التنازل لصالح الضعفاء/ عدنية شبلي

دعمًا لتطوير نموذجها للحرب الحديثة، راحت تستعين وزارة “الأمن” الاسرائيلية ليس بالتكنولوجيا فحسب، وإنما بالفلسفة أيضاً حيث يتم تطويع نظريات فلاسفة مثل دولوز وجواتاري وفوكو لتصميم القوة، وأهم من ذلك بوحدات علم النفس وتجاربها المختلفة

التنازل لصالح الضعفاء/ عدنية شبلي

|عدنية شبلي|

خلال السنوات الماضية راحت تخيم فوق العديد سحابة قاتمة، ما هي إلا نتيجة لمعضلة منطقية حقيقية؛ ما يشبه النقيض لقوانين الجاذبية الطبيعية، فبدلا من أن تسقط التفاحة عامودياً، تسقط أفقياً. وأساس هذه المعضلة هو كيف يمكن أن تستمر الأمور على ما هي عليه، وقبول العيش تحت ظروف من الاضطهاد السياسي والاقتصادي بالتحديد، بالرغم من المخزون الفكري والذكاء السياسي والنقدي وحتى نوعية الإنتاج الثقافي للجيل الحالي في مختلف أنحاء المجتمع العربي، خاصة إذا قورن مع الجيل السابق مثلاً، أو نظيره الأوروبي الراهن.

ولقد اشتدت حدة هذه المعضلة مؤخراً في السياق الفلسطيني مع بروز وثائق مفاوضات ممثلين عن منظمة التحرير مع أطراف مختلفة بدءاً بالحكومة الاسرائيلية وانتهاءاً باللجنة الرباعية. كيف يمكن لهذا أن يحدث؟ لا أقصد فحوى المفاوضات، إنما الفتور واللا مبالاة التي جوبه به نشرها من قبل المجتمع الفلسطيني. طرحت هذا السؤال على صديق لي من مخيم الجلزون والذي رد: “إن الناس محبطة وتعبانة”.

بالطبع سرعان ما وصلنا إلى الاستنتاج التالي، أنه بعدم ردنا، هو وأنا، إنما كلانا أيضاً يتحول إلى أحد هؤلاء الناس الذين قد يتم نعتهم بالمحبطين والتعبانين، في محادثة أخرى ربما تجري في هذه اللحظة تماماً. وعلمياً لا لبس في هذا الوصف، وبأنه ينطبق على ما يقارب السبعين بالمئة من الفلسطينيين، كما تشير الأبحاث النفسية الصادرة خلال الأعوام الماضية.

فنموذج الاحتلال الاسرائيلي هو من أشد نماذج أنظمة الحرب تطوراً في العالم في الوقت الحالي. خلال العقد الماضي راحت الكثير من دول العالم تدرس النموذج الاسرائيلي وتطبقه في بلادها أو البلاد التي تحتلها، إما نظرياً أو عملياً، عبر استخدام أسلحة اسرائيلية الصنع تم توفيرها لمثل هذا الهدف. ومن بين هذه مثلاً، سياسة إطلاق النار على من يتم الاعتقاد بأنه قنبلة موقوتة والتي طبقها الأمن البريطاني بعد أحداث 7 يوليو في لندن، وفي بناء الجدار حول “المنطقة الخضراء” في بغداد، وطرق قمع الحكومة الفرنسية والحكومة اليونانية للمتظاهرين ضدهما، وكذلك نشر قوات أمن مسلحة في الأماكن العامة وفحص أوراق من تبدو بشرتهم داكنة.

دعمًا لتطوير نموذجها للحرب الحديثة، راحت تستعين وزارة “الأمن” الاسرائيلية ليس بالتكنولوجيا فحسب، وإنما بالفلسفة أيضاً حيث يتم تطويع نظريات فلاسفة مثل دولوز وجواتاري وفوكو لتصميم القوة، وأهم من ذلك بوحدات علم النفس وتجاربها المختلفة. إحدى أهم هذه التجارب التي يتم تطبيقها بشكل رئيسي في نموذج الاحتلال الاسرائيلي للفلسطيني هي “العجز المكتسب” (Learned Helplessness). وفقًا لهذه التجربة، يتم وضع الطعام لمجموعة من الفئران محبوسة في قفص، ثم يجري إطلاق شحنات كهربائية في أوقات متباينة وغير متوقعة كلما اقتربت الفئران من الطعام. مع الوقت وبسبب الألم الشديد الناتج عن إطلاق هذه الشحنات، لا تعود الفئران تقترب من الطعام، خوفاً من الشحنة، بل وتتحول إلى شبه مشلولة، لا تتحرك من مكانها، حتى تموت[1].

