تحية “بسطارية”../ نجمة علي

كيف لنظام لا يعرف من الحرية سوى أحرفها، نظام يقمع مواطنيه أن يقف على رأس الحربة في عملية التحرر من الاستعمار؟ كيف لسلطة تعتقل وتضرب مواطنيها، أن تكون حاملة لمشروع تحرر وطني يضمن إنهاء الاحتلال؟ إن هذه الازدواجية و ان دلت على شيء، فهو المأزق بين الفكر والممارسة.

تحية “بسطارية”../ نجمة علي

| نجمة علي | 

*في ظل شرعنة القمع السياسي والفكري*

يعتبر “البسطار” المحلي من اهم آلات الحسم السياسي في بلادي. فهو يدوس على كل “المعارضين” و “المضللين” بهدف الحفاظ على “السلامة العامة” التي تعتبر طبعا “مصلحة وطنية” من الدرجة الاولى.
للأمانة، إن البسطار، المحلي الصنع  يدوس بشدة ودون أي تردد، تاركا خطوطا مائلة على الوجه كنوع من ترك الاثر او “التعليم” بالعامية.  هذه الخطوط اتوه بها عندما ارى انعكاس بدايتها في المرآة، وافشل في كل محاولة  بالوصول الى نهايتها.
للتوضيح فقط،  في بلادي كل شيء هادئ  والوضع تمام التمام. لا وجود للمعارضة. لأنه لا يوجد ما نعترض عليه اصلا ولأننا نعمل بالمثل القائل “القناعة كنز لا يفنى” ونحن مقتنعون بقدرنا وحالنا وحكامنا.
في بلادي الواسعة مصنع بساطير كبير له فروع  في كل مكان، في المقهى والجامعة ومحطة الباص.
في البيت، وعلى صفحات الجريدة وعلى الحدود الفاصلة بيننا وبيننا.
والبسطار يا سادتي يحمينا ويحافظ علينا من “البساطير الخارجية” المتربصة لَنا.  لا يهم ان كان الثمن حجب الشمس عنا لسنوات عديدة، تكون كافية لإقناعنا بان الحريات الشخصية ما هي إلا “إكسسوار” نستطيع الاستغناء عنه.
في بلادي كل شيء تحت السيطرة. لا وجود للفوضى او للفلتان الأمني، فقانون الطوارئ كفيل بحمايتنا والقضاء على الاعشاب الضارة التي تظهر هنا وهناك.
قانون الطوارئ يضمن سكوتنا ليتسنى لحاكمنا التنعم بالهدوء والتأمل في مستقبل البلاد دون أي شوشرة تعكر صفو مزاجه.
في بلادي الجميلة يوجد اكتفاء اقتصادي ذاتي ولا نحتاج لمساعدة او لدعم خارجي.
وكله طبعا، بفضل “البسطار”.
عاش البسطار، عاش عاش عاش.
وسحقا للخائنين الذين تجرأوا على سيدهم وحافظ امنهم “البسطار” .
سحقا للخائنين الذين رفعوا ايديهم ليحموا وجوههم وأعينهم في محاولة جريئة منهم للحفاظ على ملامحهم ورؤيتهم.
سحقا للخائنين الذين رفعوا صوتهم منددين بسطوة البسطار وجبروته، لأنهم لا يعلمون بأن البساطير الأجنبية متأهبة في انتظار اي فرصة او همسة .
سحقا لمن يطالب بالحرية والعيش بكرامة، لأنه شعار فارغ ينكسر عند مواجهة الواقع وخصوصا في ظل “الشرق البساطيري الجديد”.
وتأكيدا على كلامي ودعمي للبسطار، استذكر وصية الشاعر امل دنقل حين قال:
“ان رأيتم طفلي الذي تركته  بلا ذراع
علموه الانحناء
علموه الانحناء
الودعاء الطيبون هم الذين يرثون الارض في نهاية المدى
 لأنهم لا يشنقون
فعلموه الانحناء “
لقد قمت بالعمل بوصية امل دنقل وعلمت ابني، خوفا عليه من الشنق، الانحناء.
علمته الانحناء حتى تقوس ظهره وأصبح وجهه في الارض مباشرة.  لم يستطع رؤية البسطار القادم امامه ولم يملك خيار الاختباء او الدفاع عن نفسه، لاني لم اعلمه سوى الانحناء.
سحق حتى اخر نفس ولم يرث الحياة كما وعدني امل دنقل،  بالرغم من كونه انسانًا وديعا وطيبا.
ابني، كان يحلف بحياة البسطار رافعا صوره في جميع المحافل مؤكدا ان البسطار ولي نعمته وسيده الابدي.
ابني لم يرث اي شيء، سوى الخطوط المائلة التي شوهت ملامحه ونفسه.
صديقته “زينة” كانت بجانبه شاهدة وضحية في نفس الوقت. قالت لي في لحظة اعتراف:  “كان “البسطار” يدوس بكل قوة على ما تبقى مني. لم استطع تمييز نوعه او حتى لونه. في الحقيقة لم يعد يهمني ان كان لونه اخضر او احمر او ازرق ، فكل البساطير بالنسبة لي نفس الشيء . في المحصلة النتيجة واحدة . كل ما يهمني الان هو المحافظة على عيني “اليمنى”، لان “بسطارا” اخرا  في هجوم مسبق، وفي لحظة سهو مني ،فقأ عيني “اليسرى”
ونعم، استطاع البسطار ان يسرق مني نظرتي اليسارية”..
وفي لحظة انكسار، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة .
وكم نصبح مخيفين ان فكرنا.
كم نصبح مخيفين عندما نرفع رأسنا مرة.
ملعون انت الى النهاية ايها البسطار، يا من جعلتنا اسرى جبروتك
