“حرب الجنرالات” على “ورقة التوت”

ليست “وثيقة غالانت” حدثًا غريبًا في إسرائيل، إنَّها فصل من “حرب الجنرالات” الأزلية، وصراع أضداد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لنيل تلك “المكانة المرموقة”. جنرال “خائب الأمل” وصف مقرّ القيادة العسكرية بأنه مليء بالأفاعي، وذات مرة انشغلت القيادة العليا بـ “الميول الجنسية” لأحد الجنرالات المرشحين لنيل القيادة، والقائمة لا تنتهي…

“حرب الجنرالات” على “ورقة التوت”

|فراس خطيب|

موشيه (بوغي) يعالون، هو وزير للشؤون الإستراتيجية في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية. شغل منصب قائد هيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي بين العاميْن 2002 و2005. لكن نهاية حياته العسكرية كانت “تراجيدية” بعدما قرّر وزير الأمن شاؤول موفاز، بتأييدٍ من رئيس الوزراء في حينه أرييل شارون، عدم تمديد ولايته بعام إضافي كما كان متبعًا مع سابقيه. كانت خطوة موفاز- شارون بمثابة نزع الثقة عن قائد الجيش. أنهى يعالون مهامه (أو نُهيَ عن مهامِهِ)،  قبل أسابيع من تنفيذ “فكّ الأرتباط” عن قطاع غزة، وغادر مقرّ القيادة وفي قلبه مرارة لم تمحُها الأيام. يعالون، صاحب الآراء اليمينية الذي شبّه حركات يسارية بأنَّها فيروس، صرّح سرًا قبيل إنهاء مهامه بقوله: “يسألونني لماذا لا زلت أتجوّل بحذاء مرتفع (العقب). قلت لهم بسبب الأفاعي”. كانت تصريحاته المذكورة علامةً على “حرب الجنرالات” في إسرائيل، التي بدأت مع قيامها ولم تنتهِ، بالتأكيد، مع ولاية يعالون.

دان شومرون. مثلي أم لا؟

دان شومرون. مثلي أم لا؟

إنَّ “حرب الجنرالات” لا تشبه المعارك التقليدية؛ إنَّها معركة مجازية خالية من الرصاص لكنَّها مليئة بالمؤامرات. ولعلّ الأمر الفريد في مثل هذه الحروب هو أنَّ طرفيّ الصراع يخوضان حربهما التقليدية ضد “عدوٍّ” مشترك، لكنَّ “الأعداء” الكثيرين الذين راكمتهم إسرائيل منذ قيامها حتى اليوم، لم “ينجحوا” في إنهاء تلك الحرب الشّرسة التي لم تضع “المنظمات الحقوقية” قوانينَ لها، فمنها من انحدر إلى درك أسفل، وصل حدّ التطرق إلى “أكثر التفاصيل إنتيمية” في حياة “القائد المستقبليّ.”

“ما هي الميول الجنسية للجنرال؟”

في شباط العام1987، اقتربت ولاية قائد هيئة الأركان موشيه هَليفي إلى نهايتها. كان الجنرال دان شومرون نائبًا لليفي، وربطته علاقة شائكة مع قائده. لم يرَ ليفي بشومرون خليفةً له نظرًا لحرب دارت رحاها بين الإثنيْن ولم تضع أوزارها ذات يوم. لقد أراد ليفي تعيين شخص آخر، لكنه وقف عاجزًا أمام تلك الحقيقة لأنَّ صلاحيته منزوعة، خصوصًا وأن وزير الأمن في حينه، إسحاق رابين رغب، بشدّة، بتعيين شومرون.

“حرب الجنرالات” لا تشبه المعارك التقليدية؛ إنَّها معركة مجازية خالية من الرصاص لكنَّها مليئة بالمؤامرات

في تلك الفترة، أي في فترة الصراع، بدأت شائعات تتصاعد في صفوف الجيش الإسرائيلي حول “الميول الجنسية لشومرون”. تدحرجت الشائعات مثل كرة ثلج داخل أروقة المؤسسة العسكرية وزادت تفاصيلها. تضمنت الشائعات اسمًا لقائد آخر “تورّط” مع شومرون. في مقالة حديثة للصحافي إيتان هابر (الذي كان من أقرب المقرّبين لإسحاق رابين)، تم الكشف عن أنَّ تعامل الجيش الإسرائيلي أواسط سنوات الثمانين مع مثليّي الجنس كان “صعبًا للغاية”، مضيفًا: “من ناحية الجيش (الإسرائيلي)، كان مثليّو الجنس بمثابة خطر أمنيّ من الدرجة الأولى. وكان القادة الميدانيون يبلغون عنهم ولا يمكنونهم من تولي مناصب حساسّة وطردوا كثيرين منهم من الجيش.”

