متاهة الطاغية/ نائل بلعاوي

. |نائل بلعاوي| بماذا يحلم العقيد الآن؟ كيف يفكر؟ عن أي […]

متاهة الطاغية/ نائل بلعاوي

.

|نائل بلعاوي|

نائل بلعاوي

بماذا يحلم العقيد الآن؟ كيف يفكر؟ عن أيّ صحراء سيبحث كي يقيم فوقها، ويعلي فوق رمالها معابده الهلامية، وشرور احلامه الخالدة؟

ماذا يقول لنفسه، إن غامر وقال: خسرت، انتهيت، قامرت بآخر ما لديّ من حجج وأوهام.. وانهزمت، وما عليّ الآن سوى الإشارة لهؤلاء.. صبيتي وحثالة رؤيتي، أن يعودوا إلى حيواتهم، إن وُجدت، ويتركوني، ها هنا، في هذه الصحراء، ادفن نفسي وخيبة آمالها. أدفن ما وهبتني الطبيعة من فرادة وتميز، ما أخبرتني به الآلهة، سراَ، وأوصتني عليه، وها أنذا احمله معي وانصرف. فمثلي.. لا يذاع له سرُ، ومثلي لا تستحقه الأرض وما عليها من كائنات كنت سيدها.. ومثلي لا يُعاد خلقه في كل يوم..

يا لهذه الصحراء، لم تعرف من انا، لم تسجد إلى ابد الآبدين أمام عزتي ورفعتي ولا حدود فكرتي وعبقرية ما أتيت به، وما عملت صادقاَ على تحقيقه وتوريثه. أنا آخر الآلهة، عميد سادة الصحراء، فكرتهم أنا وصورتهم وأقصى ما يمكن لأحلامهم ان تصل.

يحلم العقيد.. يصرخ في المتاهة باحثاَ عن فتنة الصدى في عتمة الصحراء: اين انا.. كيف تتركني النصوص لأخرج مثل فاصلة، عديمة المعنى، من متنها.. كيف تلقي الام، الهة المحيط والخليج وحوض البحر، بابنها… أنا ابن هذي الأم، لم اسقط عليكم من سديم حضارة أخرى. لم اُنقل اليكم من كهوف الهذيان في الجزر البعيدة، ولم يترجمني الغزاة والتجار من نص غريب. انا، انتم، حين تدركون الفرق بين واو الوصل في الكتب القديمة والنقاط الغائبة.. انا، انتم، حين تجيدون قراء التاريخ والمواعظ، وحين تدخلون، بلا حيطة أو حذر، جوف النصوص الكثيرة المقدسة.

لم اخترع وهماَ، وجدت عناصره العظيمة ساكنة في أعلى نواحي الرأس، في خبايا الروح.. في الولادة والوراثة والحروف، فأعدت تركيبها، وانتهيت الى صورتي التي تعرفون، اناي الجميلة العليا… لست وهماَ، ولم اخترع وهماَ، ولم افقد خيوط الوصل بيني وبيني، ولا بين الامس واليوم.. كنت جسراَ للوصية، حارساَ للتعاليم.. تعاليمكم انتم واجدادكم ونصوصكم، وحين أمعنت، قليلا، في الدفاع عن الوصية، وأقصيت بعيدا ما عداي، وقضيت، بحكمة الوريث الرفيع، على كل ما لا يشبه الصحراء فيّ.. كنت امثلكم.. كنت أناكم الأخرى الدفينة، ولم أكن وهماَ… انا سيد هذه الصحراء، وآخر ما تجود به السماء من القِ إلهي.. أنا هذا الإله.. أنا انتم.

هو الإله… العقيد هو الاله، لم يكذب، ولم يبتعد يومًا، لحظة، عن لعب ذاك الدور. كان الهي السطوة والفكرة.. في السر والعلن، أمام الكاميرا ومن خلفها. في سقطاته الكارثية الكبرى، او تلك الاقل قليلا، فلا شيء يذكر، في عهد العقيد وشخصه، غير السقوط الكارثي لكل شيء: سقوط المكان، الدولة ، القانون، الحقوق، الشعر والنثر، وكل انواع الفنون وطرائق العيش. لم يترك العقيد شيئاَ من حوله، من امامه، خلفه، او تحت اقدامه، الا واخضعه لمشيئة ذاك الإله الفج، عديم الحكمة.. وحشي النظرة، والمتحكم الابدي بصفاته الغريزية وطاقتها على الفتك، فحين تصعد الالهة، تلك التي يمثلها العقيد ويختصر صورتها، حين تصعد عالياَ، بعيدا عن آدمية الأرض، لا  تعرف غير نفسها، ولا تحاور الا ما تقوله الذات لذاتها.

