إنهم يقتلون المسيحيين أيضًا/ سنان أنطون

|سنان انطون| لم يكن الهجوم الذي تعرضت له كنيسة سيدة الن […]

إنهم يقتلون المسيحيين أيضًا/ سنان أنطون

|سنان انطون|

sinan-qadita

لم يكن الهجوم الذي تعرضت له كنيسة سيدة النجاة في بغداد في الحادي والثلاثين من الشهر الماضي الأول من نوعه على كنيسة في العراق في السنين الأخيرة. لكنه الأقسى من حيث عدد الضحايا ومن حيث تبعاته وآثاره التي تعدّت مبنى الكنيسة وأجساد من ذبحوا داخلها، إلى النسيج الاجتماعي المتهرئ أصلاً في العراق، وإلى الشروخ العميقة التي تفصل اليوم بين أقلياته ومجموعاته المتخندقة. فما يسمى بـ«دولة العراق الإسلامية» التي أعلنت مسؤوليتها عن احتجاز المصلين رهائن وقتلهم قبل أن تقتحم قوات مكافحة الإرهاب التابعة للنظام العراقي الكنيسة لـ«تحرير» الرهائن (وأي تحرير قاتل هذا؟)، هذه «الدولة»، أعلنت بعد أيام أن كل المسيحيين في العراق ورموزهم أهداف مشروعة لعملياتها، خصوصاً بعد انتهاء المهلة التي أعطتها للكنيسة القبطية للإفراج عن رهينتين اعتنقتا الإسلام. بغض النظر عما سيحدث، يلخص الهجوم على كنيسة سيدة النجاة مأساة المسيحيين في العراق وما آل إليه وضعهم، ووضع غيرهم من الأقليات، وسيصبح رمزاً واستعارة محفورة في الذاكرة الجمعية.

لم يكن هذا أول هجوم أو اعتداء، فمنذ احتلال العراق تمت مهاجمة أكثر من ستين كنيسة، وقتل ما يزيد على ألفي مسيحي. واضطر أربعمئة ألف منهم إلى الهروب من العراق بعد تفاقم العنف الطائفي وانعدام الأمن وهدر الدم، في زمن الديموقراطية العجيبة. كما تم تهجير الآلاف من بيوتهم ومناطقهم ليصبحوا لاجئين داخل بلدهم، كما هي حال مئات الآلاف من غير المسيحيين.

ومع أن المسيحيين ليسوا الضحايا الوحيدين للعنف الطائفي (انظروا ما حدث للصابئة مثلاً)، ومع أن عشرات الآلاف من المسلمين السنة والشيعة كانوا ضحايا هذا العنف على اختلاف مصادره وأقنعته، وحرقت وهوجمت جوامع ومساجد، فإن ردود الفعل (خصوصاً في الغرب) تختلف نوعياً باختلاف الضحايا. فترى الكثير ممن لا يحرك ساكنا حتى بعيد أكثر المذابح وحشية ضد المسلمين، يهب لـ«نصرة» المسيحيين في الشرق الأوسط. وهناك تاريخ لهذا التقليد الرسمي الذي يعود إلى زمن الاستعمار، وخطاب حماية الأقليات، والذي كان محض ذريعة لتحقيق مكاسب سياسية وللضغط على الحكام والحكومات والأمثلة كثيرة لا داعي لذكرها. أما على المستوى الشعبي فإن «هبة» كهذه ترسخ صوراً نمطية عن العالم الإسلامي وعن مجتمعاته، وتختزل تواريخها المعقدة إلى سردية بسيطة مفادها بألا مكان ولا حيّز في الإسلام وفي مجتمعاته للآخر (المسيحي هنا)، وبأن ما نراه اليوم هو نتيجة حتمية لتاريخ طويل من الاضطهاد والتفرقة. ويصب هذا الاعتقاد بدوره في نهر المخيلة الاستعلائية الهادر الذي ينصّب الغرب المتحضّر حارساً أبدياً للأقليات ولقيم الإنسانية. وهناك من تشرّب هذا الخطاب من بعض المسيحيين وغير المسيحيين أنفسهم في العراق وخارجه وفي المنطقة.

