عندما يتحرّر الفلسطينيون من روايتهم!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي| تمرّ السنين فرادا وعقودا ويشتغل الفلسطين […]

عندما يتحرّر الفلسطينيون من روايتهم!/ مرزوق الحلبي

|مرزوق الحلبي|

تمرّ السنين فرادا وعقودا ويشتغل الفلسطينيون في العادة بالتذكّر وفي تاريخهم ما يُغري بالتذكر. نكبة وترحيل وتشرّد وغربة في المنافي وفي الوطن الصغير وذاك العربي الكبير واحتلال يُعاد إنتاجه. وقلّما خرجنا عن سكّة التذكّر وما عليها من محطات مظالم وبطولات ـ حتى لا تيأس الروح ـ إلى المساءلة والمحاسبة وهي أفعال عقل بامتياز. فإذ بالذكرى ألـ 64 للنكبة كالذكرى الرابعة أو العشرين. كأنه الزمن يمرّ فوق الفلسطينيين لا هم في الزمن أو عليه. التذكّر في حالة المهزومين نجوى وسلوى وبقاء على الأقلّ في دائرة المحقّ.

من هنا تلك الدوائر المغلقة حول الفلسطينيين في تعاطيهم مع تاريخهم قبل أن يصبح تاريخا ـ رواية ـ وبعد أن أصبح كذلك. لقد بدأ الفلسطينيون رحلتهم بكثير من إنكار ما هو مُقبل عليهم من مشروع صهيوني. فاستهانوا كجزء من استهانة المقيم الأصلاني بالطارئ ومن قبيل التسليم ببديهية أن ما كان هو الذي سيكون ومن غير الممكن حصول خلاف ذلك. وما أن انقلب الزمان والمكان وما فيهما من أمم عاربة وغاربة عليهم حتى انزوا في حلقة الضحية يندبون ويتهمون ويلومون حتى استطابوا الموقف تماما وسلّموا بكونهم ضحية للعالم المتصهين مرة وللعالم العربي الرجعي مرة وللمشروع الصهيوني مرة ثالثة. وهنا كان ـ ولا يزال ـ دورهم دور الراوي الذي لا يكلّ عن رواية الوقائع ذاتها، أو دور الشاهد، ما أن يسألوه حتى ينطلق بالحديث دون توقف. وما أن انبثقت الثورة حتى دارت في حلقة مفرغة للعمل المقاوم والمسلح! وظلّت تدور وتدور حتى أكلت أبناءها وناسها واستنفذت ذاتها في ذاتها. ولا يزال العمل المسلّح عقب أخيلس الذي إذا لم يقتل فإنه دون شكّ يشلّ الحركة في مساحة التاريخ الذي غيّر لغته مرات عديدة في تلك الفترة. ولم يتردّد الفلسطينيون عبر العقود الماضية كلها في رهن قضيتهم طوعا وليس جبرا فقط للمراكز العربية المناوبة وللأجنبية، أيضا كدوران آخر في حلقة منغلقة أصلا. فتضرروا وتضررت أكثر مما تحركت إلى أمام. وقد اتضح مرارا بما في ذلك خلال السنة الأخيرة أن الارتهان والرهان خاسران كاستراتيجية. ومع هذا فهناك مَن يصرّ على المضيّ في اللعبة ذاتها ناحية إيران وحزب الله الصدامييْن وسورية المتفككة. وأمكننا أن نقول اليوم وبكثير من الجزم أن مراكز عربية وعالمية وإقليمية ركبت على المسألة الفلسطينية أكثر مما ركبت هذه المسألة على متن هذه المراكز لتتقدم منها إلى أهدافها. بل أن مبنى القوى في هذه الناحية مال لصالح هذه المراكز على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته وإن كان لنا علم بالجدلية والتبادلية. المحصّلة النهائية هي دوس هذه المراكز للمسألة الفلسطينية وتثميرها ورقة في مشاريعهم التي لم ولا تتطابق في غالبية الحالات مع مصلحة الشعب الفلسطيني. ولأنها مشاريع خسرت وتداعت فقد كان من الطبيعي أن تأخذ إلى حضيضها فلسطين وقضية شعبها.

