عن سوريا والربيع العربي: ربيع الخريف… خريف الربيع (2-2)/ سميح غنادري

|سميح غنادري| لم تنشأ المعارضة الشعبية الوطنية السورية […]

عن سوريا والربيع العربي: ربيع الخريف… خريف الربيع (2-2)/ سميح غنادري

|سميح غنادري|

سميح غنادري

لم تنشأ المعارضة الشعبية الوطنية السورية لنظام الحكم بفعل مؤامرة غربية أو رجعية عربية، فموبقات النظام الأسدي البعثي هي التي أدت إلى ظهورها. بناء عليه، النظام هو المسؤول الأول عن مأساة الشعب السوري وتأزيمها دمويّاً، وتشريع الأبواب أمام بدائل رجعية داخلية ومؤامرة أجنبية وحرب أهلية وتدخـّل عربي رجعي وأجنبي. لذلك، فأي حلم لبشار الأسد وأركان نظامه بالانتصار عن طريق المزيد من القمع الدموي… هو وهْمٌ مدمّر سيطيح بالدولة وسمعتها ومقدّراتها وسيوسّع هوّة الشقاق بين شعبها. لن ينتصر النظام عندها، بل بالتأكيد سينهزم الوطن.

إذا ما زال بشار الأسد عروبيا ووطنيا وممانعا حقاً، فليعترف أولا بوجود أزمة داخلية أنتجها نظامه. أزمة لا يكون حلّها بالمزيد من الثرثرة عن الإصلاح دون فعل، ولا بالمزيد من القمع الدموي، وتوجيه الاتهامات للمؤامرة الخارجية وللرجعية العربية وجامعتها الخليجية كمسبب أساسي لها، وتوكيد إمكانية انتصاره عليها. إذ ما من حل سليم ولا من مخرج إلا باعتراف النظام بمسؤوليته عن المشكلة، وتشخيصه لأسبابها، والاستعداد لمعالجتها جذرياً. يتم هذا العلاج من خلال الإصغاء للناس والحوار مع المعارضة لوضع وتنفيذ تسوية داخلية متفق عليها معها، مع جدولة لتنفيذها السريع.

وكانت المعارضة السورية قد طرحت، على مدى شهورها الأولى، أجندة إصلاحية وطنية لاقت التعاطف الشعبي داخليا وعلى صعيد الشعوب العربية عموما. يومها تمحورت مطالبها حول الإصلاح للنظام الحاكم وإقامة مجتمع مدني ديمقراطي وعادل، واختيار النضال الجماهيري المدني والسلمي أداة ونهجا لحراكها. هذا إلى جانب رفضها لعسكرة انتفاضتها وللتدخل الأجنبي في شؤونها- عربيا رجعيا كان أو تركيا وغربيا. كذلك حرصت المعارضة يومها على الوحدة الوطنية للشعب السوري، وعلى رفض الطائفية والصراع المذهبي الأصولي الديني أداةً وشعاراً لكفاحها ضد النظام الاستبدادي والقمعي السائد.

من جهة أخرى نلاحظ، وعلى ضوء مستجدات الأشهر الأربعة الأخيرة- (أوردناها في القسم الأول من هذا المقال)، أنه تجري محاولات خطيرة لاختطاف تلك المعارضة التي تعاطفنا معها، وأن سوريا تشهد فرزا حادّاً وخلافا بين مختلف فصائل وأطياف المعارضة. وتبرز مؤخرا معارضة جديدة أصبحت هي المهيمنة على الحراك الاحتجاجي في الأسابيع الأخيرة. وذلك بخطابها وبشعاراتها وممارساتها وباستجدائها للأنظمة الرجعية العربية الاستبدادية وللدول الغربية الراعية والحافظة لتلك الانظمة… لنصرة الديمقراطية والإصلاح في سوريا عن طريق محاصرة الوطن السوري والتدخل العسكري، عدا عن دعم عسكرة الحراك الاحتجاجي.

أيّ معارضة هذه؟

نعتقد أن هذه “المعارضة الجديدة” رجعية وخطيرة بأجندتها وشعاراتها وممارساتها وبارتباطاتها الخارجية، وبترديدها لهتافات ولخطاب عنصري وطائفي ظلامي يتستر بالإسلام الحق وهو منها براء. ونستدرك مؤكدين أننا لا نغسل بهذا أيدي النظام السوري من مسؤوليته عما يجري في سوريا، وأيضا عن هذا الانزلاق الخطير للمعارضة. فالنظام الفاسد والاستبدادي الذي لا يُصلح ذاته، والذي يلجأ للعنف العسكري “لحلّ” قضايا مدنية حارقة طال زمن انتظار حلّها… هو الذي يؤدي إلى ظهور هكذا بدائل خطيرة. لكن هذا التبرير لا يعني ولا يستلزم استمرار تعاطفنا مع معارضة جديدة خانت نهج وأجندة بداياتها. بل من واجبنا وواجب ومسؤولية المعارضة الوطنية الحقة أن تحذر وتحذّر، هي وعموم الشعب السوري، من نهج لجناح مهيمن في المعارضة اليوم قد يقود إلى إسقاط الوطن السوري بين براثن المخطط الأطلسي- الخليجي.

قد يكون المفكر والشاعر السوري الكبير أدونيس (وغيره من مثقفين كبار) بالغ في تصريحه، قبل شهور، بأنه لا يستطيع الوقوف إلى جانب معارضة تنطلق من الجوامع ويقودها المشايخ. لكن بالتأكيد يصعب إلى حد التعذر على الوطني، يساريا اجتماعيا كان أم قوميا ديمقراطيا أو ليبراليا، أن يدعم معارضة (بغض النظر عن مكان انطلاقها ونوعية قيادتها) تلجأ إلى العنف العسكري وتغتصب الدين وتحزبه بعد أن تشوّهه، وتهتف: “العلوي للتابوت والنصراني لبيروت”، و”نسوانهم للكيف ورقابهم للسيف”، و”لا إيران ولا حزب الله، بدنا مسلم موحد الله”…الخ من هتافات أخجل واقشعرّ من مجرد مواصلة تدوينها.