يعود تاريخ المسيحيّة في العراق إلى القرن الأول من انتشار المسيحيّة، وتستعيد الطوائف المختلفة تاريخاً عريقاً وآثاراً ولغات ما زالت تستخدم في الطقوس الدينية وإن كادت محكياتها تختفي مع الأجيال الجديدة (باستثناء الآشورية) وتفتخر بها دليلاً على حضور غير منقطع على أرض وادي الرافدين. وهذه تواريخ معقدة وغنية لا يمكن تتبعها هنا، لكن يمكن القول إنه باستثناء التوترات والإشكاليات التي تكتنف علاقة الأقلية بأغلبية حاكمة، فإن تاريخ المسيحيين في العراق لا يمكن اختزاله، كما يفعل البعض، بمقولة تبسيطية مفادها أنه تاريخ من الاضطهاد المستمر والتفرقة الشنيعة على يد المسلمين وحكامهم. لا شك بأن التفرقة كانت موجودة، وبأن بعض الحقب كانت أصعب من غيرها، وتخللتها سياسات وممارسات مرفوضة بمقاييس اليوم، لكن وجود المسيحيين، لم يكن أبداً مهدداً كما هو اليوم.

قد يعترض البعض ويذكر مذبحة سيميل التي اقترفتها الدولة العراقية الناشئة والتي راح ضحيتها الآلاف من الآشوريين في آب من عام 1933 عندما هاجمهم الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي. لكن هذه المذبحة يجب أن تقرأ وتفهم في سياق صراع القوميات ونشوء الدولة المركزية وليس في سياق «صراع الأديان». فقد كان للآشوريين، كما لغيرهم من القوميات، مطامح وأحلام بدولة مستقلة وشجعهم البريطانيون في البداية في هذا المسعى، قبل أن يتخلوا عنهم ويخذلوهم. أسوق هذا للتذكير بالسياق السياسي والتاريخي لمحنة الآشوريين مع الدولة العراقية. ولم تخفت المطالب القومية للآشوريين مذاك بل تعاظمت وخصوصاً في الشتات حيث تصاعدت، وخصوصاً في الآونة الأخيرة وبعد ازدياد العنف ضد الآشوريين والمسيحيين من غير الآشوريين في كردستان العراق، مطالب منظماتهم السياسية بـ«ملاذ آمن» في شمال العراق.

و الإشكالية هنا هي أن خطاب المنظمات السياسية الآشورية يحاول منذ عقود اختزال كل الهويات والطوائف المسيحية الأخرى تحت مظلة القومية الآشورية وأهدافها السياسية. وخير مثال على هذا أن وكالة الأنباء الآشورية الدولية بثّت خبراً بعد مجزرة كنيسة سيدة النجاة أعلنت فيه مقتل «26 آشورياً» لتصادر بذلك هويات المقتولين الذين قد لا يتفق الكثير منهم بالضرورة مع أجندتها وأهدافها القومية وقد لا يعرفّون أنفسهم أساساً كـ«آشوريين» ويمكن القارئ أن يبحث عن مقابلات على اليوتوب مع بعض الناجين ليتأكد بنفسه.

لم يعرّف المسيحيون في العراق، قبل 2003 وانهيار الدولة العراقية، أنفسهم دائماً كمجموعة سياسية أو عرقية بالضرورة. ومن الضروري أن نفهم تاريخ وتحولات الهويات التي تم سلخها بفعل تكرار خطاب واحد تكون فيه الهوية الطاغية هي الدين والطائفة والعرق. نعم، كان الأصل العرقي (مهما كان متخيلاً) والانتماء الديني يلعبان دوراً في جدلية الهويات طوال القرن العشرين، لكن كان للمنطقة وللطبقة والإيديولوجيا مكانها وتأثيرها المهم في إنتاج وإعادة إنتاج الهوية. أولم يكن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد (يوسف سلمان يوسف) مسيحيّاً؟ أولم يكن طارق عزيز مسيحيّاً هو الآخر وتسنم مناصب مهمة (وبالمناسبة يحظى عزيز، بسبب مسيحيته، بالتماسات رحمة وطلبات عفو، خصوصاً في الغرب. لم يحظ بها الآخرون من رفاقه، على افتراض أن المسيحي المسالم لا يمكن أن يكون قد ارتكب أو شارك حتى بصورة غير مباشرة في جرائم النظام السابق). هناك أمثلة كثيرة لمسيحيين عراقيين برزوا في حقول وسياقات شتى في تاريخ العراق الحديث. المهم هو أن المسيحيين لم يكونوا يشعرون بأزمة ما حول عراقيتهم أو انتمائهم. كما تمتعوا بممارسة شعائرهم ومعتقداتهم بحرية. لا يعني هذا عدم وجود تفرقة أو توتر البتة، لكنه لم يكن مؤسساتياً أو رسمياً. وبالرغم من ضراوة النظام السابق (1968-2003) ووحشيته ضد أعدائه السياسيين ومن كان يظن بأنهم أعداء، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، فإن تعامله مع المسيحيين، كأقلية، كان بلا إشكاليات.