في السياق الفلسطيني، يلاحظ المرء بشكل متزايد هذا العجز المكتسب وعدم التفكير في الاتيان على فعل ما أو التحرك. ولا مثال أفضل على ذلك من وثيقة شبيبة غزة، التي صدرت مؤخراً وأثار حماسة العديدين خاصة في الغرب، وفي البداية حتى أنا نفسي.[2] تطالب هذه الشبيبة في بيانها أن ينتكح الجميع- حماس وفتح وإسرائيل وأمريكا، كما تطالب بالحرية والسلام، بل وتذيل المجموعة طلبها بالسؤال “أوهذا كثير ما نطلبه؟” بالطبع فقط الأولاد المدللون يطلبون الأشياء ويتوقعون تلبيتها، ثم يستغربون بل يشجبون إن لم يحدث ذلك، أو فئران المختبر في تجربة “العجز المكتسب”.

علاوة على ذلك، تبدو في البيان جميع الأطراف- حماس وفتح وإسرائيل وأمريكا- متساوية في مدى وأسباب ومجريات إضطهادها لهؤلاء الشبيبة. وهو طرح ما كان لينتج عن وعي سياسي عميق وذكي، يُحسن التعامل مع ما يجري من حوله. كذلك يبدو من اللغة المستخدمة في بيانها، بأن المجموعة في الغالب تتكوّن من المراهقين أو الشباب من الطبقة المتوسطة، لديها اطلاع على الثقافة الشابة الغربية، ربما بالأساس عبر الانترنت، وتتحدث بمنطقها وبلغتها وإليها بالأساس عبر الفيسبوك، ما يجعلها تحس قريبة منها، أقرب إليها منها إلى الشباب الواقفين مثلاً في ساحة بمخيم رفح، والذين لا تتحدث إليهم المجموعة من أصله، وربما حتى لا يمكنها الوصول جسدياً إليهم. بالتالي وعيهم إنما هو أشبه بوعي فئران محبوسة داخل القفص، تعتبر ما ترى من تلك النقطة إنه الحقيقة، وكل ما ترغب به هو منحها الطعام، وبذلك يتساوى بالنسبة إليها الموظف الذي ينظف المختبر، ومخترع التجربة ومطبقها وممولها.

هذا الوعي الناجم عن العجز المكتسب لا يقتصر على مجموعة شبيبة غزة تلك، بل هو نموذج الوعي الفلسطيني الحالي: الطلب، حيث وكلما أمكن الطلب: الطلب في السماح بحرية الحركة، طلب الحماية الدولية، تحقيقات دولية في حال حدوث جرائم حرب، تعاطف دولي وعربي، رفع الحصار وإنهاء الاحتلال، وأخيراً الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، وربما قريباً أي-فون بسعر معقول. ولو تكلمت الفئران تلك، لكانت قائمة طلباتها مشابه، (ربما عدا الأي-فون).

في عودة إلى مجموعة شبيبة غزة، هذا النوع من الوعي ليس شاملاً، ولا ينجح المرء بأن يجده في سياقات أخرى حيث لم تنجح اليد العليا في الحكم، كما نجح الاسرائيليي في السياق الفلسطيني، بشل حركة الناس وتحويلهم إلى ما يشبه الفئران في تجربة العجز المكتسب. قبل ثلاثة أشهر كنت في زيارة لتونس، ذهبت خلالها في رحلة إلى مدينة سوسة، برفقة مجموعة من المراهقين التونسيين الذين للوهلة الأولى يلعن المرء نفسه على أن راودته فكرة القيام بمثل هذه الرحلة معهم، بسبب صخبهم وصراخهم المثير للصداع. لكن سريعاً ما يقوم هؤلاء المراهقين، على عكس المثقفين التونسيين الذين تحدثت معهم حتى تلك اللحظة، بتعريفي بكامل خبايا استبداد النظام السياسي في البلاد والفساد الذي يتغلغل فيه، لدرجة رحت معها أرجوهم بأن يكفوا عن الحديث خوفاً عليهم. وتدريجيا راح حديث هؤلاء المراهقين يمتد إلى كارل ماركس وآدم سميث. وأخيراً حين صبوا كل ما في جعبتهم صراخاً متحمساً في أذنيّ، فتحوا حقائبهم ليخرجوا من داخلها مؤلفات طه حسين وميخائيل نعيمة وشارل بودلير وفولتير وآخرين لم أعد أذكرهم الآن، وانصرفوا يقرأون بصمت. لم يحمل أي من هؤلاء المرهقين إذاً، والذي شرح لي أحدهم لاحقاً بأنهم من عائلات من الطبقة المتوسطة، كتاب هاري بوتر أو دا فينشي كود أو الأي-بود مثل مراهقين فلسطينيين في مثل عمرهم من أولاد الطبقة المتوسطة؛ بل كانوا يحملون أدوات موسيقية ليعزفوا موسيقاهم الخاصة.