أريئيل شارون. تخلص من بوجي

أريئيل شارون. تخلص من بوجي

كان التخبط حول تعيين شومرون سيّد الموقف في “واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. وقف رابين حائرًا “بين ناريّ” رغبته بتعيين شومرون والشائعات التي تضفي بظلالها على المؤسسة العسكرية. ذات يوم، كلّف رابين هابر بـ “التحقق من الحقيقة”. فردّ عليه هابر: “كيف لي التحقيق  في شائعات كهذه؟” لكن بعد تخبط اختار هابر أن يفعل. ذهب إلى شومرون وسأله مباشرة عمّا سمعه. بطبيعة الحال، نفى شومرون كل ما قيل فصدّقه هابر ولم يصدق أطرافًا أخرى. أرسل رابين مرسالاً آخر لشومرون للتأكدّ، فكرّر شومرون نفيه القاطع. عندها و “بعد التأكد” من ميوله على ما يبدو، عيّن شومرون قائدًا لهيئة الأركان، لكنّ شومرون بدأ حربه مع “مُختلقي الشائعات” من على كرسي القيادة. وخلال أقلّ من عام، “حرّر” جميعهم من الجيش الإسرائيلي.

وثيقة غالانت ليست “الفضيحة الأكبر”

تكشف “وثيقة غالانت”، التي كشفها أخيرًا الصحافيان روني دانييل وأمنون أبراموفيتش على شاشات القناة الإسرائيلية الثانية عن عطب في المنظومة العسكرية. الوثيقة التي تحقق الشرطة حول مصدرها، صدرت –بحسب المعلومات التي يتم التحقيق بها- عن مكتب للعلاقات العامة، تتضمّن “توجيهات” لمساندة قائد المنطقة الجنوبية يوآف غالانت ليصبح قائدًا لهيئة الأركان بواسطة تعميق الخلاف (القائم أصلاً) بين قائد هيئة الأركان الحالي غابي أشكنازي ووزير الأمن، إيهود بارك (قائد هيئة أركان سابق).

فضحت قضية غالانت العطب المتراكم منذ سنوات: مكتب للعلاقات العامة يتدخل بمن سيكون قائدًا لحروب إسرائيل؟

فضحت قضية غالانت العطب المتراكم منذ سنوات. “مكتب للعلاقات العامة يتدخل بمن سيكون قائدًا لحروب إسرائيل؟” سؤال أشغل الكثيرين وبعثر الأوراق وأماط اللثام عن كواليس المؤسّسة العسكرية وكشف ملامح المعارك الشخصية داخل القيادة. يصفها المعلقّون بـ “الفضيحة الأكبر”، لكنَّ السياق التاريخي يظهر أنها فصل من رواية بدأت. إنَّها رواية تقليدية من مجموعة روايات راكمتها التعيينات المتعاقبة. فقائد الحروب الإسرائيلية يصل منصبه دائمًا بعد حرب داخلية. عيزر فايتسمان، يقول هابر، كاد أن يصبح قائدًا لهيئة الأركان، لكنَّ تم تعيين حاييم بارليف بدلاً منه. إعتقد فايتسمان أنّ رابين (قائد هيئة الأركان في حرب 1967) كان السّبب في عدم تعيينه، فولد العداء بينهما. قبل سفر رابين إلى الولايات المتحدة، ليبدأ مهامه كسفير لدى واشنطن، رافقه فايتسمان إلى المطار. قبل صعوده إلى الطائرة قال له: “سألاحقك حتى يومك الأخير، ولن أسمح لك بالوصول إلى أيّ منصب في الدولة”. مع مرور السنوات، أصبح رابين رئيسًا للوزراء وفايتسمان رئيسًا للدولة. فالماضي “العسكري” للإثنين منحهما تأشيرة لدخول السياسة عبر بابها الوسيع. وربما هذا هو أصل “حروب الجنرالات كلها”.

على ماذا هذه الحرب؟

الحروب وما بينها من سطور لا تعني فقط أنها حرب آنية وصراع قوى لموظفين يتنافسون على رأس الهرم، إنها قضية معقدة أكثر.  فالصراع ليس على المنصب فحسب، إنما يأتي على “ماذا سيتلو هذا المنصب”. فطريق قائد هيئة الأركان في إسرائيل “وردية” إلى حين الوصول إلى السياسة. يأتي “القائد” وفي جعبته “جيش” يستله في المعركة الإنتخابية، وهذه هي “الوصفة الأكيدة” للنجاح. ففي وقت تحاول الدول المتحضرة فصل السياسة عن الجيش، تسعى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى توثيق تلك العلاقة. نتنياهو، ورغم عمله عشرات السنين في السلك الدبلوماسي، يحاول قدر المستطاع في خطاباته وتصريحاته ترك العقود ويتباهي بخدمته في سرية هيئة الأركان “سييرت متكال”. عامير بيرتس سقط سقوطًا حرًا بادعاء “كيف لمدنيّ أن يكون وزيرًا للأمن؟”، وأرييل شارون، رغم وصوله إلى كافة المناصب المرجوّة، غاب عن الحلبة السياسية وفي قلبه –بحسب مقربيه- حسرة كونه لم يكن ذات يوم قائدًا لهيئة الأركان.

ففي دولة تُعسكر كل شيء، يتحوّل قائد هيئة الأركان من قائد مؤسّسة إلى زعيم يدخل السياسة من بابها العريض ومن دون تفتيش. من هنا تبدأ الحرب ومن هنا لا تنتهي!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>