الحريق الآتي، أعظم!/ رمزي حكيم

هذا التمويه الإسرائيلي الصهيوني، بين ما يسمى بـ “اليسار” وبين “اليمين” الصهيونيين، والذي تنقلب فيه الأشياء إلى نقائضها، ينفضح في إجماعه على “يهودية الدولة”. نحاول هنا أن نتجاوز حريق الكرمل باتجاه البحث في “منطق” الحريق على مستوى الدولة، وهو منطق نجح، بإتقان المحترف، في بَسط مفاهيمه داخل اسرائيل

الحريق الآتي، أعظم!/ رمزي حكيم

|رمزي حكيم|

رمزي حكيم

رمزي حكيم

لم نخرج من حريق الكرمل إلاّ لندخل، مرة أخرى، في حريق العنصرية. وإذا كانت إسرائيل 2010 تعرف فقط إشعال الحرائق، ولا تعرف اخمادها واطفائها، فإنها تثبت، مرة ثانية وثالثة ورابعة، انها “محقونة” بالنار!

وإذا نظرنا الى المصطلحات التي كان يستخدمها الاسرائيليون، الساسة ومسؤولو الأجهزة والاعلام، ارتباطًا بحريق الكرمل، نرى انها مصطلحات وتعابير مستخرجة من القاموس العسكري. كأنهم في حرب. هذه هي طبيعة هذه الدولة، تقوم على عسكرة المجتمع والاقتصاد والمفاهيم والأفكار. مجتمع غارق في عنجهيته العسكرية. وهو مجتمع، أيضًا وأساسًا، غارق في عنصريته واستعلائه.

للحريق وجهان: حريق الكرمل وحريق العنصرية. أما نحن، فلسنا بالمتفرجين اذا اقتربت منا النار! وهي قريبة أكثر من أي وقت مضى، كما كانت، بالتمام والكمال، على جبل الكرمل. إسرائيل منشغلة الآن في تثبيت وتعزيز عنصريتها. خمسون من حاخامات إسرائيل، ممن تمولهم أجهزة الدولة، يصدرون فتوى جديدة تدعو اليهود الى عدم بيع بيوتهم الى “الغويم” (الغرباء). والغرباء، في عُرف هؤلاء، هم أصحاب البلاد: أنا وأنت.

الأمر لا يختلف كثيرًا. والحريق واحد! ونار العنصرية بدأت تنتشر دون أن يوقفها أحد. أصلاً من يجلس في الحكومة، ويمرر قوانين “المواطنة مقابل الولاء” ويتحدث جهارة عن “التبادل السكاني” كفكرة مقبولة على الاجماع الصهيوني، ويشرّع قوانين “خصخصة الأراضي” بعد مصادرتها من أصحابها العرب، ويطالب بـ “تبديل التسميات العربية وتحويلها الى الكنية العبرية” لشطب المكان ورواية المكان، ويمنع من العربي إحياء ذكرى النكبة، ويسقط كلمة النكبة من الكتب الدراسية العربية ،ويلزم المدارس العربية، بالمقابل، بتعليم ثلاث حصص أسبوعيًا على الأقل من أجل “تعليم الصهيونية وتاريخ أرض إسرائيل ودولة إسرائيل”، ومن يعطي جهاز الاستحبارات العامة “الشاباك” حق سحب المواطنة من أي مواطن، ويمدد اعتماد “قانون المواطنة” العنصري لعام 2003، كأمر مؤقت، لمنع جمع شمل عائلات أحد شقيها من مناطق “الخط الأخضر” والشق الآخر من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية أو قطاع غزة، وبالمقابل يعطي وزير الداخلية تخويلاً كاملاً بـ “نزع المواطنة” من دون حاجة إلى موافقة المحكمة أو المستشار القضائي للحكومة – من يقوم بكل هذا هو هو المعني الأوّل بإشعال الحريق.

