الحيز الثالث وتجربة المرأة الفلسطينية في الحياة اليومية/ د. هناء حمدان – صليبا

*معارضة ومقاومة التمييز العنصري للمؤسسة المضطهدة، ومعارضة ومقاومة الإقصاء الثقافي والحيزي والسياسي والجندريالي*

الحيز الثالث وتجربة المرأة الفلسطينية في الحياة اليومية/ د. هناء حمدان – صليبا

تصميم: عامر شوملي (زان ستوديو)

| د. هناء حمدان – صليبا |

في فترة ما بعد الحداثة، قام منظرون/ات) في الفكر ما بعد-الكولونيالي، ما بعد-الحداثة، الفكر النسوي والنسوي الاسود (بتطوير مصطلحات لفهم ولتفسير الحياة اليومية المركبة، خاصة فيما يتعلق بالمجموعات المهمشة، وكيفية التعامل ومواجهة مباني القوى المتعددة، الجندريالية، الثقافية، السياسية وغيره. من بين هذه المصلحات برز من بينها ما يلي: “الحيز الثالث” (thirdspace) و “ما – بين” (in-between) (لـHomi Bhabha, 1994  وEdward Soja, 1996) “حيز الهامشية” (Margin as a space of radical openness) (لـ bell hooks, 1989) “المنطقة الحدودية” (Borderlands-La Frontera)  (لـ Cloria Anzaldua). بالاعتماد على هذه الكتابات يصبح الحيز الثالث حيز المجموعات المضطهدة والمهمشة، وهو الحيز المضاد لحيز القوى المهيمنة، والذي من خلاله يقاومون ويفاوضون على مطالبهم، هوياتهم واحتياجاتهم، المتناقضة في بعض الاحيان.

الادعاء المركزي لهذا المقال هو أن الفرد الفلسطيني، المرأة خصوصًا، يقوم بتطوير ما يسمى الحيز الثالث وذلك بهدف مواجهة الاضطهاد اليومي ومباني القوى المتعددة والمركبة، منها الجندريالية والثقافية والسياسية. إن الحيز الثالث للمرأة الفلسطينية في البلاد، يتيح لها معارضة ومقاومة التمييز العنصري للمؤسسة المضطهدة، ومعارضة ومقاومة الإقصاء الثقافي والحيزي والسياسي والجندريالي، وذلك في مختلف المواقع الحياتية. هو الحيز الذي يمكّن المرأة الفلسطينية من استغلال الفرص القليلة المتاحة لها، وذلك بهدف إجراء تغييرات في حياتها اليومية وإعادة – بناء هوياتها الثقافية والجندريالية والسياسية. وفي نفس الوقت هو حيز التناقضات وعدم الوضوح، سوف أتطرق فيما يلي الى ثلاثة أمثلة تُجسد وتوضح فكرة الحيز الثالث: حيز المؤسسات/الجمعيات المدنية؛ الحيز الأكاديمي (الجامعات)؛ وحيز شارع الكرمل.

 

حيز المؤسسات/الجمعيات المدنية:

 أدت سياسات وممارسات التمييز من قبل المؤسسة الإسرائيلية المهيمنة إلى ارتفاع الصوت “الآخر”، الصوت الفلسطيني، المضطهَد والمهمش. من دلالات هذا الصوت إنشاء الأحزاب السياسية؛ إقامة فعاليات سياسية واجتماعية؛ وإنشاء الجمعيات والمؤسسات المدنية على اختلافها، الذين يطالبون بحقوقهم السياسية، التاريخية والثقافية والحيزية. في هذا السياق، واستنادا على ادعاء Bhabha (1994) القائل بان الحيز الثالث “يتيح ظهور مواقف أخرى”، يمكننا اعتبار هذه المؤسسات/الجمعيات كحيز ثالث، يحمل معاني ثقافية وسياسية جديدة، ويتيح المقاومة وملاءمة الحيزات. عدد كبير من العاملين في هذه الجمعيات هم من النساء الفلسطينيات اللواتي يتمتعن  بالقدرات المهنية والتعليمية العالية، المتواجدات بعضهن في مواقع القرار. وذلك، بخلاف موقعها في الحيز العام، الاجتماعي والسياسي. في هذه الجمعيات-الحيز الثالث تقاوم وتفاوض المرأة الفلسطينية ليس فقط هذا الاضطهاد السياسي وإنما أيضا الاضطهاد الثقافي والأبوي/الذكوري داخل المجتمع الفلسطيني، وبذلك تستطيع إعادة بناء هويتها وتحقيق حريتها وتقدمها المهني. في ذات الوقت، يفرض عليها التعامل مع التناقضات السياسية والثقافية. على سبيل المثال، في بعض الاحيان تضطر المرأة الفلسطينية، أن تتعامل مع أشخاص وخطابات تناقض هويتها السياسية والثقافية، لكن موقعها ومكانتها في هذا الحيز، يمكّنها من التعامل أو التحايل على هذه التناقضات وذلك بهدف إحداث تغييرات للواقع السياسي المضطهد، ومن الممكن أن تساهم في إحداث تغييرات فكرية في المجتمع الأبوي.

