من دون مؤاخذة؛ الثقافة ومُصَلِّح بابور الكاز/ جميل السلحوت

|جميل السلحوت| قبل عدة شهور كنت في صلحة عشائرية، ضاع في […]

من دون مؤاخذة؛ الثقافة ومُصَلِّح بابور الكاز/ جميل السلحوت

|جميل السلحوت|

جميل السلحوت

قبل عدة شهور كنت في صلحة عشائرية، ضاع فيها حق المعتدى عليه الذي لحق به أذى كبير، والسبب انه أوكل شخصا يزعم انه خبير بالأعراف العشائرية ليطرح قضيته ويدافع عنها، ونظرا لجهل “الخبير” ضاع حق الرجل، فاشتكى صاحب الحق الضائع ما لحق به من ظلم أمام بعض الوجاهات، فقال له احدهم: “مشكلتك انك وضعت تلفازك المعطوب للتصليح عند ميكانيكي سيارات”.

وقد ذكرتني هذه الحادثة بحوادث ثقافية، لحق فيها ظلم كبير بمثقفين لهم باع طول في الثقافة الفلسطينية، والسبب يكمن في تحكم وسطوة ما يشبه “المافيات” في المؤسسات الثقافية، فتكون قراراتهم مزاجية ومنحازة حسب أهوائهم وميولهم وعلاقاتهم الشخصية، وسأعطي أمثلة على ذلك:

■ في العام 1982 أعطيت مجموعة قصصية لأسير محكوم بالمؤبد لمؤسسة ثقافية في القدس كي تنشرها، فشكلت لجنة من ثلاثة أشخاص لقراءتها من اجل إقرار نشرها أو رفضه. وبعد أسبوعين جاء الرد من أكاديمية عضو في لجنة القراءة: “غير صالحة للنشر”، وتغيب العضو الثاني من دون إبداء الأسباب، واعتذر الثالث هاتفيا لعدم وجود وقت لديه لقراءتها، فأعادت إدارة المؤسسة المجموعة القصصية إلى ذوي الأسير، الذين أعطوها بدورهم لأحد المهتمين من أصدقاء العائلة، فنشرها في مؤسسة اخرى مستغلا علاقاته الشخصية، وأقيمت ندوة حول المجموعة في مقر المؤسسة التي رفضت نشرها، وتحدثت الأكاديمية التي اعتبرت المجموعة غير صالحة للنشر، وأشادت إشادة كبيرة بقصص المجموعة من حيث الشكل والمضمون، وعندما ذكرها أحدهم بأنها اعتبرتها قبل أشهر غير صالحة للنشر، فأنكرت ذلك غاضبة، فما كان منه الا أن أخرج الغلاف الذي كانت المجموعة القصصية بداخله، وأشار إلى خط يدها وتوقيعها الذي اعتبرت فيها المجموعة غير صالحة للنشر، فأرغت وأزبدت وقالت: بالتأكيد كان في هذا المغلف مواضيع أخرى. طبعا كانت اشادتها بالمجموعة بعد ان اطلعت على ما كتبه النقاد عنها.

■ في العام 2009 عام القدس عاصمة الثقافة العربية، دُعمت مؤسسات، ونُشرت كتب بناء على علاقات شخصية مع “ميكانيكيي” الثقافة الذين أوكلوا بالمسؤولية، في حين حجبت المساعدة عن مؤسسات ثقافية فاعلة، ومُنع نشر كتب هامة بما فيها روايات ودواوين شعرية ومجموعات قصصية عن القدس الشريف والأمثلة كثيرة.

■ في العام 2007 صدرت رواية “عش الدبابير” للفتيان والفتيات لكاتب هذه السطور عن دار الهدى في كفر قرع، علما ان الكاتب لا يعرف صاحب الدار ولا يعرف لجنة القراءة فيها، وقد استأذنوا الكاتب بنشرها بعد أن قرأوها على إحدى المواقع الالكترونية، بعد اشادة أحد الأكاديميين في جامعة اليرموك في الاردن بها، وكانت لجنتا القراءة في مؤسستين متخصصتين في رام الله قد اعتبرتاها غير صالحة للنشر، وعندما رأوا ردود الفعل الايجابية عليها أنكروا أنها عرضت عليهم.