ليس هذا “الجديد” في القوانين هو الجديد، وإن بدَا للبعض “جديدًا” بسبب العامل الزمني وإطلاق مجموعة من القوانين دفعة واحدة. إذن، هو “تحرر” المؤسسة الاسرائيلية من فرملتها. لنأخذ فتوى الحاخامات. هي فتوى لا تختلف عن قرار حكومي صدر قبل حوالي الشهر تقريبًا أعطى ما يسمى بـ “لجنة القبول” التابعة للقرى الجماهيرية حق القرار بشأن قبول أو رفض من يطلب السكن في هذه التجمعات. بمعنى ان الحكومة الإسرائيلية هي صاحبة المبادرة باتجاه منع العرب في السكن أو العيش في أي منطقة يختارون. والهدف هو تجميع العرب في الداخل في كانتونات، هي انعكاس لسياسة “الغيتو” التي فرضتها إسرائيل على العربي منذ قيامها من خلال تجميع العرب في تجمعات معينة واحاطتها بمستوطنات وتجمعات يهودية من كل الأطراف. وعملية تهويد الجليل، القديمة والجديدة (المستمرة)، هي أكبر برهان على هذه السياسة التي لم تتغيّر.

إذا كان هناك، داخل المؤسسة الاسرائيلية، من يعتقد ان بإمكان اسرائيل المضي في إشعال “شرارة العنصرية”، دون ان يأتي اليوم الذي تهب فيه “رياح” الفلسطيني الباقي في وطنه بما لا تشتهي “نار” اسرائيل المشتعلة ضد العربي، فهي لن تكون مخطئة فقط، بل غبية الى درجة عالية.

لا سيطرة على “النار” مع “الرياح”. هذا هو الدرس الأول من حريق الكرمل. لكن إسرائيل عام 2010 ليست غبية. هي اسرائيل التي نعرفها. تمارس عملية تهويد. “تخنق” العربي في “غيتوات”. تسن القوانين العنصرية. تخلق الأجواء المشجعة للعنصرية. تغض الطرف عن العنصريين. تمنحهم مساحة واسعة من التحرك ومن بث سمومهم. وهي لا تمهد للحريق الآتي، بل باشرت في اشعال النار. وهذا الحريق، اذا استمر، سيأتي على “الأخضر واليابس”. وستكون اسرائيل مخطئة، كل الخطأ، في تقديرها ان حريقًا من هذا النوع سيلتهم العربي لوحده. فإذا كان لا بد منه، فإنه سيأتي على الجميع.

لا بأس! هي التي اختارت. وهي الآن على حقيقتها، دولة “أبرتهايد”، دون رتوش ودون مكيجة. واعتقد انه آن الأوان لأن نسمّي الأشياء بأسمائها. نعم، اسرائيل “دولة ابرتهايد”. نقطة. وثمة عنصر جديد أُدخل في العلاقة بين الحريق – حريق الكرمل – وبين الحريق – حريق العنصرية، في العلاقة بين السهولة في اشعال النار (في كل الاتجاهات) والصعوبة في اطفائها، في العلاقة بين دولة تتجه اكثر وأكثر نحو تثبيت موقعها كدولة أبرتهايد ودولة اختفت فيها، تقريبًا، الأصوات العقلانية وباتت الظلامية المتلفعة بالخرافات التوراتية هي الملاذ لـ “يهودية الدولة”. وفي هذه العلاقة يبدو المجتمع الصهيوني أكثر انزياحًا نحو الاحتفاظ بخرافاته التوراتية التي لم تتغير، وبالتالي فإن اسرائيل اليمينية، بإشاعة فكرها المتطرف، العنصري والفاشي، انما ماضية نحو المواجهة مع العربي في داخلها، ببرمجة وإتقان المحترف!

إذا كان هناك، داخل المؤسسة الاسرائيلية، من يعتقد ان بإمكان اسرائيل المضي في إشعال “شرارة العنصرية”، دون ان يأتي اليوم الذي تهب فيه “رياح” الفلسطيني الباقي في وطنه بما لا تشتهي “نار” اسرائيل المشتعلة ضد العربي، فهي لن تكون مخطئة فقط، بل غبية الى درجة عالية

لم نبحث الموضوع، إلا قليلاً. لذلك نحاول هنا ان نتجاوز حريق الكرمل باتجاه البحث في “منطق” الحريق على مستوى الدولة. ومنطق الحريق، في الفكر الصهيوني المتطرف، يقود، بخط مباشر مستقيم، الى صياغة تلبس شكلها الفاشي، مما يستدعي فتح الكشوفات مع هذه العقلية التي نجحت، بامتياز، في بَسط مفاهيمها داخل اسرائيل،  وهي عقلية تحمل، في طبيعتها، عناصر العداء الملفوف بالحقد الأسود لكل ما يمثله العقلاني والانساني والحضاري. فالتطرف هو حالة اسرائيلية، منتظمة ومترابطة، غير عابرة وغير متفرقة. والطرح الفاشي أخذ من الرواج، وبالتالي من الشرعية، ما أهّله، بحسب حامليه، لأن يأخذ موقعه المتقدم في مركز الحكم في اسرائيل، في الحكومة وفي الكنيست (البرلمان) وفي الشارع. والقوى الفاشية، الأكثر تطرفًا وعنصرية، هي اليوم موجودة في مركز الحكم في اسرائيل، وهي صاحبة القرار.

