بين سطوة السماء.. وحاجات الأرض/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي| بين أسباب الأمل، وهي قليلة وعليلة عادة، و […]

بين سطوة السماء.. وحاجات الأرض/ نائل بلعاوي

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

بين أسباب الأمل، وهي قليلة وعليلة عادة، ودوافع اليأس العديدة والحاضرة أبدا. يترنح العربي مثل فراشة متعبة، بين فتنة الضوء وغياهب العتمة… ويحلم بالنجاة، بفكرة سحرية تخلصه من عناء العيش وتحمله إلى فضاء مختلف ومنشود… فضاء البداية، متعة التحليق في أفق لا نهائي الإشارة والكثافة والدفع القوي إلى البقاء.. إلى التوحد في شروط الأرض: هذه الأرض، وما عليها من مواجع خالدة، أبدية الثبات، وما فيها من أبجديات عظيمة للفرح.

بماذا يحلم العربي، هو الكائن الأرضي، سليل المواجع كلها والأمنيات جميعها. هو الحامل، مثل كل الكائنات، سؤاله الوجودي الأثير: البقاء. الخلاص. والبحث الطبيعي عن مأوى لأحلامه الممكنة، هو المشغول منذ الأمس: قبل نزول رسائل السماء، قبل اختراع الحروف والأرقام بفكرة الوصل المثيرة.. عالية الوقع والمجاز، بين ما هو حاضر ومرئي، وذاك البعيد غير المرئي أو الملموس.. ولكنه المُنقذ الوحيد في آن.

هل يحلم العربي بغير ما يحلم به جاره الآخر على هذا الكوكب. ألديه وسيلة أخرى تقوده إلى السماء: النجاة. غير وسيلة ذلك الجار… لا قاطعة على الأغلب، فحبل النجاة الهش للعربي هو: حبل النجاة الهش للجيران، والأحلام واحدة هنا، وكذلك الأمل ودوافع اليأس. ولكن الجيران تقدموا خطوة، أو ربما أكثر، نحو التلاقي المنطقي بين حاجات السماء وهموم  الأرض، فأبدعوا نسقاَ يوازي بين المُقدس في السماء،والمُقدس الأرضي: الحياة. الأمن. الحب. الرخاء. إلى آخر كل ما هو أرضي المعنى ويستحق العناء. تم التصالح العبقري، بعبارة أخرى، بين الغيبي والمرئي، على قاعدة احترام الأول، والرفع من قيمة الثاني، لتبقى السماء حيث هي الآن.. جميلة وملهمة ومقدسة أيضاً، وتبقى الأرض تواصل سعيها الفطري نحو توفير المزيد من طرق البقاء، واكتشاف الجديد من أسباب الأمل.

إلى حدود بعينها، نسبية ومختلفة، نجح الجيران في خلق التناغم المُشار إليه. نسبية هي، لأن الكنيسة في أوروبا، على سبيل المثال لا الحصر لا تزال تحاول، بين الحين والآخر، فرض سطوتها ورؤيتها على هذي القضية، الأرضية، أو تلك، وبلا فرصة حقيقية تذكر، فقد تكفل العقد الاجتماعي القديم لهذه القارة ببقاء الكنيسة بين أسوارها العالية، وبقاء رجال لاهوتها في انشغالاتهم المكتبية، لا أكثر. في حين تُركت الأرض عهدة بيد الدولة المدنية: وليدة أفكار التنوير التي جاء بها عصر النهضة، لتسيير أمورها.