ملعون انا وأنت ونحن جميعا لأننا رضينا بأن نكون مداسا لك، تركناك تتسلق على اجسادنا وتوجناك مليكا علينا.
وبعد ان دستنا وأصبحنا “منداسين” بحثت عن طريقة لتبرئ ذمتك، فمحوت “الالف ” من ابجديتنا ووعينا لتجعلنا “مندسين”
وبعد ان قتلت جميع فرسانك وعلقت جميع المقاتلين على المشانق وملأت السجون بأبنائك ، بقيت وحيدا على عرش من عظام تتآكل.
خلاصة الكلام: لا احد ينكر ابدا وجود المؤامرة التي تحيك خيوطها كالعنكبوت على جسد العالم العربي. لا احد ينكر ان البلدان العربية كانت ولا زالت محط مطامع القوى الامبريالية والغربية والخليجية وكل المسميات المطروحة .
لكن في نفس الوقت، لا احد يستطيع الانكار أيضا، أن الأنظمة العربية من المحيط الى الخليج، من الشمال الى الجنوب- خيبتنا الاولى والأخيرة.
أنظمة أنهكت شعوبها وجعلتهم اسرى للخوف والتردد والتأتأة.
عندها يسال السؤال حول هوية المتآمر الحقيقي على الشعوب العربية؟
وهنا اشير بسبابتي دون تردد على الانظمة العربية التي حاصرت شعوبها وأرهبتهم، خنقت الإبداع فيهم وجعلتهم آخر الراكبين في قطار التطور. هذه الأنظمة لفظت اغلب مفكريها ومثقفيها خارج حدود الوطن. هذه الانظمة بنت سجونا ومعتقلات لتحافظ على وجودها وفقط وجودها الذي ارتبط بالمصالح الشخصية للفئة الحاكمة والمنتفعة،  متناسين انه ليس بالظلامية والرجعية واغتيال الفكر تبنى الامم. متبنين عقلية البسطار التي شرعنت القمع والبطش السياسي. وفي خضم نظرية المؤامرة يطلب منا غض النظر عن هذه العقلية التي طالما خرجنا الى الشوارع نندد بها، مطالبين انفسنا بالتحرر منها.
كنا نطالب بتحرر العقول ايمانا منا بأنها الطريق الى تحرر الشعوب.
لم نكن ساذجين حينها. لكن السذاجة هي ان نظن ان الطريق الى الحرية يمر عبر شارع  سريع، معبد بالإسفلت ومحدد ذي  اتجاه واحد. الحرية ليست مطلبا رومانسيا نردده في الاغاني بل هي نهج حياة نسعى كتقدميين لترسيخه. لذلك لا يمكن التنازل وغض النظر الى ان يصل الشعب “لنضوجه السياسي” كما يدعي البعض، كي يستطيع التحرك. لان امكانية النضوج السياسي في ظل شرعنة القمع واستباحة الحريات، شبه مستحيلة تقريبا.
الاحتلال الاسرائيلي موجود، هل هذا مبرر شرعي لعملية القمع التي يتعرض لها شبابنا وصبايانا في ظل السلطة الوطنية الفلسطينية لكونهم يفكرون بصورة مختلفة ويسعون لخلق صورة سياسية مغايرة؟
المؤامرة الغربية والتكالب العربي الخليجي موجود، هل هذا يبرر وجوب بقاء النظام السوري القامع؟
كيف لنظام لا يعرف من الحرية سوى أحرفها،  نظام يقمع مواطنيه أن يقف على رأس الحربة في عملية التحرر من الاستعمار؟ كيف لسلطة تعتقل وتضرب مواطنيها، أن تكون حاملة لمشروع تحرر وطني يضمن إنهاء الاحتلال؟
إن هذه الازدواجية و ان دلت على شيء، فهو المأزق بين الفكر والممارسة.
لذلك لا استطيع الأخذ بيد أنظمة قامعة ومساعدتها في تخطي محنتها. لأن الولاء الأول والأخير يجب ان يكون للمصلحة العامة. هذا ما علمني إياه البسطار. ولقد ادركت بعد فترة، بوجود فرق كبير بين البسطار وبين الوطن.
لان الوطن لا يمكن ان يدوسني.
الشعوب العربية لا تخوض اليوم عملية تحرر سياسية فقط انما تخوض عملية تحرر كاملة من المبنى الهرمي البسطاري وكل تداعياته المفروزة عنه، الطائفية والعصبية القبلية.  وهي تحوي ما تحوي من اختلافات وخلافات ورؤى متعددة، تماما مثل مجتمعاتنا المليئة بالتعددية والتي نتعامل معها بسلبية لان النظام السياسي لم يخلق الاطار الجامع الذي باستطاعته ان يحوي جميع المواطنين على اختلافهم السياسي الفكري والطائفي والمذهبي. بل اتبع سياسة فرق تسد ليحافظ على هيمنته. لذلك استغرب من المفاجأة التي تعتري وجوه بعضنا عند سماعنا خبر مذبحة بحق طائفة او مذهب. اليست هذه النتيجة الطبيعية والمباشرة لسياسة “اقمع تسيطر”؟
المعذرة امل دنقل ولكني افهم شيئا واحدا:
ايها الشعب  المصري والتونسي واليمني والبحريني والسوري والفلسطيني:
“ليس سوى ان تريد، انت فارس هذا الزمان الوحيد”، مهما كثر المتآمرون.
وعندما يشبع التاريخ منا بعد ان يلوكنا عدة مرات سوف يلقينا على الهامش لتبقى ارادة الشعب البوصلة الوحيدة- على هامش الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والغاز والنفط.

عن صحيفة “الاتحاد”

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>