حين جرت ثورة تونس، استغرب ذلك الكثيرون ممن حولي وسبق أن زاروا تونس في الأعوام الماضية القريبة، بمن فيهم أنا، قائلين بأن الأمور جرت بسرعة، أسرع مما توقعوا، وحتى بانتقال الأحداث إلى دول عربية أخرى وخاصة مصر. ولكن أحقاً الأمر كذلك في بلد فيه مثل أولئك المراهقين؟ لربما هذا الاعتقاد بأن الأحداث في تونس جرت بسرعة غير متوقعة، ناجم عن خوف خفي من التغيير أو تصور حدوثه؛ هو أشبه بتطمين أو تخدير ذاتي لتبرير سير الأمور على ما هي عليه منذ عقود. راح يقول المرء منا بأن أي ثورات ضد هذه الأنظمة السياسية الاقتصادية الاستبدادية كانت ستجري بعد سنوات، ربما بعدد السنوات التي يقول كل مرة فيها الحكام بأنهم سيمددون حكمهم، وبمرور السنين، لا تمضي هذه الـ”بعد سنوات” بل تتحرك مع المرء الذي لما يزل بانتظار حدوث ثورة ما. لكن الأمر ليس كذلك، كما يبدو لأمثال المراهقين التونسيين الذي التقيت بهم، من نساء ورجال، عمال وعاطلين عن العمل، شباب وكبار في سن. وكم أود رؤية هؤلاء المراهقين الآن بعد ثورة تونس الشهر الماضي، وثورة مصر، ولا أدري من سينضم إلى القائمة حتى نشر هذا المقال. فبالنسبة لكل هؤلاء ممن شاركوا بها، هذه الثورات إن حدثت، فقد حدثت بعد ثلاثة عقود على الأقل من حكم مستبد كان سيستمر حتى ثلاثة عقود أخرى لو لم يتحركوا ضده ويقفوا أمامه. وهو ما يمكن أن يحدث بسهولة، أي عدم الحراك، في سياقات كالسياق الفلسطيني الذي تم تسليب وعيه، أي جعله سلبيا، وراح يعتقد بفرديته، لكن ليس بحريته الفردية، إنما بسلبيته الفردية تجاه الاحتلال. وكما لو أن الاحتلال بات مسألة يعاني منها الفلسطيني على المستوي الفردي فقط، وأن مَن حوله من الفلسطينيين هم جزء من ماكينة الاحتلال الموجهة ضده. وهذا يظهر ليس فقط في الأوراق الفلسطينية المنشورة حديثاً عن دور القيادة الفلسطينية الحالية في التفاوض مع الجانب الاسرائيلي، إنما أيضاً في الحياة اليومية، بدءاً بالطبقة الاقتصادية المحظوظة كالمحامين الفلسطينيين الذي يساعدون الجيش الاسرائيلي في تعديل مسار الجدار للتخفيف من حدة وطأته قليلاً على موكلهم، ولكن “نكح” جاره كما كان سيقول شبيبة غزة، مروراً بالطبقة غير المحظوظة التي يعمل المحظوظ فيها، لقلة الحظ، في بناء الجدار، وانتهاء بالفلسطيني الواقف في الصف عند الحاجز والذي يروح “يدافش” رفيقه الفلسطيني الآخر حتى يسبقه بأربع دقائق سيضيعها هو على أي حال فيما هو يحدق في السقف محبطاً متعباً.