كل هذه الحلقات تشكل سقفا واطئا فوق رأس الفلسطينيين وقضيتهم. يخرجون من حلقة ليدخلوا في أخرى. وكل ذكرى نكبة مناسبة لرصد استعصاء هذه الحلقات على الاختراق. فلا زال هناك مَن يلعب الأدوار كلها ضمن هذه الحقات، من متذكر ومسكون بالتذكر على نحو مرضي، إلى شاهد يُدلي بشهادته بشكل ميكانيكي كلما طرح عليه أحد التحية، إلى عاشق للبندقية لا يتركها حتى في حالة الجماع مع حبيته، إلى مُغرم بتناول الفطور مع أحمد نجاد أو بشار الأسد، إلى مُنتشٍ بالنجاحات الإسلاموية في الانتخابات الأخيرة هنا وهناك عاقدا عليها أمله/رهانه مثلما فعل القوميون والاشتراكيون والشيوعيون الفلسطينيون من قبل مع انتشاءاتهم وإنشاءاتهم!

شيء ما ينبغي أن يحصل للفلسطينيين كي يغادروا المكان الذي وصلوه ـ أو ما برحوه! شيء ما ينبغي أن ينزاح، أن ينهار، أن ينجلي، أن ينتهي ليسجلوا بداية جديدة خارج الحلقات المذكورة. شيء ما يفتح أفقا في المدى المغلق. ربما لغة جديدة خارج اللغة المألوفة التي يٌبل الفلسطينيون عليها بحميمية وودّ فلا يرون أبعد من حدودهم/حدودهم. ولأننا لسنا في زمن المعجزات في كل ما يتصل بالأرض، لم يظلّ أمامنا سوى أفعال العقول وما استطعنا إليها سبيلا. وهي أفعال لا تشتغل بالإنكار بل بالاعتراف، ولا تكتفي بادعاء الحق بل تضع الخطة لتحقيقه، لا تفترض القضية في السماء وهي على الأرض ومن طين وقشّ، لا تستطيب ضحويتها بل تسعى للخروج من راحتها الضميرية، لا تُنكر وجود الآخر ومحرقته ومسألته بل تشتبك بها رافعة رأسها في الفضاء، لا تراهن على الآخرين بل على ذاتها وفاعليتها، لا تفترض إن كل الطرق تؤدي إلى الطاحونة بالضرورة بل تتلافى السير في المسالك الوعرة والمسدودة، لا تركن إلى قدسية كل الاستراتيجيات كجزء من قدسية القضية. الفلسطينيون بحاجة إلى أفعال تقرأ التاريخ الفلسطيني بالذات قراءة تفكيكية لا ترحم ولا تُبقي حجرا على حجر كشرط لدخول التاريخ من جديد ليس كما خرجوا أو أُخرجوا منه. أفعال تصوغ من جديد السؤال الوجودي الفلسطيني ضمن التاريخ وحركته ومستجداته، وتشتبك بعدتها المستحدثة بكل الوقائع بما فيها المسألة اليهودية وحق تقرير المصير والسيادة والعودة وفلسطين. لغة مغايرة بمفردات ونحو وصرف تعرّف الوجود الفلسطيني بحضوره وغيابه من جديد لتُنتج سياسة فلسطينية حيوية يتحرك فيها الفلسطيني بحرية أبعد من روايته وذاكرته.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

3 تعقيبات

  1. المشكلة في ما يقوله مرزوق انه متناقض تناقضا جوهريا إذ يطرح التبادلية والجدلية والانسانية والحداثة … الخ (كمقومات لخروج الفلسطيني من روايته) يفترض ان العمل المسلح هو النقيض الجوهري او الاساسي لها وهنا هو ابعد ما يكون عن الجدلية او التبادلية التي تقوم على ان كل شيء مرتبط بكل شيء وان كنت اتفق مع فكرة ان العمل الفلسطين ككل بحاجة الى نقد وصيانة وتثوير الا انني لا اعتقد ان هذا هو النقد المطلوب لانه دعوة للانسلاخ من الجلد ولا يستند الا على دونية الذات ورفعة الاخر اذ يقدمه ضمنيا كنموذج ناجح بالمطلق ويجب الاحتذاء به، ليس في البندقية ما يتناقض مع اي قيمة انسانية ايجابية او اخلاقية في حالة الدفاع عن الذات (المقاومة) وهناك كل التناقض فيها بحالة العدوان(الاحتلال)
    ابقاء الرواية والبقاء داخل الرواية ليس الاشكالية اذا كان العمل جار على قدم وساق في مجالات تقدمها وفاعليتها بل تركها والانضواء في الاخر وروايته (المحرقة) التي لا زال هناك جدل حول الصدق يها من الفبركة هو الاشكالي
    كما ان مرزوق يلجأ للتعميمات لا تدلل على انه جدلي او تبادلي ولا حتى بدائلي فان كان واقع القضية الفلسطينية الان متردي فهو بسبب وصول منهجيات شبيهة بما يدعو هو الية لان القضية الفلسطينية في السبعينيات واوئل الثمانينات كانت النقطة التي ينقسم فيه العالم الى قسمين المؤيد اكبر من المعارض على الرغم من كون البندقية شعارا لا منازع له في تلك المرحلة

