مُهاب يحظى لديّ بالتقدير والتعظيم. وطقوس الاستماع لأم كلثوم، أيضا.

ما أعظمها أم كلثوم ـ كنت أقول يومها!

.

2

أكثر من مرة وقفت هناك على المنصّة حيث وضع جهاز المسجّل الكبير بأشرطته التي أقدر الآن أنها بقطر صينية قهوة.

كنت أنتظر أن يحسم الشبان أمرهم. أن يختاروا أغنية من تلك التي تتضمنها الأشرطة. أغان مختلفة لأم كلثوم من فترات مختلفة. كان في خزانة المسجل نحو عشرين شريطا لا تزيد ولا تنقص. عندما يكون أخي البكر ذاته من المشهد الأول، في قاعة البليارد، كان يختار الأغاني بنفسه ولا يترك لأحد فرصة التدخل. يستطيع الشبان المكبّون على طابات البليارد وقضبانهم في أيديهم أن يطلبوا أغنية أو أن يترنموا بشطرة من أغنية يشتهونها أو يشتهون الطيف المتحرك مع كلماتها ونغماتها. لكنه هو الذي كان يقرر. أم كلثوم من اختصاصه هو ولا تُسمع إلا وفق ذائقته يساعده في ذلك أنه واحد من صديقين يملكان القاعة.

ليتني أستطيع أن أفعل مثله. أختار أنا الأغاني ليسمعوا. نشأ وضع اعتادوا فيه معي -أو أنا معهم- على حرية الاختيار. يتفقون على أغنية فأركّب الشريط على محوره. أشدّ طرفه نحو الشريط في الجهة المقابلة وأدير المفتاح وأضبط الصوت نيابة عن غياب أيّ نوع من الأكوستيكا في القاعة.

وهي قاعة سينما جرداء قاحلة، حيطانها باطون مكشوف.

في أعلاها فتحات بغير شبابيك.

أسلاك معلقة اعتباطا على هذا الحائط أو مدلّاة من ذاك.

فقط محيط المنصّة التي شهدت مرة أو مرتين عرضَا للمصارعة الحرة. وقد اضطررت إلى العمل أسبوعا كاملا في مشتل محلي لأضمن قيمة تذكرة الدخول إلى العرض يومها. أقف الآن حيث تعارك المصارعون وقفزوا وانطرحوا أرضا. أصوّب نظري وحواسي نحو تيسير وزيد، ممثلين لمعسكرين مختلفين حول الأغنية التالية لأم كلثوم. تيسير يريد “دارت الأيام”. وزيد يريد “أغار من نسمة الجنوب”. وبينما كان تيسير بشوشا كان زيد يتوعّد أنه لن يمرّر الليلة على خير إذا ما لم يُستجب لطلبه.

فجأت، طارت قضبان البلياردو في الهواء. ومعها الطابات من كل رقم ولون.

عراك من دون قوانين بين حوالي عشرة من الشبان المقسومين بين أغنيتين لأم كلثوم!

وأنا واقف على المنصة فوق، أتفرّج على العراك تحت. وكنت جلست تحت أتفرج على عراك المصارعين فوق!

سمعت يومها شتائم لم أسمعها من قبل. ورأيت دماء تسيل كما لم أشهد من قبل سوى في الأفلام في هذه القاعة.

كان المشهد حقيقيا إلى حدّ أنني استحسنته. لكني لم أستطع اتخاذ موقف مع هذا الفريق ضد ذاك. ربما لأنني فهمت بالسليقة أن الأمر لن يكون في صالح محل البلياردو الذي تخصص، أيضا، في تحضير وجبات الهمبرغر السريعة مع الخيار المخلل. لم يهمني أمر أحد بعد أن جذبني مشهد الدم والعنف والشتائم المشكّلة.

وقفت على حافة المنصة مقتربا من الموقعة التي لم تنته إلا بعد دخول شريك أخي في المصلحة. وكان عصبي المزاج إضافة إلى كونه قبضاي القرية من دون منازع إلى أن هده السكري تماما. كان حضوره كافيا ليفرض صمتا تاما انتهى عنده العراك.

عدّ القضبان التي تكسرت أو تضررت.

اجتهد تيسير وزيد في الاعتذار كلا على طريقته. تبعهما بقية الشبان. أخرج البعض من جيوبهم أوراقا نقدية ومدوها صوب صاحب المحلّ. ووضع آخرون أياديهم على جيوبهم الخلفية في حركة أريحية. وبحركة حادة أعلن خليل السليم رفضه للاقتراح.

اختلى بتيسير وزيد لبعض الوقت ثم طلب بيرة للجميع.

في هذه الأثناء كنتُ قد ركّبت شريط أغنية ليلة حب. وانبريت أعدّ وجبات الهمبرغر السريعة وأحسب كم من زجاجات البيرة أستطيع أن أحمل حتى آخر القاعة التي امتلأت حتى فتحاتها العلوية بصوت أم كلثوم الذي لم يعكر امتداده سوى ارتطام طابات البلياردو ببعضها البعض.