هللنا لمعارضة وطنية تقدمية وموحّدة دعت لتشييد نظام ومجتمع مدني عادل وديمقراطي تعددي، علماني وحضاري. لا لمعارضة متفسخة تسيطر عليها قوى متخلفة ومدعومة، وإلى حد ما موجهه ومُقادة، من ثالوث السعودية وقطر وسائر قوى الرجعية العربية ، والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وعثمانيي سلاطين تركيا الجدد. لم نهلل لمعارضة تريد بالذات الطعن بوحدة المجتمع السوري وبطابعه القومي العلماني بدلا من إصلاحهما ودمقرطتهما.

دعمنا معارضة نشأت على التربة الوطنية السورية وفي سجون النظام. لا معارضة تولي عليها دول الخليج وتركيا وفرنسا مثقفين مغتربين ومنشقين وإخواناً وسلفيين إسلامويين، وتتعاون مع فاسدين أمثال جماعة رفعت الأسد وعبد الحليم خدام. وتجعل من برهان غليون، الذي كما يظهر خان كتبه التي ألفها في باريس عن العلمانية وضد الأصولية، رئيسا لـِ “المجلس الوطني للمعارضة”. وهو مجلس بغالبية أعضائه لمغتربين “ولمثقفين” مهزوزين وأخوان ثابتين شكلتّه ورعته تركيا وفرنسا وقطر في الأساس، مستثنين سائر أطياف المعارضة التي رفضت تمثيله لها. اللسان لسان المثقف برهان (وهو ليس أول ولا آخر مثقف يباع ويُشترى…) واليد والفعل للأخوان ولعواهل (عواهر) خليج العربان وللعثمان.

تحمسنا لمعارضة سلمية ومدنية تشلّ عنف السلطة بنضالها الجماهيري، لا لمعارضة تعسكر ذاتها. من تركيا يعلن رياض الأسعد تشكيل “المجلس الوطني العسكري” للثورة (؟!). و تمهّد جامعة دول الخليج الأمريكية الطريق بقراراتها الفضائحية لتدخل دولي عسكري. أما أردوغان، فيلوح بإقامة مناطق عازلة على الحدود مع سوريا وداخلها (قواعد عسكرية لجيش التحرير). ويستدعي المرشد السوري للإخوان المسلمين نجدة عسكرية “صليبية”. (يذكرنا هذا الأمر بما فعله بعض أمراء المسلمين في فترة تآكل الخلافة العباسية وبؤس الحال العربية والإسلامية، حين استنجدوا بحملات الفرنجة “الصليبية” ضد أبناء شعبهم ودينهم في سبيل ضمان حكمهم وسيطرتهم على بعض الإمارات مقابل خدمتهم للغزو الفرنجي، وذلك قبل ما يقارب الألف عام. وكانت تلك حملات لاحتلال وتفتيت الشرق العربي وللقضاء على الإسلام في الديار المقدسة).

لذلك كله أعلاه، وعلى ضوء لجوء “المعارضة” لأعمال عسكرية هجومية على مواقع وثكنات عسكرية محصنة للجيش السوري وقتل مئات الضباط والطيارين والجنود، أصبحنا نتساءل: هل يجري إعداد الوضع لجعل سوريا “ليبيا رقم 2″ أو ثلاثة (بعد العراق)، يحتلها “الناتو” ويقود “ثورتها” الوطنية و”يدمقرطها” بغطاء ومساعدة ومشاركة ملوك وسلاطين الخليج؟! وإن كنا نعتقد أن سوريا ليست ليبيا (بموقعها الجيواستراتيجي وبقوتها وبحلفائها في المنطقة القريبة وفي العالم). لكن بإمكان تدخل عسكري محدود وحصار اقتصادي ودبلوماسي وتغذية حرب أهلية داخلية أن يقود إلى تدويل خطير يؤدي لإسقاط سوريا الوطن لا النظام فقط.

هذه معارضة رفضت في حينه مبادرة الجامعة العربية الأولى والمتوازنة ونظمّت مظاهرات ضدها. لكن بقدر ما كانت المبادرة تتغير وتُصاغ بصورة استفزازية وبلغة العقوبات والوعيد والتهديد وتحديد المهل الضيقة لتلقي الجواب المطيع من سوريا وإلا… كانت المعارضة الجديدة تُهلل للجامعة وتُمجدها. الأمر الذي يدل على أنه لا الجامعة ولا هكذا معارضة أرادتا حلاّ متفقا عليه بعد حوار، وإنما التصعيد والتوتير. هذه معارضة رحبت بقرارات الجامعة التي نصّت على محاصرة سورية وتشريع أبوابها للتدخل الأجنبي والعقوبات بحقها وبتدويل القضية، مع تحفظ واحد ووحيد. قالت: “لا يجوز استمرار التلّهي أكثر بعقوبات اقتصادية ودبلوماسية” (؟!)، أي أن المطلوب الآن الحرب الأهلية والتدخل العسكري!

هذه معارضة لم نسمع على لسان قادتها أي نقاش لما طرحه النظام من مقترحات ومراسيم إصلاح، بما فيهما مرسوم الأحزاب الجديد (وبالمناسبة هو مرسوم الأحزاب الأرقى طرّا من كل امثاله في العالم العربي). وبدلا من أن تقول للنظام متحدية إياه: تفضل نفذها حتى نتجاوب ونتحاور خلال مرحلة انتقالية محددة تقود إلى انتخابات ديمقراطية، قالت: “الشعب يريد إعدام الرئيس”. وهي أصلا لم تطرح أي برنامج عيني للإصلاح ولشكل النظام والمجتمع التي تريده -(ربما لمعرفتها أن أهل الشام سيرفضونه لتخلفه). وآثرت “حوار الدم” بمعنى التركيز على الدم المسفوك لضحايا النظام والرد عليه بسفك دم مضاد، بدلا من تجنيد الشعب مدنيا وجماهيريا لشل اليد الدموية للنظام.

هذه معارضة خسرت، بنهجها الأخير، غالبية الشعب السوري وبلداته الكبرى وفئاته المتوسطة وفسّخت صفوفها وأوقعت الخلافات داخلها وأدت إلى انشقاقات داخل أطيافها المختلفة، بدلا من أن تعمل على توحيد كل الأطياف ضد النظام على أساس برنامج ونهج وطنيّيْن وتقدّميّيْن نهضويّيْن. بهذا، وبسبب من رغبتها بهيمنة خطابها المتخلف على الحراك وبعسكرته، أدّت إلى انفضاض شرائح شعبية من حولها وإلى زيادة “شعبية” النظام . أما فضائية المعارضة، “جزيرة” قطر والإخوان… فطلّقت الإعلام وأصبحت بوقا تحشيديا وتحريضيا خجلت حتى “الحرّة” و “العربية” عن مجاراتها فيه.