لا نأتي بجديد حين نكرر ان المجتمع الصهيوني الاسرائيلي هو مجتمع العسكرة، قائم في تماسكه الداخلي على فوهة البندقية، وعلى بث الكراهية والحقد تجاه العربي، وبالمقابل على الاستيطان والتهويد. تعاظم قوى اليمين داخل المجتمع ينعكس أيضًا على الخدمة في الجيش وعلى احتلال المواقع والمراتب العسكرية. من هنا نرى تعاظم قوى اليمين المتطرف (من المتدينين بالأساس)، وتعاظم نفوذها، داخل الجيش أيضًا.  وبهذا المعنى بدأت سيطرة اليمين المتديّن  تنتقل الى الجيش الاسرائيلي بعد ان سيطرت على الحكومة والكنيست!

المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني تحدثت عن الموضوع بشكل مباشر. لم تحاول إخفاء دوافعها من وراء حث عناصرها على التجند للوحدات المقاتلة والاندفاع نحو المواقع القيادية في الجيش الاسرائيلي. وأكد أكثر من حاخام بارز في هذا التيار أن هذا التوجه يهدف إلى إحكام السيطرة على الجيش باعتبار أن هذا مدخل هام يضمن لهذا التيار التأثير على دائرة صنع القرار في الدولة بشكل يفوق بكثير حجمه الديمغرافي مقارنة مع التيارات الأخرى.

حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي كانت نسبة المتدينين الصهاينة في الهيئات القيادية في الجيش أقل من نسبة تمثيلهم في الجمهور الإسرائيلي. فحتى ذلك الوقت كان القادمون من القرى التعاونية (الكيبوتسات) التي تمثل قلاع العلمانية في إسرائيل ينفردون بالسيطرة على المواقع القيادية، لدرجة أن الانتماء للكيبوتس كان يعني الانتماء للوحدات المختارة، فموشيه ديان وإسحاق رابين وموشيه يعلون وأمنون ليبكن شاحاك وأوري ساغيه وغيرهم من الجنرالات قدموا من الكيبوتسات.

لكن منذ ذلك الوقت حدث انقلاب هام، إذ قلّت نسبة خريجي الكيبوتسات الذين يلتحقون بالوحدات المقاتلة بسبب تحلل الكثير من هؤلاء من الإيمان بـ”واجب التضحية من أجل الدولة”. وفي المقابل تحركت المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني، ووجهت أتباعها للانخراط في الألوية المختارة والوحدات الخاصة في الجيش، مع العلم أنه على الرغم من أن الخدمة العسكرية إلزامية في إسرائيل، إلا أن الجيش لا يجبر جنوده على التجند للوحدات المقاتلة، حيث يستطيع أي مجند جديد التوجه للوحدة التي يرغب في التجند لها مادامت ظروفه الخاصة تسمح بذلك.

نفهم من هذا النص ما فهمنا سابقًا: اسرائيل ماضية في تثبيت تطرفها. ومن اللافت للنظر أن المناهج التي يتم تدريسها في المعاهد الدينية التابعة للجيش، هي مناهج عنصرية وتعد الجنود ليكونوا أكثر جسارة على قتل العرب. فعلى سبيل المثال، تعتبر الفتاوى التي تصدرها المرجعيات الدينية الهامة لهذا التيار وتأويلاتها المختلفة أهم المواد الدراسية في هذه المعاهد.

قال الحاخام شموئيل روزين، رئيس المعهد الديني العسكري في مستوطنة “معاليه أدوميم”، إنه يدرس طلابه (جنودا وضباطا) الفتوى التي أصدرها، قبل حوالي ثلاثة أعوام، الحاخام مردخاي إلياهو الذي ورث زعامة التيار الديني الصهيوني والتي تعتبر أنه يتوجب تطبيق “حكم عمليق” على الفلسطينيين.

