مقاربة سوسيولوجية جديدة للصراعات في المنطقة!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي| عادة ما نحلّل الأمور الحاصلة في المنطقة […]

مقاربة سوسيولوجية جديدة للصراعات في المنطقة!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي|


عادة ما نحلّل الأمور الحاصلة في المنطقة العربية بأدوات الدولة الإقليمية أو سوسيولوجية الدولة القومية. فتكون دولة القومية العربية أو التركية أو الإيرانية كجماعة متخيّلة في هذا القطر أو ذاك نقطة الارتكاز التي نقيس منها الأحداث وتسارعها. لكنني على اعتقاد أننا لا زلنا نفعل ذلك كجزء من تراث حقبة زمنية تجاوزتها الأحداث والتطورات لا سيما التحولات الحاصلة الآن في المشرق والمغرب العربيين فيما سمّيناه حقبة الثورات العربية.

أمكننا، بفعل قوة الأحداث وعمقها، وبفعل المشهد المرتسم على السطح وتحت السطح، أن نرى إلى المتغيرات من زاوية نظر مختلفة تخترق حدود الدولة القطرية  وتقفز فوق سيادتها المتهلهلة وتتجاوز الحقبة القومية على علاّتها سعيا إلى قراءة مغايرة. وهي قراءة متداولة ولكن بخفر واستحياء. فإذا افترضنا أن نظام الدولة القومية العربية في سيرورة تضعضع وتداعٍ، فكيف نسمي الصراعات المعلنة أو الحاصلة تحت غطاء من الدبلوماسية والتسميات المواربة؟ وما هو هذا الشيء الذي يحرّك ويبلور العلاقات العربية الإيرانية أو العربية التركية أو العربية العربية الآن؟

يُمكننا أن نرى ما إلى ما يحدث على أنه ثلاث حلقات من الصراعات، ظاهرة وباطنية. صراع بين الإسلام السني وذاك الشيعي. صراع بين هذين المذهبين وبين الأقليات غير المسلمة في مناطق سيادتهما. وصراع هو كرّ وفرّ بين هذين المذهبين وبين محاور دولية لا تنفكّ تنقضّ على الأرض والسيادة والموارد ضمن الحدود  الجغرافية ومناطق نفوذ هذين المذهبين. بمعنى، نشوء الدولة الدينية في إيران وضعف الدول العربية أو تفككها ـ العراق مثلا ـ أزال طبقة تراكمات الدولة وتمثيلاتها ومفرداتها. أو أن تفكك الدولة في الكثير من المواقع كشف مكوناتها الأدنى. ولاءات مذهبية أو دينية أو عرقية إضافة إلى ما عهدناه من مكونات قبيلية عشائرية لم تستطع الدولة العربية الإقليمية تفكيكها بل عززتها في كثير من المراحل واعتلت متنها. فالصراع واضح في مساحة العراق بين جماعة السنة وجماعة الشيعة وبين هاتين الجماعتين والجماعات العرقية والدينية الأخرى لا سيما الأكراد. ويكاد العراق التقليدي يتفكك إلى ثلاث كيانات جديدة. وفي مساحة العراق، أيضا، صراع مرئي أو غير مرئي بين إيران كمركز القوة الأساس للمذهب الشيعي وبين قوى إسلامية سنية داخل العراق ومن خارجه، أيضا. وفي لبنان مشهد مغرق في طائفيته لكنه لا يستطيع أن يُخفي ذاك الشحن القابل للتفجّر في أي لحظة بين سنة وشيعة بنظام دفع إيراني. أما ثورة مصر الجارية الآن فقد كشفت الجرح القبطي في التاريخ المصري فأخذ ينزف على وقع إرث ثقيل وبائس من الدولة المصرية. واليمن، لم يسلم من التحشيد الحوثي العسكري والسياسي ضد النظام ومن حرب النظام المتفكك ضد الحوثيين. وفي سوريا التي استنفذ النظام تكوينها المذهبي والعرقي حتى النخاع، تنكشف الأمور على واقعها، نظام يرتكز على العلويين والأقليات في سيطرته على غالبية سنية. هذا بالرغم من أنه داخ ودوّخنا في النفخ الأهوج بقربة القومية والعروبة وما إلى ذلك من خطاب يتضح الآن كم كان كاذبا مخادعا وغادرا. أما إيران التي خضعت لما أسمي في حينه “الثورة الدينية” ـ حسب داريوش شايغان على الأقلّ ـ فتنزع بمثابرة وعناد نحو توسيع نفوذها وصولا إلى شاطئ البحر المتوسط غربا، واليمن ومصر وإلى حيث تستطيع إلى ذلك سبيلا. فيما تنافسها تركيا على الجغرافية ذاتها محاولة صدّ التقدم الإيراني نحو العمق العربي السني من خلال تصدير نموذج لإسلام سني تصوره على أنه منفتحا وحداثيا وأكثر ملاءمة للمنطقة العربية.

أقليات على مدّ النظر العربي، من العراق وأكراده وآشورييه وسورية وسريانها وأرمنها وأكرادها، إلى المغرب العربي ببربره وأمازيغه وطوارقه وأقباطه، واقفة على باب الأحداث أو في وسطها تطالب برقعتها أو بأمنها. مستوى آخر من الصراعات بين الأقطار ومجموعات الأكثرية فيها وبين أقلياتها القلقة من مجهول مصائرها تحاول أن تضمن لها معادلات أكثر إنصافا وأمنا وسط صراع “الجبابرة” من مذهبين متنافسين على كل شبر ومورد. وهو ما لم يتيسّر لمسيحيي العراق وآشورييه فهاجروا، ولا لأقباط مصر ولا لأكراد سورية أو تركيا على سبيل التمثيل الحصر. ولا عرب الأهواز في إيران قادرون على تحمل وطأ قبضة الملالي في طهران أو قم.