لا بد أن نتذكر تبعات حرب الخليج عام 1991 وتدمير البنية التحتية وانهيار الاقتصاد العراقي من جراء العقوبات الاقتصادية والتي أدت إلى تهرؤ النسيج الاجتماعي وهجرة مئات الآلاف من العراقيين وانحسار الطبقة المتوسطة هربا من جحيم الدكتاتورية. قد لا نغالي إذا زعمنا بأن تفاقم الصعوبات والكوارث دفع بأغلب العراقيين إلى الاحتماء بالإيمان وجعلهم أقرب إلى هويتهم الدينية. وكان لما سمي بالحملة الإيمانية التي شنها النظام في التسعينيات فعلها وأثرها، وخصوصاً بالنسبة للمسيحيين.

رابطأن تتضامن أو لا تتضامن- هذه هي المسألة!/ علاء حليحل

لكن الغزو الأميركي وتفكيك الدولة العراقية كان ضربة قاضية، فالنظام السياسي الطائفي الذي أسسته الولايات المتحدة في العراق على أنقاض الدولة العراقية عقّد التوترات الموجودة أساساً وزاد من حدتها. ولعل أهم عامل في هذا السياق هو تحول الهويات الدينية والإثنية خطابيا إلى هويات سياسية، ومأسستها ببناء نظام تحاصص طائفي، تصبح فيه الطائفة والإثنية هي العملة الرئيسية الوحيدة القابلة للتداول. لقد أجبر هذا غالبية العراقيين على الاتكاء على الهويات الأولية، وهكذا صار المسيحي مسيحياً، أولا وقبل كل شيء، وكذا بالنسبة للمجموعات الأخرى. عندما كنت مع فريق سينمائى لتصوير فيلم وثائقي في بغداد في تموز 2003 كنت في شارع المتنبي أتحادث مع أحد باعة الكتب الذي كان مسيحيا، كان يحدثني عن غرامشي وماركس ولوكاكش، ثم طلب مني أن نزور ونصور مقر حزبهم الجديد. عندما سألته عن اسم الحزب وتوجهاته، قال «حزب كلداني جديد» فاستغربت وسألته لماذا هذا الحزب الطائفي الذي لا علاقة له بطريقة كلامه، فقال بالحرف الواحد «شنسوي؟ هاي الطريقة الوحيدة حتى ندخل بالنظام الجديد ويكون إلنا صوت. ماكو غير طريق!».

لقد ترك نظام وثقافة الميليشيات والأحزاب الطائفية المسيحيين وأمثالهم بلا وسائل دفاع، فلا ميليشيا تحميهم ولا حزب له وزن يمثلهم، فأصبح وضعهم أكثر هشاشة وأصبحوا أكثر عرضة من غيرهم لأعمال العنف والاختطاف والتهجير. فهوجمت وفجرت الكنائس واختطف وقتل الكثير من الرهبان. وتبعثر المسيحيون مثلما تبعثر مئات الآلاف من العراقيين أثناء الحرب الأهلية وبعدها، فلجأ الكثير منهم إلى دول الجوار أو إلى كردستان التي لا تخلو من اعتداءات، لكنها قد تكون أرحم من بغداد والبصرة أو الموصل التي يعاني أهلها الأمرين.