وحسب هذه الفتوى، فإن “الرب قد أمر يوشع بن نون بقتل العمالقة الذين كانوا يتواجدون في أرض فلسطين، رجالهم ونسائهم وأطفالهم وحتى بهائمهم”. واعتبر الحاخام مردخاي إلياهو في فتواه – التي لاقت صدىً واسعا – أن ما جاز تنفيذه في العمالقة يجب تنفيذه في الفلسطينيين، حيث اعتبر أن الفلسطينيين هم “عمالقة هذا العصر”.

كثيرة هي الفتاوى العنصرية الحاثة على المس بالفلسطينيين وممتلكاتهم. فقد أفتى الحاخام شلومو ريسكين، مدير المعهد العسكري الديني في مستوطنة ”كرنيه شمرون”، شمال الضفة الغربية لطلابه من الجنود، قبل فترة وجيزة، بجواز نهب محاصيل الزيتون من الفلسطينيين وجواز تسميم آبار مياههم.  وفي السياق ذاته أفتى الحاخام اليعيزر ملاميد، مدير المعهد الديني العسكري في مستوطنة “تفوح”، جنوب مدينة نابلس، لطلابه بسرقة محاصيل الفلسطينيين الزراعية على اعتبار “أنهم جزء من الأغيار”.

قلنا إن العنصرية هي ركن أساسي في الفكر الصهيوني. وهذا يقودنا الى العلاقة بين “يهودية الدولة” وبين الأفكار المرافقة التي باتت تنادي لفرض “نظام طوارىء” والتخلي حتى عن “الهامش الديمقراطي” في الدولة. وما يجري في اسرائيل ليس صدفة، على الأقل في المجاهرة العلنية بفكر الترانسفير والترحيل وتعميق العنصرية. وبرغم الإنقسامات والخصومات الحزبية فان الغالبية الساحقة في المجتمع الاسرائيلي الصهيوني موحّدة حول تطلعها ومسعاها الى الحفاظ على الطابع اليهودي لدولة اسرائيل. وهي تؤمن ان أي خلل في سياق هذا الطابع انما يشكل تهديدًا وجوديًا لـ “دولة اليهود”.

ضمن هذا السياق استمع المؤتمر الصهيوني والوكالة اليهودية، في مؤتمر عقد بالقرب من القدس وبمشاركة كبار الشخصيات الإسرائيلية والصهيونية المسؤولة في شتى الميادين، الى مداخلة قدمها الجنرال (احتياط) شلومو غازيت، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) الأسبق، اقترح فيها “فرض نظام طوارىء (دكتاتوري) والنأي عن أصول اللعبة الديمقراطية..” في التعامل مع مواطني الدولة العرب لأن “نظام الطوارىء في إمكانه ان يتخذ اجراءات لا يمكن اتخاذها في اطار طريقة الحكم القائمة”.

فكرة اللجوء الى تفعيل “نظام طوارىء” جرى طرحها أيضًا في مؤتمر هرتسليا ضمن سياق مناقشة “الخطر العربي” على الطابع اليهودي للدولة. وخلاصات المؤتمر أشارت بوضوح الى انه “خطر عيني وملموس عويص في مرتبة أولى من سلّم التهديد”.. وان “جهاز الحكم في اسرائيل، ذلك الجهاز المطوّق بأصول اللعبة الناجمة عن ضعف الحكومة وضعف البرلمان (الكنيست)، غير قادر على أداء المهمة (مواجهة خطر العربي).. ومن غير مناخ طوارىء وخطوات طوارىء لن يتحقق الخلاص”.