الناس السوريون لا يريدون استبدال ديكتاتورية قومية بأخرى إسلاموية وسلفية مدعومة من قبل “إخوان” قطر و”سلفيي” السعودية “الديمقراطيتان” جدا جدا… وبرعاية راع أطلسي ما من مصلحة له إلا مصلحته الاقتصادية وتدجين سوريا وموقفها المتعارض والمتناقض استراتيجيا مع السياسة الأمريكية- الأطلسية بخصوص الشرق الأوسط الكبير. خصوصا فيما يخص مسألة الصراع مع إسرائيل والقضية الفلسطينية ووضع لبنان والعراق والمسألة الإيرانية، وكل ما اصطـُلح على تسميته أمريكيا بمحور “الاعتدال- الخير” ومحور “التطرف-الشر”.

 ثم دعونا نلاحظ أننا لم نسمع، في الأشهر الأخيرة، أي تصريح أو بيان لقادة المعارضة المهيمنة اليوم ضد السياسة الغربية إزاء سوريا والمنطقة العربية، وضد الرجعية العربية، ولا حتى ضد إسرائيل واحتلالها، أو دعما للقضية الفلسطينية. فهؤلاء أصدقاؤها وداعموها. وقل لي من أصدقاؤك أقول لك من أنت. ويكفيهم عريا وعورة أن قوى 14 آذار في لبنان المجاور، بجعجعه وحريريّه، من أنصارهم.

هذه معارضة سلبت ربيعا كان مأمولا وتحمسنا له في سوريا الشام. فلا تخيّروننا، نحن العطاشى لربيع عربي طال انتظاره، بين  إما التعاطف اليوم مع هكذا معارضة في سوريا أو دعم هكذا نظام يتحكم بالبلاد. تباً للأما والأو. خيارنا هو استعادة الربيع  وانتصاره لا تخريفه وهزيمته من قبل النظام والمعارضة معاً.

ينشر المعارض والمثقف السوري الكبير مشيل كيلو مقالا عنوانه “الحلول العسكرية فاشلة”، في وصف وتقييم حال المعارضة المهيمنة اليوم ونهجها الإسلاموي والعسكري. وكيلو هذا قضى سنوات عديدة من حياته في سجون الأسد الأب والابن وأطلق سراحه مؤخرا، فانطلق دون أن يطلـّق المعارضة الوطنية وإنما ليواصل نشاطه في صفوفها.

إليكم بعض ما جاء في مقال المفكر ميشيل كيلو: “…هذا حراك أخذ يخضع أكثر لتأثير جهات متأخرة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا… ويتجه نحو العنف مع ما يعنيه ذلك من نسيان مطالبه الأولى بالحرية والوحدة الشعبية والوطنية والمواطنة… وهي معارضة حالتها الراهنة قي انقسام وصراع… رهاناتها متباينة وأهدافها متعارضة… وينشأ داخلها حراك لتيار مسلح يزداد قوة وانجرارا إلى العسكرة والتطرف، إسلاميا كان أو غير إسلامي… ويقوم أنصار “المجلس الوطني للمعارضة” بالاعتداء على أنصار “هيئة التنسيق للتغيير الديمقراطي” وضد من لا يتفقون مع “المجلس” في الرأي من المواطنين والمعارضين السوريين… ويزداد الميل إلى استعمال السلاح في أوساط الشعب وتنتشر الفوضى التي تصاحب عادة أعمال العنف المنفلت من عقاله، مع ما يعنيه ذلك من نقل الصراع ضد النظام إلى داخل صفوف الشعب وتعبيراته السياسية… هذه ظاهرة مخيفة لن أتوقف عن التحذير من نتائجها البالغة الخطورة… وبالإمكان أن تنشأ عنها مواقف سلبية أو عدائية حيال تنظيمات المعارضة المؤيدة للنزعة السلمية… وانقلاب في طبيعة الصراع الدائر الذي قد يفلت من أيدي الجميع تحت ضغط التطرف وتشوُّه وضعف الوعي وتمرُد البندقية… فيكون في هذا هلاك للجميع ونجاة للنظام”.

هذه ،أعلاه، شهادة شاهد من أهله. وأهل الشام… أدرى بشعابها. ليست هذه هي المعارضة التي أيدناها في السابق. أصبحت هنالك معارضة للمعارضة من داخل المعارضة في سوريا. والأجدى بالمعارضة المهيمنة اليوم- (دون أن نتهم كل معارض في صفوفها بهذا، وإنما نخص قادتها)- بنـَفـَس سعودي- قطري- عثماني وأمريكي أوروبي أن تبدّل اسمها من “المعارضة” للنظام إلى “الموالاة” لرعيانها من خليجيي العرب وامبرياليي الغرب. لقد وصل الأمر بها مؤخرا حدّ معاداة المعارضة الوطنية الداخلية التي ترفض نهجها وارتباطاتها الخارجية، وأصبحت تعتبرها متواطئة مع النظام (؟!).

أيّ ربيع هذا؟

بعد الصيف القائظ والطويل لأنظمة الخريف العربي في صحارى الظلم والظلام والحرمان والاستبداد، حيث أصبح “الفتى العربي” في وطنه “غريب الوجه واليد واللسان”، هطل علينا المطر برداً وسلاماً في الشتاء الماضي مبشراً بربيع عربي واعد. ربيع حامل بديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية، وبتداول للسلطة وفصل بين السلطات، وبدولة مدنية وعلمانية ونهضة ثقافية. وبوحدة وطنية لمواطنين أسياد يملكون الوطن ومقدراته ويعتقونه من أسر التفتت والتبعية لاحتلال الحاكم الوطني له ولإمبريالية وتآمر المتحكم الأجنبي عليه، ويحررونه من عناكب وعقارب القبلية والتجهيل والطائفية والاتجار بالدين. ربيع- أنوار ونهضة عامة، ثقافية وسياسية واجتماعية، “رينيسانس”.

