الثورة الرّاقية تنتصر/ هشام نفّاع

|هشام نفّاع| يُظهر أحد الفيديوهات المصوّر من القاهرة صف […]

الثورة الرّاقية تنتصر/ هشام نفّاع


"إرحل بقى إيدي وجعتني"- السخرية المصرية النموذجية


|هشام نفّاع|

يُظهر أحد الفيديوهات المصوّر من القاهرة صفًا من الشباب وهم يغنّون: “حنيجي بكرا ومعانا صْحابنا، وبعد بكرا ومعانا جيرانّا”. أمامهم تمشي مجموعات من الوافدات والوافدين باتجاه أحد مداخل ميدان التحرير. تلتقط الكاميرا عددًا من النساء والفتيات وهنّ يشاركن الشباب التصفيق، بوجوه بشوشة هي انعكاس لبشاشة مستقبلي الناس في الميدان الذي تحوّل رمزًا لثورة مصر.

معظم الملصقات واللوحات التي خلّدت ثورات شعوب العالم تشتمل على صور لوجوه مدفوعة بالغضب الحقيقي على الظّلم. لا تخلو من صور القبضات المكوّرة المرفوعة وإشارات النصر والإصرار. بعضها يحمل عناصر رمزية لاشتعال الثورة، ولذلك يبرز عنصر النار في كثير منها. سنجد هذه الرموز جميعها في العديد من صور وبوسترات الثورة المصرية المتواصلة المتصاعدة في هذه الأيام. لكن، ربما أن ما سيبقى منها ويميّزها هو صور ورموز مختلفة.

هناك كم كبير من المواد الموثّقة بالصوت والصورة يعكس وجوهًا فرِحة، حناجر تغني، وحتى عندما تهتف يكون هتافها أقرب الى الغناء. من الصعب أن تجد في مكان آخر آلافًا مؤلفة تضبط تصفيقها وهتافها وغناءها على إيقاع واحد. ربما هذه من خصائص الشعب المصري. حسّ فطري للنغمة وللايقاع. لا يزال يدهشني مشهد الحشود وهي تهتف بكلمة واحدة: إرحلْ. كلمة واحدة، وليس جملة مسجوعة تسهّل على هتافها. لكن المصريين فنّانين، يرددونها بنغمة تجعل من الكلمة الواحدة أغنية. الصديق الموسيقي فرح جبران لاحظ أن النغمة التي ردد المتظاهرون الكلمة فيها تحمل عنصر التنبيه، أشبه بصوت زامور الإسعاف مثلا.

أعتقد أنّ موهبة سائر الشعوب في هذا المجال أكثر تواضعًا. في مظاهراتنا الفلسطينية مثلا، تجد مئة يصفقون ويهتفون بصدق، ولكن مع الكثير من الخربطات الايقاعية. أما في مصر، فبمقدور الآلاف ضبط ايقاع واحد وصحيح ومُنساب دون عناء. أهذا بفعل الحياة على إيقاع النيل منذ فجر التاريخ المدوّن؟ لا أدري.

كذلك، توثّق المواد المصوّرة والمسجّلة شعارات ورسومات غاية في الطرافة، وغاية في الدقة السياسية تعبيرًا عن المطالب. هذه التوليفة تعكس مزاج شعب وميزة حضارية جماعية نادرة. أحد الأصدقاء قال: النكتة المصرية من أقوى عناصر مناعة هذه الثورة. فعلا.

هذا يترافق بمشاهد جميلة من التضامن والتكافل البسيط الحقيقيّ غير المتكلّف: في توزيع وتقاسم الأكل والشرب. في العمل التطوّعي المتواصل على مدار الساعة لتنظيف وترتيب الميدان. في تلك الأيام التي ارادها النظام دمويّة حين سحب أجهزته الأمنية والبوليسية متوهمًا أن الشعب سيفتك بنفسه، فألّف هذا الشعب لجان الحماية والحراسة الشعبية ليحمي الخير العام والمُلك الخاص. ليتّضح لاحقًا أن النظام أفسح المجال للاعتداءات فعلا، لكن أذرعه هي الوحيدة التي اقترفتها. روح التطوّع والمسؤوليّة والمحبّة في صفوف المصريين هنا أسقطت آخر قناع عن وجه النظام. وبشكل مرتبط جدليًا كشف هذا الشعب للعالم عن وجهه الحقيقيّ. لقد أزاح مرة واحدة جميع الأفكار المسبقة عنه، وكأنه يتّسم باللامبالاة والانكسار وما شابه. من خلال هذا أفرغ الكثير من العقائد الاستعلائية من مضمونها، وبنظر أصحابها أيضًا. فمنظرو الاستعلاء والاستشراق الذين رأوا في الشعب المصري وأخوته دهماء لا يسيّرها سوى عصا القمع أو التحشيد الغرائزي، يرتجفون الآن وقد انهارت عقيدتهم أمام عيونهم. لا يقتصر هذا على مساحات التنظير الأجوف، بل يمتدّ الى العقائد السياسية والأمنية المشتقّة من النظريّات (وبالعكس!).

هذه ليست ثورة العيون الغاضبة والحشود التي تهاجم وتكسّر وتحرق. من حق ثورات الشعوب أن تكون كما تشاء. لكن الأسلوب المصري في الثورة لم يسمح لغلاة الاستعلاء بأن يتحدثوا عن “شغب” و”فوضى”. لم تجد الكاميرات مصالح تُنهب ولا مؤسسات تُقتحم– إلا من فعل النظام. النظام هو الفوضى. أما الثورة فهي الحارس الأمين المسؤول.

إحدى الصديقات أصابت حين قالت: هذه ثورة راقية. صحيح أن هناك من يستعجل صور اقتحام هذه المؤسسة السلطوية وذاك المعْلم المرتبط بالنظام. لكن المصريين الثوّار لديهم طريقتهم وايقاعهم وننفسُهم الطويل. أو كما كتب أحد المتظاهرين ردًا على حسني مبارك الذي نُقل عنه القول: أنا معي دوكتوراه في العِناد. ذلك المتظاهر ردّ عليه بنفس القوة وبكثير من الإصرار والاستخفاف معًا: إذا كان معاك دوكتوراه في العناد، فنحن معنا نوبل في الصّبر.

هذه الثورة لم تحشد المعنى لكثير من المفاهيم فحسب، بل خلقت مفهومًا جديدًا للثورات: بوسعك أن تهشّم أكبر نظام، أن تكشف حقيقته، أن تجعله يرتبك ويرتكب جميع الأخطاء، ليس بالضرورة من خلال العيون الحمراء الغاضبة والقبضات المشدودة. حين تحلّ ضرورتها فليكن. ولكن يمكن بالنفَس الطويل والإصرار الهادئ وروح النكتة والبساطة المثيرة للإنفعال، أن تهشّم رأس أكبر قامع. وهاي هي قد هشّمته. نحبّك يا مصر.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. تحياتي الحارة رفيق فؤاد. تحيات للمحلة الكبرى – عاصمة العمّال. سنلتقي قريبًا وأكيد بدنا نوكل فول وطعمية عند البغل :)

  2. مبروك لينا يا رفيق هشام و عقبالنا فى شعبكم
    .. تحياتى لك من المحلة الكبرى – منتظرك يا رفيق تنورنا مرة اخرى فى وطن صنعنا حريته
    طبعا الحرية لن تغير سندوتشات الفول و الفطير :-)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>