مشهد من النقب/ سعد أبو غنام

|سعد أبو غنام| قبل أيام قليلة قام سكان النقب البدو بمظا […]

مشهد من النقب/ سعد أبو غنام

|سعد أبو غنام|

قبل أيام قليلة قام سكان النقب البدو بمظاهرة في مدينة بئر السبع احتجاجا على مخطط برافر الذي يهدف إلى تنازل البدو عمّا تبقى من أراضيهم والانتقال إلى السّكن في تجمعات سكانية تحاول الدولة فرضها عليهم. الذي نعرفه أنّ “أولي الأمر” أو المنظمين لفعاليات مقاومة مخطط برافر من منظمات المجتمع المدني او احزاب او حركات سياسية او لجنة المتابعة القطرية، كل هذه لم تعلن عن أيّ نوع من الإضراب.

ولكن كما يحدث دائما في القرى البدوية اختلط الحابل بالنابل وانتشرت شائعة بوجود إضراب وأقسم البعض أغلظ الإيمان بأنهم سمعوا خطيب المسجد يوم الجمعة يعلن عن الإضراب ويحث الآباء على عدم إرسال أبنائهم إلى المدارس. وفي المدارس نفسها وقبل المظاهرة بيوم واحد انتشرت الشائعة نفسها: غدا إضراب افرحوا, غنوا! وكأن الامر يقض مضاجع طلاب المدارس المشغولين بمرطبات الشعر وسراويل الكروكر وأجهزة الايفون أكثر من الارض والعرض.

المهم: حتى يوم الاثنين صباحا لم يصدر أي خبر أو إعلان من أي جهة رسمية عن أيّ نوع من الإضراب وفي ذلك الصباح فوجئ المعلمون في المدارس بوجود عدد ضئيل من الطلاب لا يتعدى العشرين في المئة في عدد من المدارس. إنه الإضراب. أما أنا فقد أرسلت أبنائي إلى المدرسة ونقلت ابنتي إلى الروضة لتنهل من العلم الصافي. وفي الساعة الثانية عشرة ظهرا من نفس هذا اليوم، “يوم مظاهرة البدو الكبرى”، هاتفتني معلمة الروضة. نعم الروضة اياها التي ترتع فيها وتلعب ابنتي الصغرى، تخبرني بأنّ ابنتي هي الوحيدة من طلاب وطالبات الصف التي حضرت وبسرعة يمّمت وجهي شطر الروضة وأخذت ابنتي إلى البيت بعد ان “عاتبت” معلمة الروضة قائلا: لماذا لم تهاتفيني في الصباح؟ لماذا ابقيت ابنتي إلى هذه الساعة وحيدة ترتع في هذه الفيافي الخضراء؟ لكن المعلمة هدأت من روعي وقالت ان البنت لعبت واستغلت وقتها في قراءة احد كتب نيتشه الفلسفية، فهدأت وسكتّ وعدت إلى داري راضيًا مرضيًا وكانت ابنتي العفريتة تقهقه وتقول إنها شربت النسكافيه مع المعلمة.

مرحى مرحى.. وهكذا أقول في نهاية هذه القصة “يضرب هيك اضراب”! إنّ هذا التخبط الذي نقبع فيه والحيص بيص الذي نغرق فيه دليل على سوء الحال والمآل فاحذروا يا قوم! ودليل على أننا قضية خسرانة منذ البداية إلى النهاية. أين هو الوعي, التظيم, متابعة الاخبار, فهم الامور؟ انه تخبط في تخبط او خبط لزق.

لكن الشيء الذي يؤرقني حقا هو: أين خطيب المسجد الذي تحدث عن الاضراب؟ أريد أن أراه! ولكنني اقول في النهاية: أتريدون دليلا على ان القضية مبيوعة؟ أتريدون دليلا على أنّ حاميها حراميها؟ هذا هو. أتريدون دليلا على سخافة المتشدقين بالربيع البدوي؟ على “نزاهة وصدق ووطنية” زعامتنا المحلية الطفرانة؟ هذا هو الدليل.

هذا التخبط وحالة الهرج والمرج تسود أنحاءنا، فبتنا لا نميز الغث من السمين. إنه زمن الرويبضة، إنه زمن لكع بن لكع.. ورحمك الله يا صاحب المتشائل..

(كسيفة)

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

2 تعقيبات

  1. يا سعد
    قديما, في زمان عرف خطأ بالجاهلية, كان أجدادك وأجدادي يمشون فوق بحر من الرمال يسمى اليوم “صحراء” وفي ذلك كما تعلم تحديد جغرافي قصد به أولا تعريف اثني, قديما, كان أجدادنا عند خروجهم إلى الحرب يتبعون تكتيكا جعله التاريخ لصيقا باسمهم إلى يومنا هذا عرف بالاسم الشهير: “الكر والفر” رغم انه كان يمكن اختصار الأمر بكلمة واحدة, هي: “عليهم”.
    وفي ذلك يا صديقي بعد بصيرة لا تخفي على احد, حيث أن الشدة تتطلب الحيلة وفي الخلط ما بين التكتيك والإستراتيجية ما يكفي لبلبلة العدو إلى حين تصبح فيه البصيرة المعاكسة عديمة الجدوى, إلا إن الكر والفر يتطلب شرطا ملازما لساعة الشدة. هذا الشرط هو الشجاعة, وهذا يا عزيزي شرط فقد في بحر الرمال منذ ان حزم امرؤ القيس أمتعته باحثا عن من يأخذ بثأر ابيه بعد ان خذله ابناء عمومته. اما وقد انتهى امرؤ القيسالى ما انتهى عليه, فعلى ما يبدو ان نهايتنا ستكون ايضا على انتهى عليه, فبعد ان انتهى عصر الجهالة وعبرنا الى الحداثة والى ما بعدها ومررنا بعصر التنوير والنهضة, واصبح الابتذال سمة السياسة اليومية, كذلك اصبح الجبن قيمة اخلاقية, فهو كما تعلم ليس مرادفا للخوف, بل مرادفا لانعدام التجربية. اي انعدام الشجاعة. فلا غرابة اذا ان تجربتنا المقاومة العربية في الداخل تنقصها الاستراتيجية والتكتيك, فلا شك اننا شعب مغرما بالمظاهرات, ولا نعرف لماذا, لماذا نتظاهر, اصول المقاومة تفترض التنسيق والتخطيط, لكننا نجتمع لترداد شعارات لا يعرفها الا نحن. ليست صدفة اننا ننهي تجمعنا بالاستماع للخطابات, نتفرق, كأن قادتنا الى المعركة عندما ينهون كلامهم الينا يتوجهون الينا بتعليمات بالشيفرة السرية بما معناه: انسحبوا.
    هل كنت تتصور انه سيأتي يوما ستشتاق فيه الى ابي ليلى المهلهل؟! ها قد اتى…

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>