لم يخطىء مَنْ أسماه الربيع العربي، فهو ربيع شعبي أعقب الخريف العربي الرسمي وثار ضده. ولم يخطيء مَنْ نعته بربيع الثورة حين استطاع إسقاط بن علي ومبارك. لكن لم يخطىء أيضاً مَنْ حذّر من خريف الربيع، منبهّا إلى أن الثورة لا تنتصر نهائياً باسقاط الحاكم القديم ولا تنتهي عندها. وإنما هي تنتصر ببناء نظام جديد نقيض للقديم. ومسألة البناء أصعب بكثير من مرحلة الهدم. فكم من ثورة أعقبتها ردّة لثورة مضادة استبدلت نظاما بنظام مبقية على النظام نفسه، بمسحة تجميلية سطحية!

هل نشهد في عالمنا العربي ربيع الخريف يستحيل إلى خريف الربيع؟ بكّير على إطلاق الأحكام النهائية. ثم ما فجّره هذا الربيع، حيث أسقط القديم وحيث يناضل لإسقاطه، من خروج للناس من أقفاص اليأس واللامبالاة، ومن تحطيم لحاجز الخوف، ومن اكتشافهم لقدراتهم ولكونهم شعبا وتصرفهم على هذا الأساس، وتنسّمهم لمذاق الحرّية… يجعلنا نعتقد أن “غوليفار” حرّر نفسه من أسر الأقزام له. المارد انطلق من القمم.

لكن الأقزام لم ينهزموا، ولا تنقصهم الأدوات والدوافع لإعادة المارد إلى قمقمهم أو لتحجيمه ومسخه. عندهم فائض أموال النفط والغاز والنهب لثروات ومقدرات شعوبهم. عندهم العسكر والعملاء ووسائل الإعلام التحشيدية. عندهم فزعهم من أن تطال شرارة الثورة أقفيتهم. وعندهم “الدين والتديّن” والمتاجرة بهما بعد أن شوهاهما. عندهم الطائفية والجاهلية والتسعير العدائي السني- الشيعي والإسلامي- المسيحي، وفضائيات بث السموم والتجهيل والعداوات القبلية وتشويه الهوية القومية.

عندهم دول الخليج وجامعة عربية خليجية- غربية- عثمانية. وعندهم أسيادهم الإمبرياليين والحلف الأطلسي وقواعده العسكرية والمؤامرة الأجنبية، ولا تنقصهم المؤامرة العربية. عندهم “معارضة” طلعت على أكتاف المعارضة الربيعية وأصبحت موالية لهم ومعارضة للمعارضة. وعندهم إخوان وسلفيون متأسلمون لم يلطخوا “دينهم” بالمشاركة في الحراك الربيعي حين انطلاقه. ثم تواصلوا مع الخريف الحاكم وركبوا الموجة الثورية لتحكيم خريفهم الأصولي الرجعي، بدعم معنوي ومادي كريم من سارقي أوطانهم وشعوبهم من آل سعود وآل حمد الجاسم وأشباههم. وعندهم أبواق بشرية أياديها وألسنتها طويلة وطائلة في وسائل الإعلام والجامعات، ومفكرون ومثقفون قابلون للبيع والشراء مقابل الدفع السخي بالدولار والدراهم والدينار. وعندهم…وعندهم…

و”عندهم” هذه، المقصود بها دول الخليج وتآمرها على الربيع وتدخـّلها لاحتوائه وتخريفه، بالتنسيق مع سائر دول الرجعية العربية والإدارة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية الأطلسية وتركيا. ورأس الحربة هما السعودية وقطر. إذ أن القرار “العربي” أصبح بيد الأغنى من حكّام آبار النفط والغاز في الصحراء العربية. قطر الأصغر وذات الثلاثمائة ألف مواطن فقط، تتصرف كدولة عظمى عدداً وعدّة (بالقاعدة العسكرية الأمريكية على أرضها، وهي الأكبر في الشرق الأوسط). أمين جامعة الدول العربية يتصرف كموظف صغير ومأمور تابع أمام أي مسؤول سعودي أو قطري. ولم يبق من مظاهر عروبة الجامعة العربية إلا العباءات والكوفيات والعقالات القطرية – السعودية التي ترشح ذهباً لشراء الذمم.

الفائض الفضائي من ذهب الغاز والنفط كاف لشراء الولاء والطاعة. وهذا الفائض مدعوم طبعا بالسيف الحقيقي وسيف الدين المسلوب والمشوّه على أيدي ملوك وسلاطين وأمراء الخليج ومشايخهم –(رحم الله مظفـّر النـّواب حين قال: “كافر من يحج إلى مكّة بغير سلاح!”). هذه “الشـّلّة” النفطية الغازيّة هي التي تملك زمام ورقاب العرب وهي التي تقود الأمة العربية. في الأمس كانت هي الحافظة لحكّام عرب قمعوا شعوبهم (مبارك، بن علي… إلخ)، ومع انفجار الربيع انتقل مشايخ النفط من سرايا الحكام العرب الدكتاتوريين إلى ميادين الثورات، بهدف لجمها وتطويعها. أصحاب الثروة أصبحوا أصحاب الثورة!

عاهرو الخليج هم شيوخ ومشايخ للثورة ضد الدكتاتوريات التي يجب إسقاطها. أصبحوا المرجعية للشريعة وللتشريع والديمقراطية والانتخابات وللمواطنة وحقوق المواطن في بلدان انتفاضة الربيع، علما بأن شعوبهم أنفسهم (بما فيها في السعودية وقطر) غائبة ومغيّبة ولم تسمع بالانتخابات الحرّة وبالديمقراطية وبالمواطنة. فعلوا هذا لاحتواء واغتصاب قيم وأهداف هذا الربيع لا لنصرته. وذلك خدمة لمصالحهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية الرجعية، وأمانة لتحالفهم –(تبعيتهم)- مع السيد الأمريكي الأطلسي الذي يحفظهم، وفزعاً من ربيع حق ينتصر قد تصل رياحه إلى “عزبهم – مزارعهم” الخاصة التي تسمّى زوراً دولاً وأوطانا.

