بِنْحِبِّكْ يَمَصْر..! كم نُحبكِ..!/ أسعد موسى عودة

سَبْعٌ وسَبْعُونَ مِلْيُونًا عَلَى غَضَبٍ / كُفْءٌ لِأَنْ تَقِفَ الدُّنْيَا إِذَاْ وَقَفُوْا..! (أحمد بِخِيت)

بِنْحِبِّكْ يَمَصْر..! كم نُحبكِ..!/ أسعد موسى عودة


القاهرة الجميلة


|أسعد موسى عَودة|

مرّة أخرى يأخذنا المشهد السّياسيّ التّحرّريّ الثّورويّ إلى الحديث في غير صُلب اللُّغة، بذاتها ولذاتها؛ وهذه المرّة ليست كأيّ مرّة؛ لا لشيء، إلاّ لأنّها مِصْر..! فقد أوْدَعَكِ الله سرًّا يا مِصْرَنا الغالية..! وأُودِعت فينا، عزًّا وكرامةً وتضحيةً وانتماءً وشبابًا وضياءً وكبرياء، لغةً وأدبًا ودينًا وثقافةً وحضارةً وتاريخًا… أُودِعت فينا حُبًّا وألمًا وأملاً وصَبْرًا وعَفْوًا وشوقًا وعشقًا… أُودِعت فينا جمالاً وجلالاً وحلالاً… أُودِعت فينا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً… ولَأنتِ المُنتظَرة دومًا، حتّى على مستوى الأفراد منّا؛ لأنّا.. بِنْحِبِّكْ يَمَصْر.. كم نُحِبُّكِ..!

كانت زيارتي الثّانية – أنا وزوجتي هذه المرّة – إلى هِبَة النّيل، مِصْر، قبل نحو شهريْن ونصف الشّهر، فعشناها بطولها وعرضها، بأرضها وسمائها، ببرّها ونِيلها، بليلها ونهارها، بحُلوها ومُرّها… أكلنا وشربنا ولعبنا وتعلّمنا.. ودائمًا قلنا: عَمار يَمَصْر..! عشناها في أكثر الأحياء ومع أكثر النّاس شعبيّةً.. وعشناها في أكثر الأحياء ومع أكثر النّاس نُخبويّةً.. وكلّ شيءٍ من حولنا فينا.. حزنًا وفرحًا.. ألمًا وأملاً.. وكلّ شيءٍ من حولنا يتحدّث عن نفسه.. فنُلقي إليه السَّمْع والبصَر والفؤاد.. ولسان حالنا يقول: بِنْحِبِّكْ يَمَصْر.. كم نُحِبُّكِ..!

تعيش مِصْرُنا الغالية – في هذه الأيّام – لحظاتٍ فارِقةً من لحظات تاريخها النّضاليّ والتّحرّريّ.. ونراها ستدخل التّاريخ – إن شاء الله – هذه المرّةَ، أيضًا، من أوسع أبوابه. وإنّ ما تمّت التّضحية به من بشرٍ وشجرٍ وحجرٍ، لَهُوَ فاتورة لا بُدّ من دفعها في سبيل العَيْش والحُرّيّة.. والكرامة والإنسانيّة – “عِيش.. حُرّيّة.. كرامة.. إنسانيّة..”، ذلك الشّعار الّذي رفعته أسماء محفوظ ابنة السّادسة والعشرين ربيعًا؛ وذلك هو درس التّاريخ على مرّ العصور، ولا درسَ غيره. وإنّ مَن ارتفعوا شُهداءَ أحياءً في هذا السّبيل الطّاهر النّبيل، من خِيرة شباب مِصْر الواعي الجميل الجليل، من خِيرة شباب مِصْر الأصفياء الأنقياء النّبلاء، سيظلّون نجومَ سمائها، الّذين سيُضيئون، أبدًا، قناديلَ بشارة وإشارة، لكلّ من قد يَضِلُّ ويُضَلِّلُ.. أو ينحَلّ.. بعد اليوم.

وكلّنا ثقة، بأنّ مِصْر – كما عوّدتنا، وكما هي أهلُه – ستتجاوز هذه المحنة، أيضًا، برجالاتها ونسائها.. بشبابها وشابّاتها.. بأحرارها وحرائرها.. بإرادتها وعزيمتها وثباتها وإيمانها.. . وكلّنا أمل بالأفُق الأوسع.. والغد الأروع..!


شيءٌ عن مِصْرنا الغالية في هذا السّياق..!

