حديث في الثورة والهوية/ حسن عبيد

. |حسن عبيد| لقد تعدّدت الدراسات التي تحدثت عن الهوية و […]

حديث في الثورة والهوية/ حسن عبيد

.

|حسن عبيد|

لقد تعدّدت الدراسات التي تحدثت عن الهوية وتشكيلاتها ودورها في سياقات متعددة، واعتبرها البعض أداة تفسيرية تصلح لمعرفة التشكلات المعرفية والنفسية لأيّ مجتمع، يستطيع الباحث من خلالها معرفة مقدار تماسك المجتمع ووضوح رؤيته تجاه القضايا المتعددة، ابتداءً من القضايا المعيشية الحياتية اليومية وانتهاء بالقضايا المفصلية الكبرى.

يُعرّف “المعجم الوسيط” الصادر عن مجمع اللغة العربية الهوية، فلسفياً، بأنها: حقيقة الشَّيء أو الشَّخص التي تميّزه عن غيره، وضمن التوظيف لتعريف الهوية في سياق الثورات العربية، يصبح الحديث عن الهوية هامًا كسياق تفسيري للأحداث التي أدّت إلى انفجار الشعوب العربية في وجه الديكتاتوريات التي عملت على صهر الهوية العربية عبر ممارسات زادت من تمييعها، حيث أصبح الفرد العربي فاقدا لأيّ تصوّر لنفسه في السياق الحضاري الحديث. هكذا جرى ضرب المفهوم الأساسي لهوية المواطن والتي تعني أن يكون لدى الإنسان العربي صورة إدراكية لتعريفه لنفسه، وكيف ينظر الآخر له، ليحدث الاغتراب لدى المواطن العربي عن بلده وثقافاته وقضاياه المصيرية.

إنّ ما قامت به الدكتاتوريات هو إحداث تمويه وتمييع لشكل الهوية العربية، التي فُصلت عن الكثير من القضايا المفصلية، كالقضية الفلسطينية وقضايا الوحدة العربية والأمن الغذائي والحرية والديمقراطية، ليصبح المواطن العربي غير متصالح مع نفسه وغير مستقر عاطفيا ونفسيا، وهذا جعله يسعى دوما وبلهفة إلى خلق تأويلات لأحداث وخطابات سياسية تجعله مستقرًا أو تساعد في تصالحه مع موروثه التاريخي ليحقق احترام الذات، ولتزداد الهوة بين الخيال والواقع وبالتالي- تعاظم الاغتراب.

إن صمام الأمان الأساسي لنجاح واستقرار مفاعيل أي ثورة يكمن في خروج الهوية مما كانت تعانيه من أتون حكم الديكتاتوريات، ليعيد المواطن العربي تعريف نفسه بإضافة أبعاد للتعريف لم تكن موجودة في السابق، لتُوظّف حضاريًا لنرى المجتمع العربي يضيف للإنسانية إضافات قيّمة، وهذا ما رأيناه في الثورة العربية والتونسية وما قدمتاه من أنموذج رائع.

لقد حافظت الثورات العربية منذ البداية على مسارها، كما حافظت على نسق لم تحِدْ عنه في تكريس هوية جديدة، وليس شرطًا أنّ كل ثورة على حدة استوفت أو حققت كل شروط تأسيس الهوية العربية الجديدة. وقد أضافت كل ثورة قيمة تصلح للتعميم، ليصبح الكل العربي مساهما في هذه الهوية العربية الجديدة ، لتتشكل هوية جامعة تعبر عن الجميع. الهوية هي الضامن لحفظ مشروع الأفكار الناهضة للأمة العربية الإسلامية، والابتعاد كما يقول عزمي بشارة عن التشرذم والانقسامات داخل الساحة السياسية الواحدة، وما يترتب على ذلك من تعدد الهويات والتي تفرز الطائفية والقبلية.

ومن أول شروط نجاح بناء هوية عربية هو تحقيق الانسجام، وذلك من خلال إيجاد إجابات لجميع القضايا الجوهرية على المستوى الوطني وعلى مستوى القضايا المجاورة، حيث كانت القضية الفلسطينية محورا أساسيا ومحركا هامًا في إطلاق الأحكام على الديكتاتوريات العربية، بمقدار قربها من القضية الفلسطينية أو بُعدها، وحتى في حالة سوريا- فقد استغل النظام موقفه من القضية الفلسطينية في التعبئة الإعلامية تجاه المتظاهرين.