الماكنة الاسرائيلية تعمل بتناغم وبرمجة. ويبدو أن عام 2000، من حيث المدلول العنصري والممارسة الاحتلالية على أرض الواقع، كان مفصليًا بالنسبة للفلسطيني ارتباطًا بالمخططات الاسرائيلية. وإذا كانت سيرورة انزياح المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين قد انطلقت مع وصول حزب الليكود، للمرة الأولى، إلى الحكم في أيار 1977، ومرّت، منذ ذلك التاريخ، بمحطات عديدة، فإن  المحطة الأهم  في مسار تطوّرها كانت في العام 2000، الذي شهد فشل مفاوضات “كامب ديفيد” بين الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلية إيهود باراك، من جهة، واندلاع الانتفاضة الثانية، من جهة أخرى. بهذا المعنى شكّلت مفاوضات “كامب ديفيد” نقطة تحوّل في مواقف حتى ما يسمى بـ “معسكر السلام” (التسمية اشكالية وقد استخدمت هنا للتفريق بين قوى اليمين المتطرف وبين من يقول انه ينادي بالسلام. لكن في نهاية المطاف الجميع في المجتمع الصهيوني يلتقي عند ركائز معينة تزيل الفوارق بين اليمين وبين ما يسمى بـ “اليسار” او “معسكر السلام” الصهيوني). وحصل انقلاب على مواقف قطاعات واسعة من الإسرائيليين، المحسوبين على هذا المعسكر، عبّر عن نفسه في بروز شعور لدى هذه القطاعات بـ “خيبة الأمل” (كما يصفها الاسرائيلي بالطبع) من التوّصل إلى سلام مع الفلسطينيين (حسب وجهة نظرهم) وتشكّل قناعة لديهم بعدم وجود شريك فلسطيني لصنع هذا السلام. وبدت محاولة جديدة لإظهار صورة الفلسطينيين كعدو لدود لا يقبل المساومة وبالتالي لا سبيل للتوصل إلى سلام حقيقي معهم. وقد تبنّى معظم أنصار هذا المعسكر الموقف الذي عبّر عنه رئيس الحكومة الاسرائيلية الأسبق، إيهود  باراك (وزير الأمن الحالي) لدى تفسيره كيفية إخفاق تلك المفاوضات في التوصل إلى سلام وصدّقوا ادّعاءه بأنه قدّم تنازلات عديدة، بما في ذلك ما يخصّ القدس، لكن ياسر عرفات رفضها لأنه لا يريد، في الواقع، تحقيق السلام.

لقد نجح براك ” في نشر مقولة “اللا شريك”. من هنا فان ما يسمى بـ “معسكر السلام” كان مثار التباس ووهم، وظهر على حقيقته المعادية لأي تفاوض جدي مع الفلسطينيين ينهي الاحتلال ويعود الى حدود الـ 67 بما في ذلك الانسحاب من القدس وتفكيك المستوطنات وعودة اللاجئين. هذا ما ترفضه كل التشكيلات والأطياف والشرائح السياسية والأيديولوجية، الدينية والعلمانية، في المجتمع الصهيوني وتتوحد في رفضه ومقاومته.

إن انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين يبرز في مظاهر عديدة، من بينها امّحاء الحدود تقريباً بين “معسكر السلام”، بحسب المفهوم الصهيوني، ومعسكر اليمين، فيما يتعلق بالسياستين الاجتماعية والأمنية، وتوحد خطابهما في إطار سياسة “الإجماع القومي”، وتنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة، الدينية أو القومية، التي تدعم الاستيطان وتوسّعه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتؤيّد مشاريع ترحيل المواطنين العرب الفلسطينيين باعتبارها الحل الوحيد للحفاظ على الطابع اليهودي للدولة.

هذا التمويه الاسرائيلي الصهيوني، بين “اليسار” و”اليمين” الصهيونيين، والذي تنقلب فيه الأشياء الى نقائضها، ينفضح في اجماعه على “يهودية الدولة”. فالتداخل بين “يهودية الدولة” وبين “ديمقراطيتها” يجد له انفصاما ً في الهوية. لا يمكن لإسرائيل اليهودية ان تكون أيضا ً ديمقراطية، وان تنادي حقًا بالسلام، بينما هي لا تريد سلامًا مع من تعيش معهم، هنا، في حدود دولتها من خلال مسعاها لتأكيد وتثبيت “يهوديتها” وتجاهل ما نسبته عشرين بالمائة من مواطنيها العرب الذين بقوا في وطنهم.