لعقود طويلة كان العقيد/ الإله يحاور ذاته… يحلم بعلياء تلك الذات… يفكر بعبقرية فكرته… يحتفي صباح مساء بروائع ما يكتشف، ويقول، بين هذا وذاك ، للاشياء : كوني ، كما اشاء ، فتكون. اما الآن، فقد تبدلت الاشياء من حول العقيد، ولم تعد تأتمر بما يفكر  ويشاء، صار للصحراء ما تقوله، هي ، عن نفسها. صار للآدميّ هناك  حق اكتشاف الأنا والسعي في دروبها. ولكن العقيد هو العقيد، لن يكف عن التغني بالفرادة والزعامة وارتفاع النفس، فهو الإله؛ فكيف نطلب من إله، مطلق الصفات، ان يغادر فكرته.. ان يهبط من  حيث صعد، ان يبكي اعترافاَ بالخطيئة والهزيمة؟ هل نقلت كتب التاريخ حكاية واحدة، عن اله واحد تنازل او اعترف؟ لا قاطعة، لأنّ الآلهة تُقصى، تُهزم.. ثم تتلاشى، ولكنها لا تعترف او تستقيل.

حين استحضر العقيد الآن.. الآن كما هو: هارباَ بين البحر والصحراء، مدججاَ بالتعاليم والاوهام، والكثير من الاموال، والقليل، أو الكثير من رفقاء السوء، استحضر معه على الفور صورة ادولف هيتلر وهو يطلق النار على رأس ايفا براون، ثم على رآسه هو…. كان الهاَ هو الاخر، ممسكاَ بفكرته العتيدة عن “امبراطورية الالف عام” الى الرمق الاخير، لم يصدق انهيار حلمه وحصنه المنيع، وحين ارغم وصدق. لم يتردد لحظة، في مشهد بديع ونادر، واطلق النار، معلناَ من هناك، عن أن الالهة تعترف احيانا، وتعلن عن هزيمتها.

هل سيعترف العقيد بهزيمته وينتحر.. ينصرف، يغادر الجغرافيا الى أي جحيم يختار… لا، قاطعة مرة أخرى، فما يجمع العقيد العربي بذاك الالماني، هو الوصول المشترك إلى عمق الهزيمة وحدها، ولا شيء آخر، لا مرجعيات متشابهة    وصارمة يلتقون من حولها، او يردون اليها انهيارهم الاخلاقي والانساني.

جاء الإله الاول، جرماني الهوية، من رحم الفكرة الصارخة التي تقول برفعة العرق والثقافة، وحق المانيا –المقدس- بالتفوق والقيادة، وعمل بصدق وعنف نادرين على تحقيقها، ثم انتهى، بواقعية المهزوم، الى المسدس. في حين جاء الاله العربي من رحم ثقافة خرقاء تساوي، كما ساوت على امتداد القرون الماضية، بين الله والحاكم بأمره، وألغت، بين هذا وذاك، حدود التمايز العظيمة بين الاثنين، لينتهي، الإله الثاني، إلى ما هو عليه الآن: فاصلة، عديمة الجدوى، بين فقرتين.. خفيفاَ.. هارباَ مثل لصوص الأغنام في الصحراء، ليكون، كما كان دائماَ، شديد الصدق مع الانا والوصية والرسائل الفاضحة للتراث.

لن يخرج العقيد مسدسه الذهبي ويطلق طلقة الاعتراف الوحيدة، لن يغادر، أو يستطيع، متاهته الابدية. سيبقى هناك أسيراَ بين دفتي كتاب المواعظ والوصايا العقيمة، لأن الآلهة، عربية الجذور والانتماء، لا تنتحر.. لا تستريح او تريح، ولا تكفّ عن الصراخ والنواح… تلك بنيتها، عماد وجودها… فلماذا، وكيف تنتحر؟

الآن.. حين أرضى بالكثير من القباحة.. بالكثير من الكآبة. حين أتيح، قليلا، لفجائع التاريخ واللعنات فرصة السطو عليّ.. استحضر العقيد، اسمع صوته الدموي من بعيد: أنا انتم.. أنا الإله الدمشقي والمصري واليمني.. عميدهم، خلاصة روحهم، لن يقبض الغزاة على التاريخ.. أنا التاريخ، لن أذوب في مجاهل الصحراء وأعماق البحر.. أنا البحر والصحراء.. وأنا ما ترفعون الى السماء وتعبدون.. (أنا مثلكم أو اقل قليلا).

يصرخ العقيد.. يحلم.. يوغل في المتاهة، في تيه النزول من اعلى المقدس، إلى هامش في أسفل الورقة، حيث ستلتقي، يوماَ هناك، آلهة العرب.. كل آلهة العرب،   من أقصى حدود الرمل في الصحراء، إلى بقايا النهر في بردى، كي تبث الروح في وهم الالوهة، كي تعيد، إن لم تُحرق الكتب وتُلغى الهوامش، تمثيل الحكاية والفضيحة من جديد.

(فيينا 2011)


المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>