.

3

عبدالله عصبي إلى حدّ لم ندركه في تلك الساعة من الليل وسط دغل قرب دير المحرقة. لا ضوء في المكان ولا شمعتنا التي عنفتها النسمات أسعفتنا. كان النبيذ فعل فعله في بعضنا وكذلك زجاجات البيرة.

فجأة، سكب عبدالله ما كان لديه من ماء للشرب. لفّ كيس النوم بسرعة ممن تدرّب على ذلك. “ضبضب” حقيبة الظهر وانطلق قبل أن نفهم ما الذي حدث. لحظات مرت، كان عبدالله قد اختفى في الظلام تماما حتى أننا لم نسمع وقع خطاه في ذاك الصمت الذي تراءى لنا جديدا في ذاك المكان.

اتضح أن الليلة ليلة ثلاثاء وعبدالله مشدود كوتر ينتظر انبعاث صوت أم كلثوم من جهاز الراديو/ المسجل الوحيد الذي أحضره خصيصا. بينما يوسف علي يصرّ على الاستماع لشريط زجل كان ضمن عدّة المسجل. سجال الرغبات انتهى بانسحاب عبدالله الذي لا يطيق سجالا في أم كلثوم وأمورها. ألحّ على يوسف أن يفهم رغبته سيما أنه بالإمكان تأجيل الاستماع إلى الشريط لكن من غير الممكن تأجيل الاستماع إلى “حفلات” ليالي الثلاثاء التي يبثها راديو الكويت. عبثا، حاول مع يوسف الذي ركب رأسه والزجل.

تيّس يوسف تلك الليلة التي أردناها تكييفا وغناء ورقصا حتى الصباح. قدمنا آخر امتحانات المدرسة الثانوية وشرّقنا نحو دير المحرقة لنحتفل. يوسف الذي لا يعرف التصفيق على إيقاع أو رتم أصرّ على العتابا والميجنا يرافقها بصوته الذي لا يشبه أي صوت أعرفه. لا يُجيد أي شيء في مجال الموسيقى والغناء وما اهتم في عمره بهذا الترف. لكنه تلك الليلة حزم أمره على أن يصير زجالا. فأطلق صوته مهشما على أدراج الليل يعلو أو يخفت أو ينكسر في منعطفات العتابا ويموت. ينتهي الشريط فيقلبه، ينتهي فيقلبه حتى نفدت قدرة عبدالله على استساغة هذا الزجال الجديد. وانسحب، وهو المعروف بهدوئه، من حفلتنا مخلفا الفجيعة. فقد سكب ماء الشرب وأخذ معه فانوسنا الوحيد وأغراضا وأطعمة مناسبة لسهرة كهذه. لم يترك لنا علب السجائر التي بنينا عليها قصورا وآمالًا. وأكمل انسحابه بعد مرور سنتين أو ثلاث من حياتنا إلى هولندا حيث درس الطب وبقي هناك يجري الأبحاث لإيجاد عقار لمرض الإيدز ويحاول في مستوى آخر إيجاد طريقة موسيقية توفق بين أغاني أم كلثوم التي يحفظها وبين آلة البيانو، إلى أن اهتدى!

كان عبدالله حافظا لأغانيها المتوفرة له ولنا غيبا. ينسخها بخطه الجميل على ورق خاص ويهدينا نسخا منها. يسجل ما يستمع إليه من أغانٍ كل ليل ثلاثاء من إذاعة الكويت. يحضره على شريط إلى المدرسة في اليوم التالي بنوع من التفاخر لينتقل بيننا ذاك الأسبوع ويعود إليه صالحا أو معطوبا من كثر الاستماع أو من رداءة المسجلات.

كنا خمسة أصدقاء ونصير ستة أحيانا. كل منا له اختصاص في الدراسة وفي الهوايات والاهتمامات. وكان لعبدالله أم كلثومه. يحفظها وأغانيها وتاريخها عن ظهر قلب وبأدق التفاصيل. يتتبع خطاها فيما يُذاع أو فيما يصلنا من مطبوعات عبر الضفة الغربية. كل حكاياتها عنده، يحكيها كأنه يرافقها ليل نهار أو أنه أتى للتو من زيارة لها. أم كلثوم تعادل لديه حصص القواعد في اللغة العربية. يدقق في التواريخ كما في الإعراب، في أسماء مَن لحن وكتب وعزف، كما يدقق في الإعلال والإبدال. أم كلثوم بالنسبة له لغة أخرى. يكبّ على دراسة تفاصيلها إلى يومنا هذا. فلقاءاتنا المتباعدة لا بدّ أن تتزين بوشي من أم كلثوم، عزفا أو نهفة أو حكاية اكتشفها مؤخرا. والبريد الألكتروني منه لا بدّ أن يتضمن شيئا من هذه اللغة، مفردة جديدة أو تركيب لغوي حديث العهد. وهو إلى الآن، يتحدث عن تلك الليلة بانزعاج واضح. وهو لا يُطيق أي تهاون في هذه اللغة أو أي تياسة مهما تكن!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>