من فقه الطغاة/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي| لا يستجيب الطغاة عادة لصرخات ضحاياهم.. لا […]

من فقه الطغاة/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

لا يستجيب الطغاة عادة لصرخات ضحاياهم.. لا يسمعونها ولا يعترفون بأنهم سمعوا بها، بجدواها او جدوى التسليم بأوجاعها. فما يشغل بال أولئك الذين اختارتهم الصدف وغرائب الاحداث لرعيً الرعية: ليس أحوال الرعية أو همومها، بل كيفية اختزالها في خانة دونية لا يُسمح لشاغليها بالقفز خارجها، او تحسين شروط البقاء القسري فيها على الاقل.. كما لا يجوز ولا يحق لهم الاعلان عن شكواهم ونقد مصائرهم البائسة، إذ تصبح الشكوى هنا في عرف الطاغية مصدراَ للاحتجاج. والاحتجاج هو المرتبة الاولى للتمرد. والتمرد هو الخطوة الاولى نحو التغيير. والتغيير هو المسمار العبقري في نعش الحالة المتردية، تلك التي يصنعها الطغاة ولا يؤمنون بوسيلة اخرى للتسيّد إلا عبرها. لهذا، ولأسباب عديدة اخرى يطول شرحها الآن، يسعى الطغاة عبر وسائل شيطانية متنوعة لوأد فكرة الشكوى في مهدها اصلاَ.

وأد فكرة الشكوى/التغيير او السعي اليهما هو الخطر المركزي الذي لا يمكن الاطاحة به عند الطغاة إلا عبر شيطنته ووضعه في الدرجة الاعلى للحرام. الحرام نقيض الحلال، كما الشيطان هو نقيض الله الابدي، والطاغية هو “رمز الحلال” المعمد بمرجعيات مقدسة وذات صبغة إلهية لا تُردّ: وليّ الامر هو، وهو أمير المؤمنين.. الحاكم بأمره.. الخليفة، وغير ذلك من ألقاب ومزايا تتمثل روح الله على الأرض وتماثلها!

ساوى الطغاة العرب، وعلى مر الحقب، بين حضورهم في الوعي الجمعي لرعيتهم، وبين حضور الله في ذلك الوعي: هناك العشرات من الامثلة الدالة في التاريخ العربي الاسلامي على امثال اولئك الطغاة الذين اخترعوا فكرة التساوي تلك وثبتوها على الارض. لعل القذافي هو الدليل الحديث على امثالهم وهو اختصارهم الفعلي كذلك، فقد عمل -القائد- مستفيداَ من تراث الطغيان العربي الكبير: على الرفع من ذاته، لأربعة عقود متواصلة، الى حدود الهية قصوى نعرف من حسن الحظ نهاياتها اليوم، ونعرف ما خلفته من كوارث في البلاد.

سوف تفتح فكرة التساوي اعلاه بين الطاغية وربه البابَ على وسعه امام انتاج ما هب ودب من طرق يصادر عبرها الطغاة حقوق رعاياهم ويحددون، الى هذا وذاك، مصائرهم. وبصرف النظر عن طبيعة تلك المصائر او تجلياتها فالعلاقة القائمة بين الطاغية وضحاياه، هي الانعكاس الفوري لتعويذة الطاعة العربية الاثيرة: طاعة ولي الامر وهي طاعة عمياء تستعيد وتتمثل دائما طاعة العبد، التي لا تكون الا عمياء، لربه. ولا يصح نقدها او العمل على زوالها بالتالي، وإلا فالوقوع في حبائل الشيطان/الحرام هو المصير الوحيد المُنتظر! فكيف يمكن للرعية، والحال هذه، ان تشكو أربابها او تتمرد عليهم، والى حدود الرغبة بتغييرهم ايضا؟