بناء على كل ما سبق أعلاه، لا يسعنا إلا أن نوافق مع المفكر والمعارض السوري اليساري والديمقراطي صادق جلال العظم، حين صرح مؤخراً، أنه ليس بمتفائل ولا بمتشائم بل هو “متشائل” إزاء الربيع العربي ومستقبله. ولاحظنا هذا التشاؤل لدى حسنين هيكل،  وإن كنّا نتحفظ من استنتاجه بأن المنطقة العربية تشهد “سايكس-بيكو جديد”. فالمؤامرة ليست خارجية استعمارية فقط وإنما عربية أولاً. والمنطقة مجزأة أصلاً. ورغم وجود مخططات لتجزيء المجزأ وتقسيم المقسّم (في العراق والسودان واليمن وسوريا ولبنان)، إلا أن ما يجري هو محاولة “خَلْجَنة” للمنطقة ووأد ربيعها وتقزيم بغداد والقاهرة والشام واستبدال صراع الشعوب العربية مع إسرائيل بصراع مع إيران. وللعثمانيين مصلحة في هذا.

لم تثر شعوبنا لإسقاط نظام الرئيس الحاكم ولاستبدال آل الغاصب المحلي بمغتصب خارجي، ولا لتحكيم العسكر وإعادة حكم فلول رجال النظام القديم واستنساخه. هي ثارت لبناء نظام أكثر عدالة وديمقراطية، ولتمليك الوطن لمواطنيه. ولم تنتقض شعوبنا لتوظيف حراكها لصالح أجندات عربية خليجية وإقليمية  ودولية ركبت الموجة، ولا لاستعادة  دولة الخلافة ولبناء الدولة  السنيّة في مواجهة الشيعية، ولا لدولة إسلامية تتحكم بأبناء الوطن العلمانيين وبـِ “أهل الذمة”، وتشوّه حتى السلف الموروث ديناً وتديناً وتاريخا وثقافة.

شعوبنا هبت وانتفضت وثارت لاسقاط أنظمة استبدادية ولتحرير العرب، مواطنين وأوطانا، ولتوحيدهم وطنياً لا تفسيخهم قبلياً وطائفياً. ولبناء دولة مدنية علمانية ولإحداث نهضة عربية تحررّ من ثقافة اجتماعية متخلفة ومن البحث في الماضي القديم عن أجوبة لأسئلة الحاضر المعاصر. هي ثارت لتجديد قوميتها وعروبتها ودمقرطتهما واستعادة دورهما داخليا ودوليا، ولتحرير الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، ولضمان الحقوق والقيَم الإنسانية العامة من حرية وديمقراطية ومواطنة متساوية وعدالة وانفتاح ثقافي للناس بصفتهم بشراً ولدوا أحراراً.

تباً لحراك ربيعي لا تلازمه ثورة ثقافية اجتماعية. وتباً لحركة نهضة وإصلاح تطالب باسقاط النظام، دون إسقاط منظومته الاجتماعية والثقافية والقيميّة السائدة المعطوبة. هذه هي “النهضة” المتخلفة. وهذا ما نخشاه وأصبحنا نراه في سلوك وأفكار وممارسات المعارضة المهيمنة اليوم في سوريا والمدعومة والمرعية من أعداء النهضة العربية، منطقيا ودوليا.

طائرة ودبابة الناتو هي التي قادت “الثورة”(؟!) الليبية وضمنت وحققت انتصارها. “الثائر” عبد الجليل وشلته… كلهم من أيتام النظام. وعبد الناتو هذا (تليق به أكثر من عبد الجليل) عاث في مرافق حكم العقيد الديكتاتوري الفاسد، فساداً وإفساداً وإصداراً لأحكام شرعية بالإعدام الجماعي خدمة للعقيد. وكانت أول مراسيم “ثورته” لزوم تطبيق الشريعة وإعادة تشريع تعدد الزوجات. وبأذني وبعيني سمعت وشاهدت القائد “الثوري” العسكري إبان “تحريره” لطرابس (الناتو حررّها) وهو يلهث، في الساعة الثانية والنصف صباحا، مصرحاً للجزيرة: أحدثكم من شارع “حررناه” في طرابلس- شارع أسماه العقيد القذافي بشارع عبد الناصر. أناشد المجلس الأعلى للثورة أن يصدر فوراً مرسوما بإلغاء هذه التسمية للتخلص من كل أثر للعقيد. وهكذا من كل موروث القذافي يجب التخلص أولاً من اسم عبد الناصر. هذا هو شكل “ربيع ثورة” الأطلسي، التي خلّفت 60 ألف قتيل والآف الجرحى وبلداً مدمراً.

في “مصر” أطلق الشباب الوطني والتقدمي شرارة الحراك. أشعلوها ناراً مدنية جامعة ضد النظام، بينما الجماعات الإسلامية تتفرج من بُعد على ميدان التحرير وتُنسق سراً مع النظام لحلول تعطيها مواطئ قدم لمشاركة مبارك أو من ينوب عنه في حكم البلاد. واشنطن تستدعي الطنطاوي وتنبهه أن ربيع ميدان التحرير سينتصر قريباً لا محالة، فليعتزل مبارك وليستلم العسكر الحكم منعاً لولادة جمهورية الميدان. الأخوان والسلفيون ينتصرون في الإنتخابات انتصاراً ساحقاً. وكل الدلائل تؤكد ليس فقط على الاتصالات والتفاهم بين الغرب “الصليبي”(؟!) والأخوان المسلمين، وإنما أيضا على وجود باع طويل لوهابيي ولسلفيي السعودية وأخوان قطر (وجزيرتهم الفضائية) في هذا وفي التمويل السّخي لضمانه.

في تونس تستلم الحكم في المرحلة الأولى، بعد أن تـُجير السعودية (داعمة الثورات!) بن علي، بقايا من أيتام النظام. ويفوز بالانتخابات الأخوان المسلمون، وإن كان الغنوشي صورة ملطفة عنهم وأكثر انفتاحا منهم. على كل سنراهم في غد قريب بعد أن يحكموا ويتحكموا. وسمعنا تصريح الغنوشي في إشادته بحراك أخوانه السوريين وبقرارات جامعة الخليج بخصوص سوريا.

أما في المغرب، فيلتف عاهله على الحراك الإصلاحي في بداياته ويعلن إجراء إنتخابات تقاطعها القوى الديمقراطية والوطنية اليسارية المغربية. يخوضها الأخوان مشيدين بحكمة العاهل، ويفوزون داعين حزب العاهل إياه للتحالف الوطني في الحكومة والبرلمان لخدمة الوطن والإسلام. عهر يخدم عاهلا، أقصد عاهراً.