كان عدد المسيحيين في الخمسينيات يقدّر بستة بالمئة من سكان العراق. دفعت سنين الدكتاتورية والعقوبات الاقتصادية بالكثير منهم للهجرة، حتى قيل إن عدد المسيحيين قبيل الغزو الأميركي كان قد انخفض إلى 3% (ثمانمئة ألف). والآن انخفض عددهم إلى نصف ذلك. من المحزن الآن أن يدور الكلام حول إفراغ العراق من مسيحييه وأن يندثروا ويضافوا إلى أطلال عراق تعددي، كان في يوم ما، طوال القرن العشرين لم تتم مهاجمة كنائس في بغداد ولم يهجم أحد يوماً على مصلين داخل كنيسة. لقد سمّى النظام العراقي عملية الهجوم على الكنيسة لتخليص الرهائن «تحريراً»، فيا له من تحرير مميت. وقد أثار كل هذا الكثير من الأسئلة حول تنفيذ العملية وتقاعس الأجهزة الأمنية وعدم جهوزيتها وفشل الدولة الجديدة، كل يوم، في حماية مواطنيها، بغض النظر عن مذاهبهم.

طوال تاريخ عريق قد تشوبه توترات ومشاكل هنا وهناك، لم يكن وجود المسيحيين العراقيين، كأقلية، مهدّداَ في يوم من الأيام. لكنه الآن مهدد، وهذه حقيقة تضاف إلى سجل إنجازات الغزو الأميركي وسجل النظام البائس الذي أنتجه هذا الغزو.

(كاتب عراقي. أستاذ مساعد في جامعة نيويورك؛ عن “السفير” اللبنانية)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. مؤسف ان اصواتكم تسمع فقط عند تعرض المسيحين للذبح والهجوم
    انا ضد تعرض اي شخص لهجوم ارهابي بسبب دينه لكنكم تكيلون بمكيالين ولم اسمع صوتك او صوت علاء حليحل عند الهجوم على مساجد العراق او فلسطين
    قبل مدة احرق مسجد في قرية قرب نابلس وقبلها احرق المستوطنون مسجدا اخر قضاء الخليل فلم نسمعكم تدينون وتشجبون
    مهما كنت شخصيا ميالا للعلمانية فان كيلكم بمكيالين يجعلكم تتقوقعون في ارائكم “التحررية” ولن تستطيعوا كسب الراي العام اذا ادنتم الهجوم ضد المسيحيين فقط وسجعلونني افكر مرتين في اتباع جماعة تدين المسلمين فقط
    لماذا لم نر من علاء حليحل او منك اي مقال حول تعرض المسجد الاقصى او الحرم الابراهيمي او مسجد رهط للهجوم والمؤامرة؟ لماذا لا تدينون تعرض المسلمين في كل مكان الى ارهاب من دول غربية كثيرة باسم محاربة الارهاب؟؟
    الكيل بمكيالين لن يفيدكم في تغيير الواقع والتطرف بل سيزيده ، اشعر بالاهانة كمسلم حين تدينون الهجوم على المسيحيين ولا ارى اي ادانة لاي هجوم على مسجد او مسلم
    انتم تدعون العلمانية والتحرر لكنكم لستم علمانيين ولا تفصلون الدين عن الدولة حين يكون الامر متعلقا بالمسيحية ان فصل الدين عن الدولة هو للاسلام فقط
    اكون مسرورا لو انتقدتم جميع الديانات واتباعها لكنكم لا تنتقدون الا اتباع الاسلام وهذا يفقدكم مصداقيتكم فلتذهب مقالاتكم اذن الى مزبلة التاريخ

  2. نعم انهم يقتلون المسيحيين والمسلمين والخيول ايضا….
    اودّ فقط لفت نظر القراء الى مقاليّ الصحافي الأستاذ روبرت فيسك في صحيفة ال اندبندنت البريطانية في نفس السياق والى ابعد بقليل
    http://www.independent.co.uk/opinion/commentators/fisk/robert-fisk-only-justice-can-bring-peace-to-this-benighted-region-2126754.html
    http://www.independent.co.uk/opinion/commentators/fisk/robert-fisk-exodus-the-changing-map-of-the-middle-east-2116463.html
    اظن انهما يحملان افكارا بالغة الأهمية ويستحقون المطالعة بعد قراءة النص اعلاه…وشكرا للسيد انطون والمشرفين على الموقع..

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>