العدالة والديمقراطية والحرية تشكل عاملا أساسيا في تقليص الهويات الصغرى في سبيل تدعيم الهوية الكبرى، التي تعيد صياغة المجتمع بشكل يهيّئه لتسلم مهامه الحضارية والإنسانية، لتصبح التشكيلات السياسية العربية عاملا فسفيسائيا مساعدا على القيام بمهام الدولة وعنصرا حيويا هامًا وليس مثبطا وحاجزا، ويبقى على الثوار إدراك أنّ فعلهم الثوريّ يجب أن يكون مؤسّسًا حقيقيا وفاعلا في بناء هوية عربية وطنية، وألا يتم استعجال نتاج الثورة على حساب ذلك.

اِعتمد البعض على التفسير الاقتصادي ونظريات التطور اللامتكافئ، كما عند سمير أمين، للتخلف والتبعية ويعتبر ذلك التفسير الرئيسي، كما يحلو عند بعض الكتاب. وأعتقد أنّ ضياع الهوية وتمييعها هو السبب الرئيسي. ففي الحالة اليابانية مثلا، وبعد القنبلتين النوويتين التي تلقتهما في الحرب العالمية الثانية، أصبحت اليابان منهكة اقتصاديا وأول ما تم العمل عليه هو بناء الهوية واعادة تعريف الذات في السياق العالمي الجديد، وفي الوقت الحاضر نرى ذلك في انبناء الهوية التركية من خلال استحضار كل ما هو إرث تاريخيّ، ليساهم ذلك في تفعيل الدور التركي على الساحة الدولية، وما تحسن الاقتصاد إلا نتيجة لذلك. وهذا دور الحضارة الذي عبر عنه مالك بن نبي، بأنه لا يمكن للمسلم أو العربي الدخول الى الحضارة إلا من خلال بناء إنسان جديد، والتقدم الحضاري المادي هو نتاج اندماج الحضارة الإنسانية بالثروات.

تلعب الهوية دورا في رسم الصورة الإدراكية والذهنية العربية، وما يترتب على ذلك في وضع الحدود، والقصد هنا ليس الحدود القانونية، ولكن كما يقول أحمد داود أوغلو فهناك ما يسمى الحدود الجيوسياسية والجيو ثقافية، وهي حدود مرسومة ذهنيا ومغذية تاريخيا وثقافيا؛ إنها الحدود التي ترتقي بالمسؤوليات تجاه القضايا القومية والعربية، وهي حدود الارتقاء بالمسؤوليات الإنسانية تجاه العالم، والتي تعطي الساحة العربية عمقا استراتيجيا أكبر مما كانت عليه في وقت الديكتاتوريات.

ما يقع على عاتق الثورات من أهمية في صياغة الهوية العربية، إنما هو إعادة صياغة للأقاليم والأقطار العربية المتشرذمة وتوحيدها ضمن بوتقة الأمة ذات العمق الاستراتيجيّ، والقيام بواجباتها تجاه الآخرين، وقبل ذلك تجاه قضاياها المفصلية وأولى هذه القضايا القضية الفلسطينية.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. بارك الله فيك على هذه المقالة
    اود ان اضيف ان الهوية تقوم على أربعة أسس وعناصر(العقيدة ـ التاريخ ـ اللغة ـ الأرض) إن تكونت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة المسلمة عبَّرت بمجموعها عن الهوية العربية الإسلامية.
    ولكن في وقتنا فلا عقيدة ولا تاريخ نتمسك ونقتدي به ولا لغة عربية نتمسك بها ولا ارض نملكها ونملك ثرواتها، والغرب يخطط ويمكر لاضاعة تلك الهوية كما قال تعالى هنالك متربصون يتربصون بهويتنا الإسلامية وأمتنا كما قال تعالى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير”
    ولكن الامل موجود بجهود المفكرين والعلماء والادباء باعادة تشكيل تلك الهوية لتحقق لنا الحضارة والعزة والكرامة

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>