■ أول رواية فلسطينية حديثة عن القدس “برج اللقلق” في جزءين للزميلة ديمة السمان لم تجد من ينشرها في فلسطين، وتم نشرها في المركز القومي للثقافة في القاهرة، فشكرا لهم، وسامح الله “جهابذة المؤسسات الثقافية في فلسطين” الذين لم يتيحوا الفرصة لأبناء فلسطين لقراءة هذه الرواية التي اعتبرها أحد النقاد افتتاحا رائعا للرواية الفلسطينية المعاصرة حول القدس.

■ مؤسساتنا الثقافية التي تعاني ضائقة مالية، تقوم بنشر بعض الكتب لبعض المتنفذين، وهذا أمر ايجابي، لكنها لا تلبث أن تعيد نشرها مجمعة في مجلدات، في حين ترفض نشر أيّ شيء لغير المتنفذين بحجة الضائقة المالية.

■ قام وزيران- أحدهما وزير سابق للثقافة- بزيارة ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، وتعهد كل واحد منهم بتقديم عشرة آلاف دولار لنشر الكتب بعد اطلاعه على نشاطاتها وإشادته بها، غير أنّ الوعدين لم يخرجا إلى حيز التنفيذ.

■ تقوم وزارة الثقافة مشكورة بشراء مئتي نسخة أو أكثر من بعض المطبوعات التي ينشرها بعض الكتاب على حسابهم الخاص، لكن المحزن ان يكون هناك انتقائية ليست على أسس مهنية، بل على أسس شخصية ومزاجية؛ ففي الفترة الأخيرة وبناء على معلومات موظف كبير في الوزارة، كان توجه عند معالي الوزيرة وعطوفة وكيل الوزارة المساعد على شراء مئتي نسخة من مجموعة قصص للأطفال، نشرت بألوان مفروزة وطباعة أنيقة وبطريقة مكلفة، وقبل التنفيذ وضعت لجنة في الوزارة “فيتو” على توجه الوزيرة والوكيل بحجة وجود “أولويات” عند “اللجنة الأدبية للوزارة”، وطبعا الوزارة “ديمقراطية” وتحترم رأي اللجان، وأجزم بأنّ اللجنة لم تطلع على المجموعة التي حكمت عليها.

وهذه المجموعة ليست ذات الأولية كتبت عنها حذام العربي: “في مجمل قصصه التصق الكاتب في المكان والزمان الفلسطيني، فدون أسماء بعينها، واستحضر اسماء نباتات في منطقة سكناه، وعرج على بعض الموروث التراثي، وبشكل خاص البدوي منه، ووظفه في قصصه، وجاء التوظيف منسجما مع السياق مجدولا بالمكان والزمان”. ومما كتبه عنها الناقد ابراهيم جوهر: “حملت القصص صورا فنية لغوية رشيقة، لتوقف الطفل على جمال اللغة وجمال الوطن”. ومما قاله المربي موسى ابو دويح: “القصص هادفة وذوات مغزى وتربوية نافعة للصغار والكبار”. وكتب آخرون في هذا السياق مشيدين بالمجموعة.

قد نجد العذر لميكانيكي السيارات، ولمُصَلِّح بابور الكاز -مع الاحترام لكليهما- في عدم اهتمامهما بالثقافة، أمّا مزاجية وأهواء لجان في وزارة الثقافة وفي مؤسسات ثقافية فلا مبرر لها؛ فمن المفترض أن يترفعوا عن هكذا أمور، وإن كانوا غير مؤهلين فبامكانهم الاستعانة بمؤهلين جديرين بالثقة، ويهمهم الارتقاء بالنتاج الأدبي والثقافي المحلي، أو أن الوزارة يجب أن تضع لجانا مؤهلة وقادرة على التمييز بين الغث والسمين. أمّا أن نضع التلفاز المعطوب عند “معمر بابور الكاز” لإصلاحه فهذا جهل ما بعده جهل، وهذا هو الفساد بعينه.

المحرر(ة): علاء حليحل

شارك(ي)

أرسل(ي) تعقيبًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>