وتسكت جامعة الدول العربية عن حمامات الدم والقتل في يمن صالح. تقوم دول الخليج بعرض مبادرة عليه منتظرة إياه ستة أشهر كاملة ليوقع عليها. فاليمن ليست سوريا لتمنحه أياما فقط. وتكون المبادرة عبارة عن طوق نجاة له القصد منها إنقاذه وتقاعده محمياً في أمريكا أو غيرها مصطحباً كل ثروته المنهوبة وتوريث الحكم لأشباهه، وخنق الربيع الشبابي النازف دماً على مدى سنة كاملة في ساحات المدن اليمنية.

أما في البحرين وعُمان وفي القطيف في السعودية… فالدبابات الخليجية- السعودية كفيلة بسحق الربيع، مدعومة بفتاوى إسلاموية تحرّم الثورة-”الفتنة” و”الخروج”- ضد الحاكم. ويصمت غرب “حقوق الإنسان” و “المتحرر من الإمبريالية” غير الموجودة إلا في أذهان “المتخلفين”، كما يدعي “المتمدنون”. غرب ينسّق مع آل سعود وآل حمد لاختطاف وتدجين ربيع شعوب أسقطت حكّامها، ولمنع ربيع الخليج، ولالتهام سوريا وتخريف ربيعها قبل أن ينتصر.

الربيع الصحراوي…

في شرقنا العربي الأوسطي، في نقطة الالتقاء والعبور هذه بين ثلاث قارات، في بحر النفط والغاز هذا، في بلاد مهد الحضارات القديمة والديانات والأماكن المقدسة، في هذا السوق الضخم للثروات وللموارد الأولية وللأيدي العاملة ولتسويق البضائع… تصبح الجيوإستراتيجية وبالا على ربيعه، بسبب خريف حكامه واستبدادهم وتبعيتهم لغرب أمريكي ولاتحاد أوروبي أطلسي يستعبدهم وشعوبهم وثرواتهم.

هنا ممنوع أن ينتصر الربيع، وإن انتصر يجب تفريغه من فحواه. هنا تقول لنا “الإمبراطورية” الأمريكية الأطلسية: سنرعى ديكتاتورية حكامكم وفسادهم وإفسادهم ما داموا يخدمون مصالحنا. وإذا ما انتفضت شعوبكم ضد عكاكيزنا الحاكمة سنساعد العكاكيز على قمعكم. وإذا ما ظهر أنه لا بد من إسقاط العكاكيز سنتخلى عنها ونتفرغ لامتصاص ربيعكم وتحويله إلى شبه ربيع، إلى “لايت” ربيع شعارا ومظهراً، وخريفيٌ جوهراً.

لا تهمنا ديكتاتورية أو ديمقراطية حكامكم  فهؤلاء “أولادنا” نلعب معهم مثل “الأحبة”- “سوا سوا”. أما إذ كان الديكتاتور عقبة أمام مصالحنا وسياستنا فسنستبدله بديكتاتور أكثر مرونة إزاء مخططاتنا. نفعل هذا طبعا باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا يضيرنا أن نقوم بهذا من خلال التصالح وحتى التعاون مع الأخوان والسلفيين. هذا ما فعلناه في الماضي ونفعله في الحاضر وسنفعله في المستقبل بقدر ما يكون همّ هؤلاء إقامة إمارات إسلامية تهدد وحدتكم القومية والوطنية. لا مجتمعات نهضة سياسية واجتماعية وثقافية تهدد سيادتنا وتجعلكم أسيادا مالكين لأوطانكم ولثرواتكم ولمستقبلكم.

هنا، في صحراء المنطقة العربية بسبب حكامها والتي بالإمكان تحويلها إلى جنة بدونهم، فاض ربيع الشباب في ميادين التحرير. الشباب أطلقوا الشرارة وجعلوها شعلة نور بإصرارهم وصمودهم وتضحياتهم ودمائهم، لكنهم لم يبلوروا النتائج. هم زرعوا… غيرهم حصد. هم طهوا… غيرهم أكل. هم استشهدوا… غيرهم حكم. هم فرضوا الانتخابات الديمقراطية… غيرهم فاز. والميادين ميادين الشباب الثائر… لكن القرضاوي هو الذي يخطب من على منصة الاحتفاء في الميدان، بانتصار ثورة صنعها شباب الغد واغتصبها صحراويو السـّلف!

صحة التعقيد الجدلي وخطأ التبسيط الميكانيكي

نعود ونكرر أن أنظمة الخريف العربي تستحق السقوط والإسقاط لإنبات الربيع العربي، بما فيها “المتحصن” وراء كونه “نظام ممانعة”. لكن ما يثير الاستغراب هو هذه “الطوشة العمومية” بين مواقف الوطنيين في بلادنا والعالم العربي وحتى داخل صفوف الحزب الواحد، من النظام ومن الحراك الربيعي في سوريا. علماً أن المنطلق الوطني مع انفتاح الذهن بالإمكان أن يوالف على الأقل إن لم يوّحد. فالبعض يتهم أصحاب المواقف المركبة جدلياً (الشبيهة بما ظهر في مقالي هذا ومقالاتي السابقة ومقالات غيري عن سوريا وحراكها) بالانفصام وحتى بتخوين النظام أو المعارضة وبالاستعلاء على جماهير ترى أن الإسلام هو الحل. هؤلاء يصرون على الخندقة في إطار “إما…أو”: فإما أن تكون مع النظام وشبيحته أو تكون مع المعارضة مهما كانت هذه المعارضة. وإما أن تكون مع الأسد أو مع المؤامرة. والمطلوب هو الحسم الواضح…

هذه تبسيطية ميكانيكية، لا جدلية مركبة. فلنحاول توضيح وتفكيك وإعادة تركيب طرفي هذه المعادلة الجدلية من منطلق: دعونا نحدد نقاط الاختلاف فيما بيننا حتى نتفق. ومن منطلق الوعي أن في صواب موقف كل منا قد يكون بعض الخطأ، وفي خطأ موقف كل منا قد يكون بعض الصواب. إذ بإمكان الوطني منا إذا كان منطلقه أخلاقياً وقيمياً وديمقراطياً وتهمه حقوق الإنسان الجماعية والفردية-(وهل يصح غير هذا؟)- أن يكون في الوقت نفسه ضد النظام وضد المؤامرة. مع المعارضة الوطنية وضد المعارضة إذا ما جرى إستلابها حتى لو بقيت ضد النظام. الميكافيلية وعدوّ عدوّي صديقي تصلح للساسة اللا أخلاقيين، لا للذين يتخذون الأخلاق والعدالة منطلقاً وهدفا لمواقفهم.