يستفيد الطغاة، كما كان حالهم دوما، من قداسة فكرة التساوي تلك.. انها الالية الناجعة والمجربة لبسط الحكم، الى كونها البذرة الثقافية والروحية المكونة لفلسفة ذلك الحكم بالمجمل. كما هم مستفيدون، والى مستويات هائلة، من فكرة الطاعة، وليدة الفكرة الاولى ونتاجها المنطقي. وكانت فكرة الطاعة العمياء هذه قد لعبت، وتلعب اليوم، دورا هاماَ في حماية وتثبيت اعداد كبيرة من الطعاة الجدد: اولئك الذين لا يعثرون في تراثهم الشخصي والعائلي على مسوغات دينية تفرض حق طاعتهم، خلفاء، امراء، ورثة انبياء. فيذهبون للبحث عن مسوغات ثانية تحمل هي الاخرى هالتها المقدسة فوق رأسها وتفرض، تالياَ، حق طاعتها. بطولات قومية خارقة… مزايا فردية ساحرة لا تبدأ من قدرة الطاغية/الحاكم على قيادة الجيوش في معارك جرارة والانتصار المعتاد على الاعداء، ولا تنتهي عند قدرته على زراعة صحراء القمر، بل تتعدى الامرين إلى مجاهل هلامية عديدة، سوف تجتمع لتشكل معا تلك الصفة الخرافية الشهيرة: القائد الاب. الاب الذي يفرض حضوره، بحسب الثقافة العربية وانسجاما مع تعاليمها؛ دوافع  الخوف والاحترام وليس التقد او الالغاء. يحضر المخلوع المصري الان مبارك كنموذج صارخ يستدل به المتلقي على الرديء والهش من فكرة الطاغية/الاب والبطل، فحين شعر المذكور بدنو الاجل الطويل لسلطانه لم يجد ما يعول عليه لدى العامة/الرعية سوى العمل على تاكيد فكرة الاب الذي لا يصح ان يُهان ولا يصح بالتالي عزله او المساس بعرشه المقدس! ناهيك عن التغني المُستعاد بعبقرية الضربة الجوية الاولى التي قاد او يُفترض! وهي ضربة بلا اهمية تذكر (إن صحت اصلاَ) حين تُقاس بحجم تأثيرها العسكري على الارض! وهي، إلى هذا وذاك لا تقول لنا، كما لا يقول لنا فقه الطغاة الذي انتجها كيف نجمع بينها وبين طغيان صاحبها وفساده في البلد.. كيف نبرر بها، وبالكثير مثلها، مما هو مُتخًيل وغير صحيح بالمطلق من بطولات قومية او فردية خارقة للطغاة العرب قمعهم الوحشي لشعوبهم.. تغولهم، ومصادرتهم لكل صفات الحياة !؟

انتجت الحياة العربية، استطراداَ نماذجها اللافتة والحاضرة للطغيان والطغاة: القذافي (تأليه الذات المُسيطرة)، مبارك (تقديس فعل البطولة المزعوم)، ثم عادت لتنتج هذا النموذج الفريد، غرائبي المرجعيات والمسوّغات في سوريا. فهناك، حيث لا يملك الطاغية ما يعمدً به حاضره او تاريخه من مزايا وبطولات فردية، ولا يستطيع العثور على تعاويذ دينية تبرر حكمه (خلافة، قرابة إلهية ما، الخ..)، الى كونه لا يزال بعيداَ، بحكم العمر، عن ارتداء معطف “الاب القائد”، هناك.. يعمل فقه الطغاة بجهد لافت على اكتشاف ايقونة حكم جديدة للولد الذي ورث الحكم وأصبح فجأة طاغية. فإذا كان ولا بد من ايقونة مقدسة لكل طاغية عربي، فلتكن ايقونة السوري اذاَ مميزة وصارخة بقدر ما هي جوفاء في الواقع وبلهاء ايضاَ: أيقونة المقاومة!

لا يفسر لنا فقهاء الطغاة في سوريا سرّ تلك المقاومة السحرية وغير المرئية ابدًا، ولا يدلنا عليها وعلى ما انجزته في الواقع، ولا كيف تصبح تلك المقاومة المُتخيلة أيقونة على رأس الطاغية/ العائلة/ النظام… ولماذا لا تصح المقاومة او تجوز الا عبر ارتباطها الحتميّ بإقصاء الناس واصطياد حرياتهم؟

لا يجيب الطغاة الجدد ابطال الخرافة، ولا يجيب طغاة الكتب، اولئك الآلهة… لا يجيبون ولا يقدرون  بالطبع. تلك هي سماتهم الاصيلة، وبصرف النظر عما يحملونه من صفات رديفة، خلفاء، امراء، اولياء، آباء، ابطال، وتلك هي باختصار سمة العلاقة القدرية الصارمة للطاغية بالرعية بشكل عام.. وهي العلامة الفارقة في فقه التسلط العربي برمته بصورة خاصة. فلدى العرب، على ذلك الصعيد، ما ليس لغيرهم من مواجع وعذابات، ولديهم ما لا يعد او يحصى من اسباب الشكوى والنقد والبحث عن وسائل التغيير.. فقد تقودهم الطريق يوما إلى امتلاك آليات خلاقة يُنزلون عبرها طغاتهم عن عروشهم المجاورة لعرش الله: إلى منازل أرضية.. حيث يمكنهم حينها إعادة إنتاج ثقافتهم، أو تنظيفها على الأقل من مخزونها القبيح: من فقه الطغاة.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>