كلمات عن الثورة وفيها/ باسل غطاس

|باسل غطاس| يكثر استعمالنا لكلمة “الثورة” ف […]

كلمات عن الثورة وفيها/ باسل غطاس


|باسل غطاس|

يكثر استعمالنا لكلمة “الثورة” في السنة الأخيرة على وجه الخصوص من دون التمعن حقيقة بتعريف المصطلح وما ينبغي تعريفه كثورة وما لا ينطبق عليه ذلك التعريف. وهذا طبعا مرض السياسة الشائع وأعني خلط المصطلحات ومن ثم خلط المعاني عن قصد عادة بهدف خلق البلبلة أو الضبابية على الأقل وأحيانا بسبب السطحية واللجوء الطبيعي للتعميم والتبسيط. قد تكون حركة احتجاجات واسعة أو ضيقة وتسمى ثورة (مثلما سارعت الصحافة الاسرائيلية وغيرها في إطلاق اسم ثورة اجتماعية على حركة الاحتجاجات في الصيف الماضي وقد ذهبت مثل سحابة صيف بانتظار الصيف القادم). أو قد يكون انقلاب عسكري تقوده مجموعة أكثر أو أقل دموية تستولي على الحكم وتقيم مجلسا “ثوريا” وعادة تسمى حسب تاريخ حدوثها وتتداولها الألسن والأدبيات دون توقف عند معنى التسمية.

فالثورة الفرنسية وثورة أكتوبر هي ثورات وانقلاب عبد الكريم قاسم وما تلاه من انقلابات والنميري وغيره هي سلسلة ثورات. والمظاهرات التي أعقبت اغتيال الحريري سميت ثورة حينا حسب التاريخ وحينا حسب أصحاب 14 آذار ثورة الأرز. في هذا السياق ينبغي أن نذكر السادات بالخير الذي أطلق على انقلابه على ثورة يوليو “حركة تصحيحية” وليس ثورة.

لا أريد هنا الاجتهاد في تعريف الثورة حيث أردت العودة للحديث في مآلات ثوراتنا الراهنة ونكتفي بالقول أن الحكم على الحدث فيما هو ثورة أم لا يكون بالنتائج وليس بخضم ووههج البداية والانطلاقة. لكن هذا لا ينفي حق الكتاب والمحللين في استشراف النتائج والبدء باستعمال لقب ثورة على أحداث راهنة خاصة إذا كانت مثلما هو الحال في الحالة العربية أي زلزال حقيقي أحدثته حركة الجماهير التي انطلقت بالملايين وأطاحت حتى الآن بثلاثة من زعماء الأنظمة الفاسدة وليس عصبة من العسكر حتى لو كانوا من أخلص الوطنيين. أيضا يمكننا من البداية استشراف النتائج بالأهداف لما يحدث وبحجم وعمق الحراك الجاري فإذا كانت أهداف الحراك إحداث تغيير جذري في نظام الحكم بغية تحقيق الحرية مثلا أو اقامة نظام ديموقراطي تعددي والاطاحة بديكتاتورية عاتية أو ملكية بائدة واذا كان الحراك الجماهيري من الاتساع بحيث يشمل فئات واسعة من المجتمع ومن العمق بأنه يستمر رغم كل العنف وأحيانا القتل والمجازر فعندها يحق لنا النظر اليها بأنها ثورة وأي ثورة حتى لو لم تحقق لاحقا النتائج المرجوة. ونعرف في التاريخ حالات لانقلابات عسكرية لم يرافقها حراك جماهيري تحولت لاحقا إلى ثورة لأنها لم تطح بالحكم السابق فقط وانما أحدثت تغييرات عميقة في المجتمع والنظام السياسي والاقتصادي مما جعلها تستحق اسم الثورة عن جدارة على سبيل المثال ثورة يوليو.