إنّها مُعطيات أخرى عن مِصْرنا الغالية، هي حصيلة جَهد القارئ والمستمع؛ عساها تُلقي بمزيد من الضّوء على عوامل الأزمة الرّاهنة في مِصْر ودوافعها. إنّها مِصْر الّتي يُقدَّر تَعدادها بأكثرَ من ثمانين مليون إنسان، يعيشون في وادي النّيل وحوضه، على رُقعة نسبتها أربعة بالمِائة من مِساحة مِصْر الإجماليّة، الّتي تتعدّى المليون كيلومتر مربّع، ومعظمها صحراء شبه قاحلة؛ خمسة وأربعون بالمِائة من سكّانها تُراوح أعمارهم بين اثنَي عشَر عامًا وخمسة وعشرين عامًا؛ خمسة وعشرون مليونًا من أبنائها يستخدمون الشّبكة العنكبوتيّة (“الإنترنت”)؛ نحو ستّين مليونًا يستخدمون الهاتف المحمول، سبعة ملايين منهم مشتركون ثابتون؛ تحتكر قلّة قليلة من السّكان المصانع والشّركات والمشروعات، فيتكدّس جُلّ ثروة مِصْر الهائلة في أيدي هؤلاء؛ تصل نسبة البِطالة في مِصْر إلى نحو عشرة بالمِائة من القوّة العاملة؛ تشّغل السّياحة في مِصْر نحو خمسِمِائة ألف مُستخدَم؛ يبلغ متوسّط الأجور في مِصْر الثّلاثَمِائة جنيه شهريًّا، أي ما معدّله دولاران أمريكيّان في اليوم، في بلد وصل فيه سعر رَغيف الخُبز (“رِغِيف العِيش”) إلى رُبع جُنيه وإلى ثلاثة أرباع الجُنيه، ووصل سعر كيلو السّكّر إلى أربعة جُنيهات، ويُراوح كيلو اللّحمة بين خمسين وتسعين جُنيهًا، ووصل سعر ليتر الوقود إلى جُنيهيْن تقريبًا، هذا ما حدّثنا به أبناؤها الّذين التقيناهم هناك؛ ما تخصّصه الدّول العربيّة مجتمعة – ومعها مِصْر، طبعًا – من دخلها القوميّ لمجال البحث العلميّ لا يتعدّى الاثنين بالألف، في مقابل نسبة اثنين ونصف بالمِائة تخصّصها إسرائيل وَحدها؛ أي اثنَي عشَر ضعف ما تخصّصه الدّول العربيّة مُجتمعةً، تقريبًا. وقد لخّص أحد أساتذة الطّبّ النفسيّ في جامعة الأزهر حِقبة حكم الرّئيس محمّد حسني مبارك بثلاثِ أثافِيّ (ثلاثة شُرور): اتّساع الشّرخ بين الحاكم والمحكوم؛ واتّساع الشّرخ الطّائفيّ بين المسلمين والأقباط؛ واتّساع الشّرخ بين الفقراء والأغنياء.


ولكنّه..

مَن لمْ يرحَم صغيرنا.. ولم يعرف حقّ كبيرنا.. فليس منّا (حديث شريف)

“هِنَ ساكِنْ حُسْنِي..” هكذا قالها لي – من تلقاء نفسه – سائق سيّارة الأجرة (“التَّكْس”) في طريق المطار (“طَرِيءِ المَطار”)، حيث كنّا – أنا وزوجتي – في طريق عودتنا إلى البلاد؛ فهو لم يقل مثلاً: “هِنَ ساكْنِ الرَّيِّس”، أو حتّى “هِنَ ساكِنْ مُبارَك”.. بل قال: “هِنَ ساكِنْ حُسْنِي..”. وبعدها بدقائق ثنّى تصريحه ذلك بتصريح جديد: “وْعَلْيَمِين هِنَ النّادي بْتاعُو.. بْيِيچِي يِلْعَب فِيه كُلِّ يُوم الصُّبْح..”. وقد كان إعلان سائق سيّارة الأجرة ذلك كافيًا ليدلّ على حجم الغضب الضّروريّ والمشروع، الّذي يكاد يخرج من تحت أظافر الشّعب المِصْريّ الواعي الفَطين الطّيّب العريق، على نظام، أو على من يقف على رأس نظام يحكم مِصْر منذ ثلاثين عامًا. وقد رأينا هذا الغضب العارم يتفجّر أمام أعيننا جميعًا، يوم الخامس والعشرين من “كانون الغضب”؛ كانون الثّاني (يناير) الفائت. ونراه قد حقّق مطاليبَه كلّها تقريبًا، وحقّق لمِصْرَ مُنجَزًا لطالما كانت تتطلّع إليه وتحلم به، وعلى رأس ذلك قَبْر مشاريع التّوريث، والتّبادل الشّرعيّ والسّليم للسّلطة، والقضاء على الفساد ومحاكمة الفاسدين والمُفسدين، وضمان الحُرّيّات الفرديّة والعامّة، وغيرها الكثير، ممّا من المُنتظَر أن يضطلع به نائب رئيس الجمهوريّة، اللّواء عمر سليمان، وتضطلع به الحكومة الجديدة، حكومة الفريق الدّكتور أحمد شفيق. ولم يتبقَّ – في نظري – إلاّ أن يكتمل المشهد النّبيل الأصيل، بأن يساهم الجميع في الانتقال الشّرعيّ والهادئ واللّائق للسّلطة، فعلاً، وأن يُترَك الرّجل يذهب بالاحترام الّذي يليق به، قائدًا عسكريًّا وزعيمًا سياسيًّا، حقّق لِمِصْرَ ما حقّق، وأخفق فيما أخفق.. ولكن لا نكونّن ممّن يقتلون أنبياءهم ولا يوقّرون كُبراءهم، فتراهم يقولون ويفعلون بدافع التّشفّي والانتقام؛ فهذه طباعٌ غريبة عنّا، وعن ديننا، وعروبتنا، وثقافتا، وحضارتنا، وإنسانيّتنا، ومعدِننا الأصيل.


حَماها الله..!

حماكِ الله يا مِصْر، أرضًا وشعبًا وقيادةً جديدة، ومشروعًا نهضويًّا تحرّريًّا حضاريًّا إنسانيًّا، من المُتربّصين بكِ.. ومن الطّامعين فيكِ.. ومن المُندسّين من كلّ حدَب وصَوْب.. ممّن يُتقنون فنّ الاصطياد في المياه العكِرة.. من الدّاخل والخارج.. الّذين لا همّ لهم غير مصالحهم القذرة وجِيَفهم النَّتِنة، فتبّت يدهم.. ولا سقى الله زرعهم.. وشتِّت اللّهمّ شملهم..! آمين ياربّ العالمين! وأراه لقاءنا قريبًا.. قريبًا! بِنْحِبِّكْ يَمَصْر.. كم نُحِبُّكِ..!

(الكبابير/ حيفا؛ الكاتب دارس عاشق للّغة العربيّة، مترجم ومحرّر لغويّ)



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>