  2. انسداد الافق امام الخيار التسووي الذي انتهجتهة منظمة التحرير وهو الخيار الجدي الوحيد الذي عملت عليه المنظمة قد يوحي بانسداد التاريخ امام الحلم الفلسطيني
    وباعتقادي ان تناول الصراع مع الصهيونية على قاعدة ان العنف المسلح قد استنفذ اغراضه ووصل لحالة فشل وان التسوية ممتنعة واننا بحاجة لمعجزة في زمن نفذت فيه المعجزات واستحالت
    ولعل المعجزة في هذا الزمن ستاتي عبر اعادة قراءة الواقع الموضوعي قراءة متأنية وعدم الانجرار امام الثقافة السائدة او التي اريد لها ان تسود
    علينا تثبيت ان المشروع الصهيوني في المنطقة لم ينجح بالمعنى الذي اراده اصحابه كدولة اليهود في العالم
    فلا استطاع جذب اليهود في العالم لتغذية الاستيطان ولا استطاع محو الهوية العربية ولا تهويد الارض
    وعلى صعيد التوسع وصولا لحدود يمكن داخلها انتاج دولة امنة واقتصاد يستطيع اعالة السكان فالكيان الصهيوني ما يزال عاجزا عن التخلي عن المنح الامريكية التي تمثل بمجموعها الدخل الاساسي وعماد الاقتصاد في المؤسسة العسكرية والمؤسسات المرتبطة فيه
    وعلى صعيد قدرة الكيان على التوسع فالاوضاع التي نشأت في لبنان بفعل المقاومة وعلى الحدود المصرية والسورية اصبحت اسرائيل التاريخية الحلم الصهيوني ضربا من الاوهام
    اما على صعيد ادارة الصراع في الجانب الفلسطيني فان فشلاً يجر فشل
    رغم التضحيات الجسام التي قدمها الفلسطينيون فان توظيف الطاقات وادارة الموارد تشهد مراهقة وضيق افق في السياسة الفلسطينية الرسمية و انجرار السياسة الرسمية لمربعات مكشوفة تقدم حلول لازمات المشروع الصهيوني وتصويرها على انها انجازات تاريخية للسياسة الرسمية الفلسطينية
    وتظهر تناذراتها بالواقع المبكي التي يعيشه شعبنا في الضفة وغزة وفلسطين 1948 داخل السجون وفي اجهزة القمع التي تمولها الدول المانحة باسم الامن الفلسطيني
    وتبدو دائرة التاريخ مقفلة
    وقد ادارت المنظمة تاريخيا العنف المسلح ليس كاستراتيجية كما ادعت بقدر ماهي رافعة لبرامجها السياسية
    حتى ظن البعض ان المنظمة قدمت على هذا الصعيد افضل ما لديها والمتتبع لليوميات في الاغوار ووادي عربة ثم في العرقوب والجنوب عموما يدرك الحالة الاستعراضية وبعدها عن الجوهر الذي يستهدف ايقاع خسائر حقيقية في قلب العدو واستنزاف اقتصاده وخلق حالة من التوتر تؤثر على الاستيطان
    ولعل عودة بروز المقاومة بنسختها اللبنانية اعاد المنطق الى صوابه عبر فعالية المقاومة وقدرتها على التأثير على طموحات الكيان ودحرها وسبباً في تواضع مشاريعهم
    اما اسهام العرب بالصراع فظل دائما يحاول القتال من الصفوف الخلفية بالادوات الفلسطينية وتحت الطلب في ادارة التكتيكات ضمن استراتيجية واحدة طمحت الى بناء ديكتاتوريات واسر حاكمة فاسدة واكتفت من الفلسطينيين كورقة في ترسانتها للمواجهات الاخلاقية الداخلية وللمساومة في المنعطفات مع الاخر