هل سنظل نطلق على ما جرى ولا يزال يجري في تونس ومصر مثلا ثورة  بمنظور تاريخي سيعتمد هذا على صيرورة الأحداث ونتائجها في السنوات القادمة فالثورة المضادة موجودة ونظام الحكم السابق لا يزال يقاوم رغم ذهاب رأسه فهو معشش في أجهزة الحكم وفي النخب الاقتصادية والاعلامية وفي الثقافة السائدة. ولا ضمان لأن تتحقق أهداف الثورات الشعبية حتى لو جرى فعلا تغيير في طريقة الحكم الى حكم ديموقراطي كامل أو جزئي بمعنى حصول انتخابات نزيهة وفصل معين للسلطات وابعاد المؤسسة العسكرية والأمنية عن الحكم. التجربة في أمريكا اللاتينية تشير الى استمرار الفساد وقمع الحريات وطبعا الفوارق الاجتماعية عقود بعد اسقاط الأنظمة العسكرية. نقول هذا خاصة للرومانسيين الثوريين الذين ينتظرون نتائج ثورية سريعة ومفصلة على مقاسات أحلامهم على طريقة الفاست فود. هذا لا يعني أن النموذج الأمريكي اللاتيني لم يحقق قفزات هائلة في التنمية الاقتصادية وفي التحول الديموقراطي وننسى أحيانا أن أقطارا تلعب دورا هاما اليوم مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي كانت قبل عقود قليلة ترزح تحت أعتى وأشرس الديكتاتوريات العسكرية. وفي هذه الأقطار لا يزال يغتال الصحفيون الشرفاء ولا يزال الفساد ينخر الى عظم النظام.

حسب المداخلة التعريفية السابقة أكثر حراك شعبي عربي يستحق اسم ثورة هو الحراك الشعبي السوري من حيث الاتساع والعمق والاستمرار. ليس من الهين ايجاد ثورة مشابهة في التاريخ الحديث (إذا استثنينا الثورات على المستعمر الأجنبي لتحقيق الاستقلال) من حيث حجم المشاركة الشعبية وحجم التضحيات الهائل الذي يعني في نفس الوقت همجية ودموية النظام من ناحية والقدرة والاصرار الجماهيري الشعبي على الاستمرار رغم كل شيء من ناحية أخري.

إن ما يحدث في سوريا هو ملحمة ثورية شعبية حقيقية لا نستطيع مقارنتها بحالة مشابهة في التاريخ المعاصر. وبالذات هذه الثورة تحظى من قبل عدد لا بأس به من القوميين العرب وقوى اسلامية مقاومة مثل حزب الله بلقب “مؤامرة”. ورغم سهولة ضحد هذه الادعاءات التي تبدو ضربا من ضروب الهذيان السياسي إلا أن حق من يفكر بهذه الطريقة ومنهم أصدقاء عزيزون علينا أن نتعامل مع هذا الادعاء بجدية. علنا أن نذكر هنا وكلي أمل أن تنفع الذكرى بأن الأحداث في سوريا لم تبدأ هكذا عشرات المدن والبلدات المنتفضة ولم تتسارع حركة وتجاوب الجماهير كما حدث في مصر وتونس وحتى اليمن. الحراك الشعبي السوري جرى بوتيرة معينة يمكن العودة اليها ورصدها ودراسة تصاعدها ومقابلتها اسبوع بعد آخر مع أفعال النظام. في الأسابيع الأولى اقتصر الحراك الشعبي على درعا ولولا قسوة وغطرسة النظام لربما انتهت القصة هناك. من درعا انطلقت لأول مرة مطالب وطنية عامة بالإصلاح لا بتغيير النظام ولا اسقاط الرئيس. هذه المظاهرات جوبهت بالنار وفي الأسابيع الأولى اعترف النظام نفسه بالخطأ في اطلاق النار وأجرى تحقيقات في الموضوع وبدأ من ناحية أخرى بالاعتراف بضرورة الاصلاح ونذكر تصريحات بثينة شعبان وإقالة الحكومة وبدء تغيير القوانين.

في هذه الأسابيع الحاسمة (اذكروا جيدا كيف كانت القوى الوطنية الحريصة على سوريا وحتى قوى اقليمية صديقة تتوجه للنظام السوري ولبشار شخصيا بدعوات التحرك السريع والعمل الاستثنائي لقراءة ما يحدث جيدا واستدراك الموقف) كان الحراك الجماهيري قد بدأ يتسع وشكلت تنسيقيات للثورة من الشباب في الشوارع وتأثرا بالثورات العربية مع البدايات كانت الثورة السورية “خفيفة” (لايت) سواء من حيث المطالب أو الكثافة أو الأساليب. لأولئك الذين ينتظرون من الجماهير أن تتلقف بالشكر والحمد مكرمات النظام الاصلاحية وتعود و”تنضب” في بيوتها نقول هناك كما يبدو نقطة عندما يجتازها الحراك الشعبي في أي مكان لا يمكن وقفه ويتحكم به فقط عاملان: عنف رد النظام ومدى دمويته من ناحية والتنازلات والانجازات التي تتحقق فالشهداء وانجازات الثورة هما وقودها النووي الذي لا يستطيع أحد أن يتحكم بهما.