تحفظنا من المعارضة المهيمنة اليوم ونقدنا لها، لا يعني تأييدنا للنظام الذي يستحق النقد والنقض. إدانتنا لجريمة التدخل العربي الرجعي والغربي الإمبريالي وتساوق أطياف من المعارضة معه لا تعني عدم إدانة خطيئة، بل جرائم، القمع الدموي للنظام ضد شعبه والمعارضه الوطنية عموما. رفض أفكار وموبقات البديل الإخواني والسلفي لا يعني عدم رفض وإدانة أفكار وموبقات النظام التي ينفذها باسم “القومية والعروبة والممانعة”. رؤيتنا لأطياف ممانعة في هذا النظام لا يعني رفضنا لمعارضة تطالب بإسقاطه بسبب ممارساته وجرائمه الداخلية. اعتقادنا بوجود مؤامرة تستهدف سوريا الوطن لا ينفي وجوب اسقاط نظام سوري يغتصب الوطن ويرى أن أمن النظام فوق أمن الوطن. وهو نظام يبطش بشعبه ويسلب حقوقه ويرى المؤامرة حيث هي غير موجودة- حتى في صرخة شباب يريد الحرية والمساواة  والكرامة القومية والمدنية. تصدينا لبشار الأسد وحزب بعثه ولسيفه المسلول في وجه شعبه، لا يعني تماهينا مع خنجر الخليج العربي والعثماني والأطلسي الموجه ضد شعبنا.

ولمن ما زال يعتقد أن الموقف أعلاه ما زال ينقصه الحسم الواضح، يا أسود يا أبيض، إليكم توضيحاً حاسماً: بإمكاننا أن نكون مع ميشيل كيلو ومعارضته لهكذا نظام ولهكذا معارضة مهيمنة ومسلوبة، دون أن نكون مع برهان غليون!

عن الغربان والعقارب وضرغام المتنبي…

كتب الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور في مقال له مؤخرا أن ضباط الاستعمار البريطاني في اليمن استوردوا آلاف الغربان ورعوا تكاثرها لتساعدهم على القضاء على آفة العقارب التي تملأ أرضه. فلم تقض الغربان على العقارب وتكاثرت حتى أصبحت هي الأخرى آفة. فعانى اليمن من الآفتين، عدا عن آفة الاستعمار البريطاني. وكان يشير بهذا إلى المعارضة اليوم في سوريا.

ما دخل المتنبي هنا؟ اعتادت العرب أن تربي طير “الباز” وتدجّنه ليساعدها على الصيد مقابل إطعامه فتات بعض ما يصطاده. هي طبعاً لم تختر الضرغام ليساعدها على الصيد. لأنه، كما يقول شاعر العرب المتنبي:

ومنْ يجعل الضرغام للصيد بازه     /    تصيّده الضرغام في ما تصيّدا

فالذين يستعينون بـِ “الأسود” الأطلسية المفترسة وبأبنائها من “أشبال” خليجية وعثمانية للصيد، سيكونون هم وأوطانهم… المصطادين. أما نحن، جميع الناس “القرايا” التي أصبحت أوطانهم “سرايا” للغربان المحلية والأجنبية، فما من أمل لنا بالتخلص من العقارب إلا بعودة عنفوان الحراك الجماهيري الوطني لتحرير ربيع خريفنا من أنياب هجمة خريف ربيعنا.

لا يعقل أن تحكم بقايا أركان النظام القديم شعوبا ثارت لإسقاط النظام. عن هذا جاء في التوراة: “أقتلتَ وورثتَ”؟ المطلوب والمأمول الآن هو عودة الشباب وانتفاضتهم لميادين التحرير وتجديد وتصعيد الحراك لاستعادة وتحرير ربيع العرب من رجس الغرب وإفساد وتخريب آل سعود وآل حمد. وأن يقوم الشباب بهذا، الآن وفوراً، دون خوف أو تأتأة وتردد، لا أمام مغتصب جديد – قديم ولا من إخوانجي وسلفي قديم – جديد. عن هذا قال لينين، في سياق تحديده لموعد ثورة أكتوبر: “البارحة كان باكرا، غدا سيكون متأخرا، يجب التحرك الآن”. إذ أن عالمنا العربي حامل، وما من وجود لنصف حَمْل. ومن يقوم بنصف ثورة يحفر قبره ويدفن ثورته!

[انتهى القسم الثاني والأخير من المقال… وكان القسم الأول انتشر في الاسبوع الماضي]


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

5 تعقيبات

  1. الى الاخ أحمد العربي:
    لا أوافقك أن الكاتب حقا موضوعيا . الامثلة كثيرة:

    1) يقول السيد غنادري في وصفه للخليجيين: “عواهر خليج العربان والعثمان”. مع أني لا أوافق سياستهم الداعمة للحركات الاسلامية الرجعية، فلا يجوز له استعمال هذه الالقاب الاستعلائية في شروحاته أعلاه.
    2) في موضوع الصليبيين، اليك كلماته بالحرف الواحد: ” يذكرنا هذا الأمر بما فعله بعض أمراء المسلمين في فترة تآكل الخلافة العباسية وبؤس الحال العربية والإسلامية، حين استنجدوا بحملات الفرنجة “الصليبية” ضد أبناء شعبهم ودينهم في سبيل ضمان حكمهم وسيطرتهم على بعض الإمارات مقابل خدمتهم للغزو الفرنجي، وذلك قبل ما يقارب الألف عام. وكانت تلك حملات لاحتلال وتفتيت الشرق العربي وللقضاء على الإسلام في الديار المقدسة” – فالسيد غنادري يقارن بين “تآكل الخلافة العباسية” و”بؤس الحال العربية والاسلامية” وبين الوضع السوري الاسدي! ويقول ان بعض العباسيين استنجدوا بالصليبيين في ذلك الوقت مثلما يفعل المجلس السوري المعارض اليوم حين يستنجد بفرنسا. كلمات السيد غنادري واضحة ومفهومة. لذلك، كما قلت أعلاه، عار عليه استعمال هذه المقارانات المشحونة بالمعاني التاريخية الدينية، والتي لسنا بحاجة اليها الان. هناك عشرات الاف القتلى والجرحى يتوسلون الى العالم بانقاذهم.
    3) عندما يكتب السيد غنادري ان: ” لجوء “المعارضة” لأعمال عسكرية هجومية على مواقع وثكنات عسكرية محصنة للجيش السوري وقتل مئات الضباط والطيارين والجنود” فنفهم منه انه يصدق ما يقوله التلفزيون الاسدي فقط، ولا تهمه اقوال الجنود المنشقين مثلا، أو اللاجئين العزل في لبنان وتركيا والاردن. عار عليه تصديق الجلاد (هل كان سيفعل ذلك مع افعال الصهاينة سنة 48؟)
    4) لا زال السيد غنادري يصدق أكاذيب النظام المؤلوفة (وقصص ديموقراطية ال98%) ويهاجم المعارضة بقوله: ” هذه معارضة لم نسمع على لسان قادتها أي نقاش لما طرحه النظام من مقترحات ومراسيم إصلاح”. عن أية اصلاحات وعن أية أكاذيب يحاول السيد غنادري الدفاع!؟ الالاف يقتلون ويتكلم عن أصلاحات النظام؟ يذكرني بقصة ماري انطوانيت والكعك.
    5)القارئ لا يفهم موقف السيد غنادري، ففيه عدم وضوح. فهو تارة يصدق أكاذيب النظام وتارة يهاجمه: ” تصدينا لبشار الأسد وحزب بعثه ولسيفه المسلول في وجه شعبه، لا يعني تماهينا مع خنجر الخليج العربي والعثماني والأطلسي الموجه ضد شعبنا.”

    اقتراحي المتواضع له أن يقف مع مطالب الثورة بترحيل ومحاكمة الاسد وانشاء نظام ديموقراطي، ولنترك للشعب السوري حرية التصويت، فاذا اختاروا الحركة الاسلامية الرجعية، فليكن. واذا تصرفت هذه الحركة بصورة ديكتاتورية، فالشعب السوري سيثور عليها (أو يغيرها في انتخابات ديموقراطية).

    ملاحظة أخيرة: هوية الكاتب المولودة لا شأن لها بالنقاش، واذا اعتقدت ان “معلومتك” هذه ستنسف أقوالي أعلاه فقد فشلت خطتك. نقاشنا هو حول أفكار الكاتب وليس حول هويته الدينية. لا تلعب هذه اللعبة أرجوك.

  2. عزيزي أحمد، تتهم الكاتب سميح غنادري باستعمال كلمة “الصليبي” و “الصليبية” في مقالته وبالتحريض من خلالها على المسيحيين وإصابة الجميع بالأذى وباللعب على المشاعر وشحنها بعبارات دينية متطرفة!!
    لو كنت قرأت مقالاته بشكل متأن لانتبهت أنه لم يستخدم هذه الكلمة على امتداد مقالتيه الطويلتين إلا مرتين، وقد وضعها بين مزدوجين من باب السخرية من الإخوان المسلمين والنقد للسلفيين الذين ينعتون الغرب بالصليبية ويستنجدون به لغزو الشرق وأوطانهم! قم أنه لم يستخدم خلال مقالاته كلمة “الغزو الصليبي” كما تدّعي، بل أطلق عليها اسم “حرب الفرنجة على الشرق العربي”.. فكيف لك أن تعاتبه على استعمالها؟!!! الأجدى أن تعاتب الإخوان والسلفيين وقرضاوي الجزيرة اللذين حولوا الربيع العربي إلى خريف طائفي مذهبي.
    وأخيرا يا أحمد، إليك معلومة قد تهمك، ومؤكد أنها ستفاجئك وتنسف كل ادعاءاتك: سميح غنادري هو مسيحي المولد، عروبي ويساري الموقف. هذا ما يظهر جليا في كتاباته الخالية من أي انتماء أو اعتبار ديني. ثم إن مقالات غنادري عن سوريا هي من أعمق وأرقى ما نشر… مسموح أن نختلف بمواقفنا حول ما يجري في سوريا، لكن من العار والشنار أن نعلق على مواقف البعض دون أن نجيد قراءة المكتوب وفهم المقروء. وأن نزور المكتوب بوضوح ما بعده وضوح. أقول هذا ليس من باب الدفاع عن غنادري، بل من باب احترام الحوار والعقل وأصول النقد

  3. هو بس تعذيب علي فرزات؟ المئات من محبي الحرية وحقوق الانسان يعتقلون كل يوم، وبعض المنظرين في الحزب الشيوعي الاسرائيلي او الجبهة لا زالوا “يتفننون” في تبييض وجه الديكتاتور.

  4. عيب عليك ان تستعمل عبارات مثل “الغزو الصليبي” وأن البعض اليوم يطالبون بحماية الصليبيين!! عيب أن تقول ذلك لعدة اسباب:
    1) اذا كنت حقا ضدد التدين المتشدد، فاعلم لك ان هذه العبارة مشحونة بالمعاني الدينية المتطرفة. فانت عمليا تقول ان الفرنسيين والاوروبيون هم صليبيون، ويجب محاربتهم، كما كان الامر قبل الف سنة.
    2) عيب ان تقول ذلك لان هؤلاء “الصليبيين” خلصونا من القذافي ملك ملوك افريقيا. اسأل النساء التي اغتصبوهم قوات القذافي المرتزقة اذا كانوا يكرهون هؤلاء “الصليبيين”. اسأل النساء التي قتلت اولادهم… كل ذلك حين كان الاسد الثاني يؤيد ملك ملوك افريقيا في “مقاومته” للصليبيين.
    3) عيب عليك استعمال المفهوم الديني للتحريض على المسيحيين ابناء هذا الشعب. هذا التعميم يصيب الجميع بأذى.

    اعتقد انك باستعمالك كلمة الصليبيين فانك تحاول اللعب على المشاعر الدينية لدى القراء، مع انك ضد حكم الاخوان المتدينين في السياسة!! هذا اسمه لعب على الحبلين.

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>