    مع الاقرار بان التجربة الناصرية انغمست في هذا الصراع ابعد من ذلك عبر تلمسها الخطر الصهيوني مبكراً في العدوان الثلاثي
    ولإن كان ناصر يحمل الكثير من النوايا الطيبة فإنه لم يبتدع اسلوبا ديموقراطيا في الحكم وترك الحبل على الغارب للعسكر ومراكز القوى لتعيث فساداوتطيح بالمشروع برمته على صعيد التنمية المجنمعية بمصر او في التزامها الدائم تجاه قضية فلسطين
    وعلى الرغم من الازمات الجدية التي تعاني منها الولايات المتحدة الامريكية على كل الصعد فإن الاداء العربي والارتهان مازال السمة المميزة للسياسة الرسمية العربية تجاه القضية الفلسطينية
    ومن الجدير ونحن نعيش تباشير التغيير في العالم العربي ان نذكر احدى الخطايا التي وقعت بها النخب العسكرية التي جاءت الى السلطة في الدول المركزية العربية وهي تقديم الصراع العربي الصهيوني شكليا وشعارتياً على كل المهام
    التنموية وتمدين المجتمعات ودمقرطة المؤسسات
    فلا انجزت هنا وخسرت هناك وانتجت ثيوقراطيات طفيلية خا رج سياق التاريخ فاصبحت عالة على القضية و كابح لقوى التغيير
    واخيرا فان الحال في اميركا لا يمكن مقارنته بالعقود المنصرمة فقد تراجعت قدرة الولايات المتحدة وانكشفت رزاياها وكاقتصاد طفيلي مترابط بدأ سقوطه كاحجار الدومينو وان كنا سنفتقد النكهة الامريكية الحالمة وتبشيرها باسلوب حياة يعود على مخترعيه هم بالحياة الرغيدة
    فان التقاليد الديموقراطية اذا تتوطد في عالمنا العربي لن نحلم بتغيير جدي في السياسات العربية
    وهنا لا نطلب نصرة مجانية من العرب بل نعتقد ان دولة تمثل شعبها وتسعى الى مستقبل كريم لا بنائها ستصدم لا محالة بالمشروع التوسعي العدواني الصهيوني
    ولا ادعو لانتظار درامتيكيات الاحداث بل الى اعادة توظيف الطاقات الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني
    وليس بالضرورة ان يكون الرئيس هو امين سر اللجنة التنفيذية وقائد حركة فتح والجنرال الاول والمعلم الاول
    وهذا الصراع بطيبعته صراع اجيال فليس لجيل ان يغلق الباب على جيل اخر وما انجزته المنظمة بقضها وقضيضها كان يستطيع انجازه شخص ما في الضفة باسمه الشخصي وكان في اروقة المنظمة يسمى عميل
    وهو غير ملزم من موقعه ان يوقع اعترافات باسم الشعب الفلسطيني كله
    ولا ان يوظف طاقات الشعب الفلسطيني بمواجهة بعضها
    الواقع هو الاصل وهذا الصراع واقعي جدا وسيكون له مفاعيله سيصحح الرؤى ويصوب الافكار ويدفن الاوهام

  3. نحتاج الى غاندي فلسطيني ، ابن القرن ال21، الذي يعرف ان استعمال البندقية لا يجدي امام انواع الاسلحة التي تفوق الخيال (يخترعها الامريكي ويعطيها لشقيقه الصهيوني)، وان استعمال العنف يعطي المستوطن الاستعماري الحجة لاستعمال كل ما لديه من وحشية.
    المعركة هي معركة المبادئ الانسانية امام القوة. وكما حصل في الهند وفي جنوب افريقيا، سيحصل حتما هنا، فقط حين نلقي البندقية ونقاوم بطريقتنا الخاصة.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>