على هذا التقاطع ما يستحق الإبداع

|راجي بطحيش| لا أعرف كيف وصلت الشخصية (الكينونة) الثقاف […]

على هذا التقاطع ما يستحق الإبداع

|راجي بطحيش|

raji-qadita

لا أعرف كيف وصلت الشخصية (الكينونة) الثقافية الفلسطينية في طريقها إلى التخلص من الاحتلال والإرتماء في أحضان المؤسسة الوطنية إلى مكان أفضل من مبنى وزارة الثقافة الفلسطينية؛ مكان أحبّه أكثر ويشبهني؛ عالميّ وكوسموبوليتي.

راهنتْ الثقافة الفلسطينية -عن وعي أو بدونه (وهذا بحقّ لا يفرق)- على موديلات تقلد ما يحدث في البلدان الشقيقة المجاورة بمعنى إنتاج مؤسسة ثقافية سيئة تروّج لأسس النظام وتصفق لها في كل مناسبة، مؤسسة منغلقة على ذاتها وعلى رؤية القيّمين عليها لغويًا وفكريًا وخطابيًا، مؤسسة يقف أمامها بعض المثقفين على أشكال كليشيهات معارضة متنقلة على اثنتين، تجعجع في الحانات (هذا إن سُمح بوجودها) بدراماتيكية الثملين الذين لن تؤخّر كلماتهم ولن تقدّم. ثم يهرب هؤلاء إلى أوروبا ليقيموا في عواصمها ماضين في المندبة عن وحدتهم في المدن الكئيبة المكفهرّة، واستمنائهم حول كأس النبيذ الرخيص الذي لا يغادر موائدهم وعجزهم عن امتلاك رموز فتح الباب المؤدّي إلى ما قد يُسمى مفاهيم الحرية الغربية ومنابعها.

وبالفعل، فقد قلدت وزارة ثقافة أوسلو النماذج المجاورة بحذافيرها وتبنت وبسرعة مذهلة نفس البدع من الانتقائية والنفي والإقصاء، إضافة إلى التصريح غير المعلن للوزارة بأنها تمثل من يقع تحت نفوذها الجغرافي، فقط، بمعنى كلّ من يسكن بين حاجز بير زيت وحاجز قلنديا. وهكذا أصبحت زوجة الوزير أهمّ كاتبة في الوطن وأهمّ مخرجة أفلام ثقافية شهدتها فلسطين من بير زيت-لقلنديا. وكما قال وقتها المفكر عزمي بشارة: “كيف لحقوا ينتجوا كلّ هذا الفساد وبهالسرعة؟”

لقد وُجدنا كفلسطينيين في إحداثية زمنية ومكانية ما، عند هذا التقاطع التاريخي، ولا نزال نعيش مفارقاته ومآسيه وحتى جنونه وكوميدياه كل دقيقة. نحن أبناء هذا التقاطع (فليسمِّه البعض مؤامرة) وهذا مصيرنا- شئنا أم أبينا. فبعد الانتفاضة الثانية وانقسام السلطة وتفريغ كلمة “سلام” من أيّ معنى أو ضرورة وجودية أصلا، وانهيار مفهوم المؤسّسة الوطنية بشكلها المستورد من الجوار، واستمرار حرب البقاء والمكاشفة المزمنة بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وغالبيتها اليمينية الصهيونية؛ بعد كلّ هذا لا يمكن الحديث عن منظومة ثقافية عادية بدكتاتوريتها ومحسوبياتها وشعاراتيتها. فالوضع أصلا مستحيل وغير منطقي ومن المؤسف محاولة سجنه مؤسّساتيا أو مَنطقته أو فرض رقابة أبوية أخلاقية عليه في وضعية هي أصلا حالة احتلال غريبة. وحشية من ناحية وتحمل ثغرات جنسية دينية وأخلاقية من جهة أخرى. تضع هذه الحالة من الفوضى غير المزعجة المبدع الفلسطيني في مكان يخضع فيه مشروعه الفني لاعتبارات مختلفة جذريًا عن مثيله من سورية أو مصر على سبيل المثال؛ فالاقتراحات والخيارات والتساؤلات مختلفة وطبيعة التقاطع الذي تحدثتُ عنه تفرض شخصية ثقافية–فنية أكثر عالمية، ملونة وتحمل قدرًا أكبرَ من القدرة على المناورة والتميّز والتحاور مع المجهول.

فبعيدًا عن اعتبارات شرطة التطبيع التي تفرض على مُبدعي الداخل وصاية أخلاقية من دون أن تتقن بالفعل فنّ التفريق بين ماهية التطبيع وماهية حرب البقاء وتوابع الإرتطام اليومي الإنسانيّ مع الآخر، ومن دون أن تفقه ما يحدث أصلا على الأرض بما أنها لا تعيش عليها.. فبعيدا عن ذلك ما أقصده بثقافة التقاطع يعود إلى هذا المبدع الذي يتحوّل بسرعة إلى مواطن العالم بفنه وفكره وإبداعه كما يحدث في الإنتاجات السينمائية الفلسطينية التي قدمت والتي يتم تصويرها وتلك التي تتم كتابتها الآن تلك التي يختلط فيها الفلسطيني والفرنسي والألماني وحتى الإسرائيلي (يعود هذا لإشكالية تمويل بعض أعمال المبدعين الفلسطينيين من دافعي الضرائب لدولة إسرائيل). وينسحب ذلك على الفرق الموسيقية التي لا يمكننا أن نصفها سوى بالعالمية مثل “دام” و”تريو جبران”، والأدب الذي يحمل قدرا كبيرا من الرؤية التحررية الفردية والجماعية الإنسانية (لأنه لا يحمل خيارًا آخرَ) بحيث يصبح محسوبا وبأسرع الوسائل على أدبيات حقوق الإنسان العالمية. وكأننا في الخلاصة لا يمكننا الفرار من هذا الدور الإنساني؛ دور إدوارد سعيد ومحمود درويش وايليا سليمان وغيرهم.


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

1 تعقيب

  1. صحيح خاصة انه لا يمكن اعتبار المبدع الفلسطيني مبدعا عربيا عاديا تابعا لدولة وطنية مستقلة بل ان 62 سنة من الإحتلال وما قبلها شكلت الذات الفلسطينية بطريقة مختلفة واكثر انكشافا على الأخرين مما نتج عنه هذا المزيج الذي نراه أحيانا وهو جيد مرات ومرات أخرى يغالي في استخدام رمزيته

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>