وجه الضحية/ راجي بطحيش
|راجي بطحيش| “الجزيرة تبث بعد قليل صورًا لضحايا أ […]
وجه الضحية/ راجي بطحيش
قتيل ليبي
|راجي بطحيش|
“الجزيرة تبث بعد قليل صورًا لضحايا أعمال القتل ضد المتظاهرين”… تظهر صور الضحايا وهم يجمدون آخر تعبير كان يرتسم على وجوههم قبل الموت.. تعبير الألم.. تعبير الوجع الداخلي.. تعبير الهلع.. وأحيانا تعبير الرضا.. وهنالك أيضا تعبير الجسد المبتور بفعل استهداف السماء المفتوحة على احتمالات الإبادة غير المثيرة للشك.. أو التشكيك…
أتأمل في الوجوه المتجمدة ولنقل المتحجرة للضحايا. لا أشعر بشيء واضح. فصور ضحايا غزة وخاصة الأطفال كانت تثير فينا السخط والحزن والرغبة الفورية بالانتقام… وصور الضحايا في مصر أثارت فيّ مشاعر شبيهة ولكنني كنت أتخيل جملة طريفة أو حتى نكتة مصرية رددتها الضحية قبل إصابتها ووجعها وموتها، لأن الضحية المصرية (والتونسية إلى حد ما) كانت مألوفة لدينا ومؤنسنة، نعرف لهجتها وطرافتها ومشاكلها وخطابها وشكل وجهها بحساب ذهني بسيط يجمع وجوه كل ما يعرفه من مصريين ويقسمها على نظرته الإثنية وآرائه المسبقة. وكذلك مع العراقيين وكذلك مع الإيرانيين والألبان واللبنانيين. ولكن مع ليبيا يختلف الأمر؛ فنحن لم نعرف الشخص قبل أن يقتل ويلف بالأبيض أو الأخضر وتسلط الكاميرا الخلوية عدستها الضئيلة على الفرشة السوداء الذي يستلقي عليها من دون أمل. قد يكفيه أنه ربما لن يرى وجه الطاغية مرة أخرى، إذا نحن لم نعرف شيئا عن الأحياء قبل أن يتحولوا إلى أموات وليس هذا بعدل.
لقد مسح وجه القذافي القميء وملابسه الغريبه (التي أتمنى أن أحصل على بعضا منها عندما يغور) كل ملمح من ملامح ليبيا الحديثة حتى أن الكثيرين منا لا يعرفون تمييز اللهجة الليبية أو كيف تبدو مقارنة بلهجات الدول المجاورة لها (سوى من يدعون متماوتين أن العرب هم شيء واحد لا تعدد في صوره). لقد غيّب القذافي شعبه عن الواجهة طوال عقود حتى أصبح بلا وجه تماما. حتى أننا صدقنا كما يصدق الغرب عنا أن ليبيا هي مجموعة من الرجال بملابس غريبة وشعر منكوش وخيم وصحراء وجمال والكثير من الرمل ولا شيء آخر. حتى أنني لا أكاد أذكر أن الجزيرة أو القنوات الأخرى التي تنشر صور الموتى الليبين الآن، استضافت في الماضي ضمن نقاشاتها شخصية ليبية ليس بالضرورة للحديث عن الوضع الداخلي الليبي بل لأي موضوع في أي ندوة أو برنامج حواري أو حتى ترفيهي. لقد تم تغييب الليبيين من النظام أو اللانظام ولكن تم أيضا تغييبهم ومحو وجوهم عربيَا وأوروبيَا وعالميَا أيضا كجزء من التعامل مع ليبيا بصفتها عزبة القذافي وليس بصفتها دولة. لقد وقفنا جميعا في الأيام الأخيرة أمام وجوه الضحايا، ولكننا اكتشفنا فجأة أيضا أن هنالك أناسًا في ليبيا وليبيين خارجها، خبراء في السياسة، أساتذة جامعات، قضاة، ناشطات، صحفيين، محللين إقتصاديين محنكين، أشخاصًا جميلين، يتحدثون العربية الفصحى بطلاقة وبلكنة محلية محببة. لأول مرة أسلط فأرتي على جوجل إيرث في ليبيا لأكتشف أنها ليست كما حسبنا، لقد استغرق الأمر وقتا طويلا ووجوه ضحايا كثيرة تنتظر أن يُعترف بما كانت.