أشهر مضت على الثورة السورية لم تطلق فيها رصاصة واحدة من الناس حتى الرواية الرسمية عن العصابات الارهابية ترسخت بعد الانشقاقات في الجيش وفعلا بدأ مجموعات بالمقاومة المسلحة, وحتى اليوم هل يمكن مقارنة بعض الجنود المنشقين بأسلحتهم الخفيفة مع مدافع النظام ودباباته وطيرانه وصواريخه. بربكم هل هناك عصابات ارهابية تدك مدن بأكملها للقضاء عليها إذا كان الحال كذلك فهي على الأقل ليست عصابات وانما أكثر من ذلك بكثير.

في وصف الثورة السورية وحقيقة مجرياتها تعنينا أشاء كثيرة وأخرى غير مهمة بالمرة على الأقل في سياق فهمنا لها وتحديد موقفنا منها:

  • الثورة بدأت من الداخل أصيلة وأصلية من قضية أطفال معتقلين في درعا بعيدا عن أي تدخل أجنبي أو حتى من قوى المعارضة السورية في الداخل أو الخارج.
  • النظام أقر بشرعية المطالب ولو شفهيا وبدأ بالاصلاح . هذا أكد شرعية المطالب والدرس من هذا أن النظام لن يتغير فعلا من نفسه بدون الاستمرار في الاحتجاجات.
  • الثورة في الشارع من حيث المطالب والتجاوب والابداع سبقت القيادات والأحزاب المعارضة وصمدت وحيدة بدون تضامن دولي أو عربي وفقط بالدم والمزيد من الدم بدأ العالم يتحرك. من هذا المنظار حظي نظام الأسد بالكثير من غض النظر الدولي والأمريكي خاصة وأعطي العديد من الفرص لكي يقضي على الثورة. الغرب كان يقبل بل ويأمل بالتضحية بالثورة السورية على مذبح الاستقرار في المنطقة وحفظ الأمن لاسرائيل. الشعب السوري ببطولته الاسطورية نسف كل المعادلات والحسابات الاقليمية والدولية.
  • حسب الثورة السورية فخرا ومصداقية ما تقدم ولا يضيرها أو يلوث من مصداقيتها تأييد أمريكي أو غربي متأخر ومتواني ومنافق يعلك علكا مفاهيم حقوق الانسان. كما ولا يضير حمص أو يمس بشرفها جعجعات تأييد الحريري والجميل وجعجع.
  • لا يمكنا تحميل الثورة السورية أمراض قوى المعارضة ووهنها وانزلاق بعضها  وهي تحاول لملمة صفوفها وتجنيد التأييد الدولي من المنفى ولا ننسى أنه لا توجد بنغازي سورية.
  • أخيرا لنتذكر كلنا أن الثورة الشعبية خاصة في ظروف القمع الدموي مثل الحالة السورية هي حالة من التحرك العفوي بالرغم من نشوء قيادات ميدانية شجاعة ولجان تنسيق وما الى ذلك تظل الطاقة العارمة لهذا الحراك ومكمن قوته واستمراريته في كونه تجسيد لارادة الجماهير وهذه بدورها لا تتقرر في صالونات منظري الثورة ولا في استوديوهات الفضائيات (لسخرية الاقدار أن تحمل فضائية معينة جزءا هاما من نظرية المؤامرة وكأنها بكبسة زر أو فلاش كاميرا تخرج الجماهير للشوارع وتجعلهم يضحون بأرواحهم). ألإرادة الجماهيرية يشعر بها القادة الميدانيون ويستشعرون نبض الشارع ويتجاوبون معه لا يتحكمون به. الارادة الجماهيرية لا تفاوض ولا تساوم انما هي مجموعة من القناعات والإيمان الفولاذي الراسخ بصدقية ومشروعية الثورة ووطنيتها ومطالبها والاستعداد للموت في سبيلها وهي أيضا أنقى وأطهر ما في تاريخنا وتراثنا وأدياننا من قيم وأخلاق ونبل تجعل الثورة تنأى عن الطائفية والمذهبية وتعارض التدخل الأجنبي ليس إرضاء لأحد وانما لأنها إرادة الجماهير العريضة وهي وطنية بامتياز.

على هذه الارادة يعول الوطنيون والثوريون وفي حالتنا العربية المتشكلة أمامنا من المحيط الى الخليج ستكون حجر الزاوية لعصر نهضة جديد.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. هل المقال من تأليف باسل غطاس ام محرر من محرري قناه الجزيره

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>