ومختلفة هي درجات تأثير السماء على الأرض من مكان لآخر أيضاً، فما تمارسه السماء من سطوة عالية على الإفريقي، الغارق حتى النخاع في شرور الفقر وأنواع الكوارث، لا يمكن مقارنتها بمظاهر السطوة الأقل التي تمارسها تلك السماء على الأمريكي اللاتيني مثلاً، وكانت البرازيل، في سياق المقارنة المعقود هذا، قد استُخدمت بكثرة مؤخرا كمثال يُقاس عليه في قراءة (تأثيرات المقدس) وتحليلها. وهي الدولة التي مارست فيها الكنيسة دوراً محورياً، تجاوز حضورها التقليدي في الوعي الجمعي للسكان، إلى حدود التأثير في صناعة القرار السياسي بفرعيه، الثقافي والاجتماعي، تحديداً: (حضور النصوص المقدسة وبكثافة في كتب التعليم المدرسي، من ناحية، وإقامة ما هب ودب من مشاريع اقتصادية صغيرة في الأحياء الجانبية المهملة من حول العاصمة، من ناحية ثانية).

لم تنجح الكنيسة، هناك، عبر كتبها المقدسة، ومشاريعها التعاونية (رعوية البعد) من رفع مستوى المعيشة بين السكان، أو الحد من نسب الارتفاع الهائل لأرقام العاطلين عن العمل، وانتشار الجريمة والمخدرات وغير ذلك من عذابات، وكان على الشعب البرازيلي انتظار مطلع الألفية الثالثة هذه، حيث بدأت من هناك، ومتواصلة حتى اليوم، معدلات النمو الاقتصادي بالارتفاع المذهل، الذي أخذ بطريقه الكثير من مظاهر الفقر والجريمة وإدمان المخدرات، كما أخذ، شيئا فشيئا، بإرجاع الكنيسة إلى أسوارها، ورهبانها إلى نصوصهم، لتحل الدولة المدنية، المنتخبة ديمقراطيا والمتحررة من إرث الحكم الشمولي الطويل للبلاد، مكانها، ممسكة بزمام الأمور، في مناخ من الحريات الحقيقية والمطلقة.

تراجعت، وفقاَ لعديد الدراسات المختصة، علاقة البرازيلي بكنيسته، وتراجعت تلك الكنيسة ـ بلا حروب أو تصفيات جسدية ـ عن ممارسة دورها التقليدي، لتفسح المجال أمام الدولة المدنية المختصة والملزمة بالعثور على حلول لمشاكل الأرض. وها هي البرازيل تتقدم باضطراد أخاذ نحو مستقبل أفضل، في حين تتابع كنيستها لعب دورها الأصلي: حاجات السماء، وليس أكثر.

تتنوع نسب التأثير السماوي وتختلف من مكان لآخر، تصعد وتهبط بانسجام تقليدي ومعروف مع متاعب الأرض، فالبشري، وليس الغيبي، هو من يحدد درجات السطوة السماوية، هو من يرفع تلك السطوة إلى حدودها القصوى، أو يخفضها. فرسائل السماء المقدسة، وصاياها وتعاليمها، لم تتبدل أو تختلف، هي هي منذ وجدت، كل ما يتبدل ويختلف هي طرائق التفسير والتحليل للنصوص المقدسة، ومن وقت لآخر، لتنسجم، دائماً وأبداً، مع مصالح الأنظمة الحاكمة ورجالات دينها.

عربية تماما تبدو حالة التفسير المزاجي والوقتي هذه لنصوص السماء، ومتداولة بطرق عديدة ومريبة، لم تنتج مجتمعة، سوى حالة من تعويم العلاقة بين العربي ومقدساته، في نهاية المطاف، ليبدو العربي، وفقا لحالة التعويم الإشكالية تلك، حاملا للعصا من نصفها، فهو الابن الشرعي لأوامر السماء، حين يلزم الأمر، وهو الواقعي، أرضي المشاغل، حين يلزم الأمر أيضاً. وهو، بين هذا وذاك، المترنح الأبدي، مثل الفراشة…. عاجزا عن دخول مدار الضوء، إن كان ضوء السماء، بعمقه الجميل والمحايد، أو هو ضوء الأرض ، وما عليها من متع وآلام.