 

الحيز الأكاديمي (الجامعات):

 يعتبر الحيز الأكاديمي عموما، حيزا ليبراليا وحرا، وفي سياقنا المحلي يعتبر أيضا حيز المجموعة المهيمنة، حيز الاضطهاد. لذلك يمكن اعتباره حيزا ثالثا، لما يحويه من تناقضات، وخاصة للمرأة الفلسطينية. بالرغم من القيود السياسية التي تعاني منها في هذا الحيز، إلا انها تتمتع بحرية الحركة والتصرف الاجتماعي بسبب وجودها بعيدة عن المجتمع الأبوي المقيد. فبالتالي، إن النساء الفلسطينيات اللواتي يواجهن كغيرهن التمييز المؤسسي، من جهة، ومن جهة أخرى الاضطهاد الجندريالي داخل المجتمع الفلسطيني، يستخدمن الحيز الأكاديمي كأداة مقاومة للمطالبة بحريتهن وبناء وإعادة-بناء هوياتهن الثقافية والسياسية والجندريالية. تستغل المرأة الفلسطينية هذه المؤسسات الأكاديمية للتقدم وللتطور الشخصي، وأيضا لتطوير ولعرض خطاب آخر غير الخطاب المهيمن. وذلك بالرغم من الصعوبات المضاعفة التي تواجهها، لكونها إمرأة ولكونها فلسطينية.

حيز شارع الكرمل:

 الحيز الاخير الذي سوف اتطرق اليه هو حيز “شارع الكرمل” الواقع في الحي الالماني في  حيفا، والمسمى اليوم بشارع “بن غوريون”. على عكس أهداف بلدية حيفا ومخططيها من تطوير وترميم الحي، تحول شارع الكرمل إلى حيز ترفيهي فلسطيني مركزي ومهم ليس فقط لسكان مدينة حيفا انما للسكان الفلسطينيين في المنطقة، وذلك من خلال مبادرات فردية فلسطينية عملت على إقامة مقاهٍ وأماكن ترفيهية. وقد ساهمت إسقاطات هبة أكتوبر 2000 بشكل ملحوظ الى نجاح هذه المبادرات وذلك نتيجة لحالة القطيعة بين المجموعة المهمشة الفلسطينية وبين المجموعة المهيمنة اليهودية.

وبذلك من الممكن اعتبار شارع الكرمل، كحيز بديل ومختلف، حيز ثالث، أولا لإفساحة المجال أمام المرأة الفلسطينية (والرجل الفلسطيني أيضا) بالتفاوض وبناء هويتها الثقافية والسياسية في هذا الحيز الجغرافي، ذات الطابع العربي الفلسطيني، بمنأى عن الحيز المهيمن المقيِّد والمضطهِد. وثانيا، لتمكين المرأة الفلسطينية من مقاومة ومفاوضة القوى الابوية والاجتماعية وبالتالي ممارسة حرية التصرف والحركة، بخلاف لأي حيز جغرافي عربي آخر في المدينة. من الممكن الادعاء هنا، أن وجود هذا الحيز في مدينة ذات طابع غربي وذات أغلبية يهودية ساعد ومكن من تطوير هذا الحيز الحر، نسبيا. بالتالي يجوز الادعاء هنا، أن الثقافة العربية الفلسطينية ليست ثابتة ومحددة وإنما هي متواجدة في سيرورة “تهجين” (hybridity) وفقا لـ Bhabha (1994: 211) الذي يدعي أن كل شكل من أشكال الثقافة هي في سيرورة “تهجين”" الذي يخلق شيئا مختلفا، شيئا جديدا وغير معروف، مجالا جديدا للتفاوض على المعنى والتمثيل”.

أخيرًا، تمثل الحيزات التي ذكرت في هذا المقال، أمثلة لحيزات بديلة بُنيت وطُورت على يد أفراد ومجموعات فلسطينية من أجل تغيير الواقع الحيزي/الجغرافي، السياسي والثقافي المُضطهد، فيها يستطيع الفرد وخاصة المرأة الفلسطينية، من المقاومة والتفاوض لتغيير الواقع وملاءمته لحياتها اليومية ورؤيتها السياسية والثقافية.

*باحثة ما بعد الدكتوراة – جامعة أتونوما في برشلونة

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>