لا نجد ضرورة لدعم مقولتنا بحجج تجعلها مقنعة اكثر. يكفينا الفكر الصهيوني القائم على التطهير العرقي. نبدأ باقتباس: “لم يكن خطأ (بن غوريون) القاتل أنه اصدر أوامره الشفوية سنة 1948 بارتكاب المجازر وتدمير القرى، وقام بالتغطية على عمليات اغتصاب الفتيات العربيات، مستهدفاً بذلك اقتلاع مئات ألوف المواطنين العرب من مدنهم وقراهم ليضمن وجود أقل عدد ممكن من العرب في الدولة التي كان يقود عملية إقامتها، وإنما كان خطأه القاتل يومذاك أنه لم يقم بإتمام عملية التهجير وتنفيذ عملية طرد كاملة بدلاً من عملية طرد جزئية. لو تحقق ذلك لكان أمّن استقرار دولة “إسرائيل” لأجيال. ولكنه اخطأ لأنه ترك مخزوناً ديموغرافياً كبيراً ومتفجراً في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل “إسرائيل” نفسها” (انتهى الاقتباس).

هذا ما قاله (بني موريس)، كبير المؤرخين الإسرائيليين الجدد، في كتابة “RIGHTEOUS VICTIMS ضحايا على حق” المتضمن تأريخه للصراع العربي – الصهيوني من 1881 – 2001. والذي استعرض فيه بعض أبشع الجرائم التي ارتكبتها الحركة الصهيونية بحق عرب فلسطين سنة 1948.

فكر الترانسفير لم يتغير في اسرائيل منذ أوائل القرن الماضي. واسرائيل الرسمية تريد التخلّص من العربي وتقليص وجوده في ارض فلسطين. لذلك نرى وزير الخارجية الاسرائيلي، ومن على منبر الأمم المتحدة، يطرح فكرة “التبادل السكاني”، وهي فكرة تقوم أساسًا على الترانسفير. هو لم يطرحها في صحيفة عبرية محلية. بل اختار أعلى وأهم منبر عالمي. وهنا تكمن خطورتها، خاصة وان فكرة “التبادل السكاني” (الترانسفير عمليًا) تلاقي تأييدًا واسعًا في المجتمع الصهيوني، مما يدلل ايضًا على كراهية هذا المجتمع للعربي الفلسطيني ومدى الحقد الذي يكنه الصهيوني لابن البلاد الأصلي، العربي الفلسطيني.

الدعوة الى الترانسفير، في ممارسة المؤسسة الاسرائيلية، هي مباحة وعلنية ومؤطرة حزبيًا وأيديولوجيًا الآن. وتزداد الخطورة، بشكلها التصاعدي، حين نلتفت الى حقيقة كون هذه المناداة بالترانسفير تجد انعكاسها القوي في الإجماع الصهيوني القائم حول مقولة ان عرب (48) هم “خطر استراتيجي” و”خطر ديمغرافي” على دولة اسرائيل وانهم بمثابة “قنبلة موقوتة” يجب العمل على تفكيكها قبل ان تنفجر في وجه “دولة اليهود” بعد التوصل الى حل للقضية الفلسطينية على أساس الدولتين (وفقًا للسيناريو الصهيوني للحل).

إن انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين يبرز في مظاهر عديدة، من بينها امّحاء الحدود تقريباً بين “معسكر السلام”، بحسب المفهوم الصهيوني، ومعسكر اليمين، فيما يتعلق بالسياستين الاجتماعية والأمنية، وتوحد خطابهما في إطار سياسة “الإجماع القومي”، وتنامي نفوذ الأحزاب المتطرفة

كتبت، أكثر من مرة، ان اسرائيل تعيد صياغة تعريف ذاتها في الستين الثانية من قيامها. ويبدو انها على قناعة بعدم نجاحها في اقتلاع العربي وتقليص وجوده رغم كل عمليات التهجير والاستيطان والمذابح (إثر نكبة 48). ولم تنجح في الغاء العربي خلال كل السنوات التي تلت النكبة، وأصبح العربي الفلسطيني في فلسطين التاريخية،  عدديًا، حوالي المليون ونصف المليون، بعد ان كان في عام 48 حوالي 120 ألفًا. هذا الأمر يزيد من “الهاجس الديمغرافي” لدى الصهيوني اليهودي، وبالتالي تصاعدت حالة التطرف والعنصرية والاتجاه نحو قوى اليمين أكثر فأكثر مع السنوات باعتبار ان هذه القوى دفيئة (حاضنة) للأفكار العنصرية وصاحبة انتاجها واعادة انتاجها من جديد. وقد جاءت نتائج الانتخابات التشريعية الإسرائيلية الأخيرة لتؤكد، مرة أخرى، أن المجتمع الإسرائيلي يتحوّل أكثر فأكثر نحو اليمين، ولا سيما القومي والديني. الخطاب الفاشي سيطر على هذه الانتخابات. وكما قلنا سابقًا ان هذا الخطاب قد وجد طريقه الى مركز الحكم في اسرائيل وأصبح هو الخطاب السائد في حكومتها الحالية!