ساهمت الثقافة العربية، مذ عرفناها وحتى الآن، في تعميق الأزمة بين سلطة السماء وحاجات الأرض، فهي الثقافة الأسيرة أبداً عند سلطان المكان. وهي الثقافة المترددة، إن لم تكن العاجزة؟ عن قول الحقيقة لحظة لا بد من قولها. وهي الثقافة التي لم تحارب، إلا نادراَ، على جبهاتها الأصلية: /الاجتهاد، التفسير، الإرشاد/ ولم تتمكن بالتالي من إنتاج سقف مرتفع لحريتها الضرورية والمكتسبة. ليس هذا فحسب، فقد دخلت تلك الثقافة البليدة، كما المثقف الجبان منتجها، في طور التبرير الماكر لسلوك الأنظمة السائدة، لتشارك، هي ذاتها، في سد باب الاجتهاد: بابها المركزي؟

تحول مفهوم الاجتهاد عبر تلك الثقافة والأنظمة التي تمثلها، من مفهوم شديد الحيوية والحضور في سيرورة التطوير والتفكير، إلى مصدر لا يجر على صاحبه سوى العقاب: السجن، التكفير، القتل، الإلغاء. ليتابع العربي رقصته الأثيرة بين سيف السلطان على الأرض ووعود الخلاص الأخير من السماء، وتتابع ثقافته عجزها الموروث عن قول الحقيقة، والمشاركة الفاعلة، تنويرية البعد، في الحراك الاجتماعي، عظيم الأثر، الذي تشهده الساحات العربية الآن.

فمن حق العربي على ثقافته… تلك التي تولد الآن من رحمه هو، وبكل هذا الدم والعذاب. من حقه عليها أن تضيء له درب الأمل. أن تفتح الأبواب نحو الغد، وأن تقول له، بلا خوف أو حياء ساذج: إمساك العصا من النصف هو مشاركة فعلية في الدفاع عن هذه الأنظمة السائدة الآن. وأن تعويم العلاقة بين الدين والدنيا لا يخدم غير تلك الأنظمة التي أنتجت لنفسها شكلا من أشكال الحكم نصف الإلهي، نصف البشري، مستفيدة، إلى ابعد مدى، من حالة التعويم إياها.

من حق العربي على ثقافته المنتظرة أن ترفع صوتها عاليا لتطالب وتعمل على الفصل المنطقي والملح بين سطوة السماء وحاجات الأرض، فمن هناك فقط، يمكن للدولة المدنية التي يناضل العرب الآن من أجلها أن تقوم وتستمر. كما يمكن للمقدس حين يُفصل عن أمور الأرض أن يبقى مقدساَ، أن يخرج من بين الأيدي المريبة لرجال الدين الذين يفسرون النص المقدس بالهوى والمزاج ورغبات الأنظمة. فلا حل في نهاية المطاف، أو بدايات حل بعبارة أدق، لهذا المأزق العربي الكبير، إلا بسحب البساط من تحت هذي الأنظمة، بإعادة المقدس الذي استخدمته تلك الأنظمة في تسويق نفسها وتجميل قبحها، إلى مركزه الفعلي والأصلي.. ذاك البهي والجميل دائماً.

عليً أن أشير أخيراً إلى أن الدولة المدنية التي لا يمكن أن تقوم بدون فصل الدين عن الدولة، هي الحاضنة الحقيقية للمقدس، هي التي تحمل احتراما عاليا لذلك المقدس، وهي القادرة على صونه، لأنها وببساطة متناهية دولة عمادها القانون، والقانون هو الحارس الفعلي لحق المرء بما يعتقد ويعتنق.

في دولة القانون المنشودة تلك يُصان المقدس ولا يُهان، ويرتفع ظلاً ومعنى، ويبقى هناك بهياَ مؤثراً في السماء الآسرة، وتبقى الأرض، ها هنا، غارقة في غيًها وهمومها وأحلامها الخالدة.



المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>