كأن الجغرافيا السياسية من حدود الهند إلى الأطلسي عادت إلى مكوناتها الأساسية التي سبقت الدولة الإقليمية الحديثة وانبنت مجددا على ما هو قبل الدولة من وجود جمعي للأديان والمذاهب والأعراق. أو يُمكننا القول أن الدولة الإقليمية فشلت تماما في كونها أتون صهر أو بناء أمة أو جماعة المواطنين فعادت أدراجها نحو الكيانات التي سبقتها. أو يُمكننا قول ما يُناقض هذا من أن الجيو ـ سياسة المعولمة التي أنهكت الدولة الإقليمية ـ ليست في هذه البقعة فحسب ـ ودكت السيادات والحدود أنتجت من جديد ولاءات ليست بالضرورة أن تحسب أدنى من الدولة كما أشرنا آنفا، بل أوسع من الدولة. فشيعة لبنان لا يدينون للدولة اللبنانية الاسمية في شيء وينضوون تماما تحت عباءة ولاية الفقية. وكذلك الجزء الأكبر من شيعة العراق والسعودية والبحرين، على الأقل منذ تأسيس نظام الخميني في أواخر السبعينيات! هذا فيما تنزع المجموعات السنية إلى التواصل مع مراكزها في استانبول أو الرياض أو سواهما في محاولات الاستقواء أو الاستعاضة عن انتهاء دور الدولة الأساس في حمايتهم أو حفظ مصالحهم كمواطنين وجماعة.

وفي الحلقة الأوسع من الصراع في هذه المنطقة سنجد القوى الدولية حاضرة بقوة مباشرة من خلال قواعدها أو أساطيلها في المتوسط والخليج العربي أو من خلال حلفائها أو محاور إقليمية تتقاطع معا في المصالح أو المشاريع. بمعنى، أن هذه القوى في أتم الجهوزية للعب بهذه الصراعات الداخلية في الأقطار المذكورة أو بين المذهب الشيعي والسني وتستثمرها أو تشعلها طمعا في تحقيق مصالحها لا سيما الاقتصادية. بل أن الضالعين في هذه الصراعات هم أنفسهم يستدعون تدخلات الغرب أو روسيا (غرب مختلف قليلا) أو الصين ويتكئون على مواقفها أو تحركاتها ودعمها بعيدا عما يُمكن أن يكون العدل وحقوق الشعوب وحرياتها. بل يتم استثمار كل هذه وأكثر في الصراعات الكونية حول الموارد. فالغرب الأوروبي مثلا كان يحدد موقفه من الدولة الثمانية في حيه تبعا لحالة المسحيين في أرجائها. وهو معيار نراه نافذا اليوم في الحالة السورية. إذ يُستبعد أن يكون للغرب تدخله الأوسع طالما لم تضمن المرحلة المقبلة في سورية أمن مسيحيي هذا البلد! ومن هذه الزاوية يُمكن فهم تصريحات البطريرك الراعي المثيرة للجدل أو انعطافة جنبلاط الأخيرة نحو قوى 8 آذار!

الصراعات والمتغيرات الحاصلة هي في مصدرها الآن عابرة للدولة باتجاه المذاهب والأديان والأعراق أو عائدة من الدولة القومية إلى هذه المواقع. وقد يكون فيها أبعاد أيديولوجية أو طبقية أو قومية بفعل قوة الاستمرار أو لوجود هذه المركبات في واقع الحال، لكنها في جوهرها طاردة عن الدولة ومفككة لها. وهو ما سيكون أحد تحديات مرحلة الربيع العربي ومستقبلها. ففيما هذه الحركة ساعية إلى إعادة بناء الدولة الحديثة تعمل حلقات الصراع بين المذاهب والأديان أو بين المجموعات المهيمنة والأقليات أو المجموعات المستضعفة على تفكيك الدول ونثرها كحفنة من رمل في هواء الصحراء. ومن هنا قولنا أنه لم يعد ممكنا قراءة الأحداث بسوسيولوجيا الدولة القومية ومفرداتها. فالطاقة المولّدة للأحداث كامنة في مراجل أخرى وولاءات لكيانات أوسع أو أضيق، طاقات لها إيقاعها ومفاعيلها في كل ما نراه!

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. لاحظوا اخواني القراء (الدقيقة 1:25 في فيديو زياد أعلاه) : نفس الكذب يستعمله الاسد الاول وقتها – قصة “وجود متآمرين وعصابات مسلحة” في لبنان يريدون القضاء عليها.
    الان بشرفكم، الاسد الاول مات، والثاني طهبوب، لكان مين اللي بعدو بستعمل نفس الحجج القديمة اليوم في سوريا؟
    يمكن في عندهن “كتاب أخضر” بعثي؟
    ويمكن انو غير هالكذبة ما طلع معهن!

  2. وهذا هو زياد الرحباني يصف الجيش السوري العظيم:

    http://www.youtube.com/watch?v=m9rSg44I0Ys

    الى كل من لا يزال يتاجر بعسكر مبني على الطائفية (العلوية).

  3. كلامك صحيح جدا. فها هو “الوطني” نصرالله يكشف لنا اسرار سياسته:
    http://www.youtube.com/watch?v=K7USVPyEaMY

    الفيديو مهدى لمن لا يزال يتاجر برجال الدين كنوع من “التحرر” و “المقاومة”

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>