لقد تم تصوير الفلسطيني، في الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية الأخيرة، من خلال “الدعاية الانتخابية” المتلفزة، باعتباره “وحشاً” يهدد اسرائيل و”عدواً” لا بدّ من القضاء عليه، وأن الحل ليس في السلام وإنما في العنف والحرب وبناء المستوطنات وربما ترحيل الفلسطينيين. وبهذا المعنى فإن الناخب “الإسرائيلي” اختار أكثر القوى تطرفاً وتعصباً ويمينية. وحتى اتفاقيات أوسلو، التي لم تكن تلبي طموح الشعب الفلسطيني، قد وصلت إلى طريق مسدود وتراجع عنها “الإسرائيليون” منذ العام 1999، علماً بأنها لم تتضمن أي حلول لمشكلة اللاجئين وحق العودة وتفكيك المستوطنات وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

هل ابتعدنا عن الحريق؟

لنعد، اذن، الى الحريق! أصلاً لم نبتعد إلا لنؤكد منطق الحريق في العقلية الصهيونية التي تحكم وتتحكم بالمؤسسة. فنحن لا ننتبه، أحيانًا، ان الأحزاب اليمينية والدينية في اسرائيل تقاسمت حوالي 80 مقعدًا من مقاعد الكنيست الحالية البالغة في مجموعها 120.

لا أعرف الصحفي أوري مسغاف. لكن استنتاجه، الذي كتبه في “يديعوت احرونوت”، وهي اكثر الصحف العبرية انتشارًا في اسرائيل، يستحق ان نصفه بالشجاع. جاء في المقال أن “الاستنتاج المحترق من الحريق المشتعل في الكرمل هو أنه من الأجدى لإسرائيل أن تسارع إلى صنع السلام، فهي ببساطة ليست جاهزة لمواجهة كارثة”.

لماذا؟

لأنه –كما جاء في المقال- “لأمر مخيف التفكير فيما سيحدث هنا في حال التعرّض لهجمة صاروخية شاملة، ففي الماضي كانوا يهدئون من روع الجمهور عندما سقطت الصواريخ في منطقة مفتوحة، لكن في أعقاب فشل جهود الإخماد في نهاية الأسبوع الماضي يبدو أن إخضاع إسرائيل  بواسطة إمطار رؤوس متفجرة على مناطق مزروعة  بالغابات سيتبين أنه تكتيك فعال”!

والكاتب لم يتوقف هنا، بل أضاف أن “رئيس الحكومة ووزير الأمن ورئيس أركان الجيش والمفتش العام للشرطة قادوا عملية إخماد الحريق دون فائدة، فتخيلوا لو أنه تعين عليهم مواجهة خمسة أو عشرة مواقع مشتعلة في أنحاء البلاد وفي  موازاة ذلك كان على قادة الدولة الانشغال بأمور  أخرى غير الجلب المهين لطائرات إخماد الحرائق من جهات الدنيا الأربع”.

ماذا قلنا في البداية؟ للحريق وجهان: حريق الكرمل وحريق العنصرية. أما نحن، فلسنا بالمتفرجين اذا اقتربت منا النار!. لا “خيارات ممكنة” أمامنا، او كما يقولون: “ظهرنا بات الى الحائط”. وعلى اسرائيل عام 2010 أن تقرر ليس ما هو “الأنسب” لها، بل ما هو “الأنسب” للجميع، انقاذًا للجميع!

(كاتب وإعلامي من الناصرة)

 

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. كاتب المقال ينشر في “قديتا” بالاتفاق مع الموقع. مقالاته تنشر في عدة أمكنة، في الداخل والخارج. لذلك لا أرى لزامًا للملاحظة الواردة أعلاه، إلا اذا كانت في سبيل “المناكفة”، الأمر الذي لا أحبذه على الإطلاق وأرجو إخراج المقال وصاحبه من سياقها

  2. لماذا لا تذكرون المصدر وهو جريدة الاتحاد؟

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>