عدا عن كونها نتاجًا لنموذج احتلال فائق، تشير هذه التصرفات والمعادلات الفلسطينية بالأساس إلى كيفية تنازل الضعفاء لصالح الأقوياء وخوفاً منهم، وهو ما يجعل هذا النموذج ينجح بالدرجة الأولى. لذلك أيضاً راح يقول الكثير من الفلسطينيين بأن محتويات سجلات المفاوضات لم تهبط عليهم كمفاجأة، فهي تأتي وفقًا لمعادلة يعرفونها جدياً وراحوا يعيشونها في السنوات الأخيرة. ومن ذكاء هذه المعادلة، تنازل الضعفاء لصالح الأقوياء، بأنها لا تذكر فقط الضعيف بضعفه، إنما تبقي أيضًا على هذا الضعف وعلى قوة القوي في الوقت ذاته.

هذه المعادلة أيضاً هي ما جعلت وما زالت تجعل الانظمة الاستدايادية تستمر باستبداداها بشكل ناجع وناجح. لكن ذات يوم قرر الرفيق الأخ الصديق الزميل العزيز محمد بوعزيزي خلخلة هذه المعادلة.

مثله مثل ملايين الآخرين، يومياً ولمدة ستة وعشرين عاماً، راح بوعزيزي يقبل بهذه المعادلة، ليتمكن من الاستمرار في العيش ليس أكثر، إلى أن انسحب فجأة من هذا السباق، وقرر أن يضع حداً لعيشه، وهو السبب الأول والأخير الذي يدفعه للمشاركة في هذا السباق من أصله وللقبول بضعفه. إن بوعزيزي ببساطة قرر التنازل عن رغبته في العيش والتي تدفعه إلى التنازل لصالح لأقوياء، أي أنه بتنازله هذا لم يعد هنالك ما يدفعه للتنازل للأقوياء أكثر. بل أنه بهذا، تنازل عن ذلك الذي يستخدمه الأقوياء كسلاح ضده ومن أجل تثبيت قوتهم.

بوعزيزي إذاً أدرك أن الأقوياء يهددونه بنفسه لجعله يقبل باضطهاده والاستبداد به، لكنه بتنازله لصالح الضعيف لا القوي، في هذه الحالة، فإن بوعزيزي غيّر المعادلة، إذ تنازل أخيراً لصالح نفسه الضعيفة، بكل ما تملك نفسه، أي نفسه ذاتها.

من أجل أن يبقى بوعزيزي على قيد الحياة لوقت أطول، كان ربما يحتاج فقط إلى شخص آخر ضعيف، يرضى بأن يتنازل عن نفسه لصالحه، وهذا الضعيف الثاني يتنازل بدوره لصالح بوعزيزي الضعيف أو أي امرئ بمثل ضعفه. وهذا بالضبط ما حدث، حين اندفع الآلاف في تونس، ومئات الآلاف في مصر، على خطى بوعزيزي، يتنازل كل منهم عن قوته الأخيرة لصالح الضعفاء الآخرين من أمثاله، وليس لصالح الأقوياء بعد. في تلك اللحظة راح الأمر يتحوّل أيضًا من وضع حد للحياة، إلى وضع نقطة بداية لحياة جديدة.

ولعل وعسى الحكام الاستبداديين ومن في حاشيتهم ينضمون لمثل هذا الجهد، من فلسطين وإلى اليمن وليبيا والسعودية وسائر الأقطار، فيتنازلون لمن هم أضعف منهم، وليس لصالح من هم أقوى منهم. ربما كان ذلك سيجعل هؤلاء المستبدين وأتباعهم أخيراً يشعرون بقوتهم الحقيقية، وليس ضعفهم، حيث لا يفكرون إلا بحماية أنفسهم الخائفة، والتي لا تحس هذه الأيام بأكثر من العزلة والرهاب.




[1] تعتمد هذه المعلومات على محادثة شخصية مع طالبة جامعية فلسطينية في قسم علم النفس في جامعة حيفا، تفضل عدم نشر اسمها.

[2] للاطلاع على نص البيان كاملاً، يرجى مراجعة مقالة الجارديان حوله على الرابط :

http://www.guardian.co.uk/world/2011/jan/02/free-gaza-youth-manifesto-palestinian

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. تحليل جامد

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>